الطغاة والنقد
مدحت بشاي
٢٨:
٠٥
م +02:00 EET
السبت ١٠ نوفمبر ٢٠١٨
كتب : مدحت بشاي
" من الحكمة أن نعترف بقوة الانفعالات والغرائز ، ولكن الشر كله في أن ندعها تتحكم فينا ، إذ هي ما نشارك فيه وحوش الغابة ، فالقدرة على إخضاعها للعقل هي التي ترفعنا إلى مصاف البشرية ، ونحن إذا أرخينا الزمام لهذه الغرائز الحيوانية ، عدنا من المدينة إلى الغابة ، أنظر كيف يضطهد هتلر اليهود ، وستالين يجتاج الطبقة الوسطى ، وموسوليني يروم تدريب الإيطاليين كلهم على الحرب من سن السابعة ، وقد تفكه المستر لويد جورج على حساب هذا المشروع الموسوليني فاقترح أن تُكتب الجملة الآتية على جدران المدارس الإيطالية " أيها الصغار ! ليقتل أحدكم الآخر " . .. "
جاءت تلك الفقرة في بحث هام للعلامة رامزي موير أستاذ التاريخ بجامعة مانشستر وأعده للنشر الأستاذ " محمد كمال أبوعلي " خريج أكسفورد على صفحات مجلة " مجلتي " لصاحبها و رئيس تحريرها أحمدالصاوي محمد بعددها الصادر في أول مايو سنة 1936.. أي منذ 81 سنة كانت تلك قراءة للوضع الأوربي ورؤى مفكريها عزيزي القارئ..
ويؤكد " رامزي " إنه لمن المفزع أن نرى الطغاة يخرسون كل ألسنة النقد ، بينما يطلقون قوى الصحافة والسينما والإذاعة اللاسلكية لإثارة الوحش الكامن فينا جميعاً ، وهذه الوسائل نفسها متبعة في ظل النظام الديمقراطي الحالي ( 1936 ) ، ففي الانتخابات العامة كم يلجأ المتنافسون إلى تحريك الشراهة والخوف والكراهية في نفوس الناخبين ، فيخفت صوت العقل بين الضجيج والجلبة ، إلا أن القياس معه فارق ، وهو أن النقد لا يسكت ، وإن عواصف المتنافسين يفني بعضها بعضاً ، فيجد صوت العقل من يسمعه .
و في خلاصة البحث يؤكد على :
1) العلاقة بين الحرية والسلطة وبين الفرد والدولة ـ الحركة العنيفة القائمة في وجه الحرية ـ هل أسرفنا في عبادة الحرية ؟ ـ هل نريد زعامة أقوى وأصرم ؟ ـ هل النظام الديموقراطي يمثل فكرة صحيحة عن الطريق القويم لتنظيم الجمعيات البشرية ؟ ـ البحث يعالج الموضوع على نحو مزدوج من علم النفس والفلسفة ؟ ـ رأي اللورد أكتون في الحرية : لب التاريخ البشري يتمثل في اطراد الحرية ـ التقدم المادي أثر للقوة الروحية المنبعثة عن الحرية ـ رأي أرسطو : الإنسان حيوان اجتماعي لا يمتاز على البهائم إلا إذا كان عضواً في مجتمع ـ القدرة على الكلام وسيلة التفكر العام ـ الفرد ينصب في قالب المجتمع الذي يعيش فيه ـ خضوع الفرد المطلق في المجتمعات الفطيرة ـ نماء الحرية الفردية دليل التقدم في المدينة ـ النزاع بين الحرية والسلطة ـ ظفر السلطة بالحرية في المدنيات القديمة ـ تبدد حيويتها ـ فناء تلك المدنيات. .
2) المدنية الأوروبية ـ إطلاقها حرية الفرد من أغلال الماضي ـ بسط سيطرتها على العالم ـ وحدة العالم الاقتصادية ـ استخدام قوى الطبيعة ـ التوفيق بين مقتضيات السلطة ومقتضيات الحرية ـ تبدل الغاية من وجود الحكومات ـ وظيفة الحكومة نشر السلام والعدل بين الرعايا ـ السلطة تقوم لصيانة الحرية ـ معنى الديموقراطية ـ الحرية تستند إلى القانون ـ الديموقراطية توفق بين السلطة والحرية ـ الحرب العظمى والأزمة الاقتصادية العالمية ـ الثورة على الحرية .
3) صور الحرية ـ حرية الذذات ـ محو الرق ـ حرية العقل : التفكير والعقيدة والخطابة والنشر والاجتماع ـ حرية الجهد ـ حرية التعامل بين الشعوب ـ نظام الحكم الحر ـ ترحيب الشعوب بحركة الثورة على الحرية ـ الحرية ونظام الحكم الديموقراطي ـ الدكتاتورية والحكومة البرلمانية ـ ترابط العناصر المكونة للحرية ـ هدم أي عنصر يستلزم هدم الآخر ـ خطر انهيار البناء الاجتماعي .
4) العسف والاستبداد في نصف ممالك أوروبا ـ الحجة خير وسيلة لعلاج الأفكار " الخطرة " ـ حكومة بريطانيا تخذذل الحرية ـ فكرة توجيه الحكومة لجهود الأفراد ـ فشلها في الروسيا ـ تهدم الحريات ـ القيود على حرة التبادل سبب الضيق في العالم ـ شقاء العمال ـ علاج الندرة بالكثرة ـ ضياع ثقة العالم بالحكم الحر ـ فشل عصبة الأمم ـ الدكتاتورية الحزبية ـ فشل النظام البرلماني الحالي استبداد البيروقراطية .
5) اتساع نطاق الثورة على الحرية ـ صراحة القائمين بالثورة ـ حكم العقل وحكم الغريزة ـ الطغاة ودجالو السياسة يستثيرون غرائز الجماهير ـ العودة من المدنية إلىالغابة ـ هتلر ـ ستالين ـ موسوليني ـ الدكتاتورية المستترة في بريطانيا ـ قناع الحزبية ـ مساوئ النظام الانتخابي الحالي .
6) رأي أرسطو : الرجال عبيد بالطبيعة ـ ذذوو القمصان يناهضون الحرية ـ الأفكار المطبوخة ـ الزعامة الدكتاتورية والزعامة الديموقراطية ـ وجوب تعديل النظام الانتخابي ـ زعامة الكفاية ـ لا سبيل إلى انفراج الضيق العالمي إلا الحرية ـ معنى الحرية أوسع وأشمل من النظام البرلماني ـ انخذال الحرية ـ يؤدي إلى انهيار المدنية .
لقد كادت تلاشى حرية الذات وحرية العقل في نصف ممالك أوروبا ، فأعيد الحبس العسفي والإعدام بلا محاكمة ، وخنقت حرية التفكير والعقيدة والخطابة والنشر والاجتماع ، وحتى في بلادنا قد رأينا المستر توم مان يُحبس حبساً وقائياً لئلا يقول شيئاً مكدراً ، لقد نبذنا تعاليم آبائنا وصدفنا عن طريقهم إذذ قرروا أن خير وسيلة لعلاج الأفكار " الخطرة " أن تُقتل بحثاً وتُدمغ بالحجة ، لأنها إذا سرت في الخفاء ، نشأت عنها غازات مفرقعة ، وقد رأينا حكومة بريطانية تبيح للبوليس بأوامر مكتوبة سلطة تفتيش المنازل لضبط المنشورات التي قد تثبط عزيمة الجنود عن القتال ، مع أن آباءنا رأوا في مثل تلك الإجراءات انتهاكاً لحرمة الحرية فألغوها منذذذ أكثر من مائة وستين عاماً .
ثم إن حق الأفراد في حرية الجهر قد غدا أمراً منكراً يجب القضاء عليه ، لا الاكتفاء بتنظيمه ، فأصبحت الحكومة هي صاحبة الشأن في توجيه جهود الأفراد وتحديد أعمالهم ، والروسيا هي أوضح مثل على نتيجة الافتيات على ذلك الحق ، ألم تكن من أكبر موارد القمح في الدنيا ، فإذا هي الآن لا تسد حاجة سكانها ؟ والحال في روسيا مثله في ألمانيا وإيطاليا وأمريكا وها قد راق لأكبر حزبين سياسيين في بلادنا .
كما أن حرية التعامل بين الشعوب قد كادت تتوارى بما تحدثه حكومات الدنيا جميعاً من تقييد حركة التنقل والهجرة ، وخنق التجارة الدولية بقيود التعاريف الجمركية وما إليها ، فكانت النتيجة أن يشكو العالم كله من ضيق لم يسبق له مثيل في وسط إنتاج لم يسبق له مثيل ، وأن عشرات الملايين من العمال يرسفون في ذذل العطل وشقائه ، ويلاقون ألواناً من العذاب والضنك ، ما كان أغناهم عنها لو رفعت القيود عن حرية التبادل ، وعولجت الندرة في أي بلد بما فيه من كثرة .
وقد ضاعت ثقة العالم بالحكم الحر ، وحلت مظاهر البطش محل وسائل التفاهم ، وضاع الإيمان بعصبة الأمم ، والأمل في كفايتها ، وظهر نوع جديد من الاستبداد ، يستند في بسط طغيانه إلى الحزبية المنظمة ، ويُقمع بالإرهاب والعنف كل رأي معارض ، ويفرض سلطته فرضاً على الأهلين الوادعين ، فهذا الضرب من الاستبداد ـ هذا الطغيان الحزبي ـ يقوم الآن مقام الحكم الديموقراطي .
صفوة القول أن إطراد الحرية الفردية كان أس التقدم منذ بداية المدنية ، وأن مفاخر المدنية الغربية في أربعة القرون الأخيرة ترجع إلى امتداد الحرية واتساع جوانبها ، فالحرية هي التي خلقت أساليب تلك المدنية ومبادئها وأفكارها ، وبعثت فيها الرقي والحياة والروح التي سيطرت بها على العالم ، وهي التي أملت طريقة الحكم النيابي ، فحددت ما بينها وبين السلطة تحديداً قصرت دونه مدنيات الماضي ، والآن إذ ضاقت بها السبل ، فالعالم في ضيق وخطر والمدنية الباهرة التي سقاها آباؤنا بدمائهم وعصارة أذهانهم قد أوشكت على التلف ، فإذا أريد إنقاذذها فلا سبيل إلا هذه الحرية التي هجرناها .
معنى الحرية أوسع وأشمل من ذلك النظام البرلماني الأبتر ـ ذلك الستار الذي تتحكم من خلفه الديكتاتورية الحزبية ، فعلينا أن نحمي حرية الذات وحرية العقل من كل تهجم مهما كان صائباً ، وعلينا أن نصون حرية الجهد ونستأصل عيوبها ، وعلينا أن نعيد حرية التعامل ونبسط مداها ، ثم علينا أن نقيم حرية الحكم على أسس قومية ودولية سليمة ، فإذا استطعنا كل ذلك ، خطت الإنسانية خطوات أبهر وأعجب ، أما إذا لم نستطع فستهوى مدنيتنا كما هوى غيرها من قبل .