الأقباط متحدون - عِقابُ المرايا
  • ١٨:٠٥
  • الاثنين , ١ اكتوبر ٢٠١٨
English version

عِقابُ المرايا

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٠٨: ٠٧ ص +02:00 EET

الاثنين ١ اكتوبر ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

لماذا كان وجهى فى المرآة يبدو جميلاً، إذا ما منحتُ قروشى للفقيرة العجوز، التى تجلس جوار باب مدرستى، وبالعكس؛ أرى وجهى دميمًا إذا ما يومًا تملّكتنى الأنانيةُ وحرمتُها حقَّها فى «مصروفي»؟.. تلك كانت حكاية مقالى السابق: «بوابة عمّ وليم»، ووعدتكم بأن أطرح التفسير العلميّ، لما سميتُه: عِقابُ المرايا.

أثبت العلمُ مؤخرًا أن الإنسان يشعر بالسعادة إذا نشطتْ فى جسده هرموناتٌ أربعةٌ معيّنةٌ، بنسب محدّدة. الهرمون الثالث منها هو سيروتونين Serotonin. ينشط ويُفرز فقط حين نساعد الغيرَ ممَن يحتاجون إلى المساعدة. وأما الهرمونُ الرابع، فهو أوكسيتوسين Oxytocin، ويُفرز حين نتقارب جسديًا من إنسان آخر، باللمس والقُبَل والعناق، أو حتى بمجرد التماسّ الطفيف فى المصافحة أو التربيتِ الرفيق على ظهر طفلة خائفة، أو رضيع باكٍ حتى ينام. ولهذا نشعرُ بالسعادة حين نساعدُ مأزومًا أو نُطعمُ جائعًا أو نضمّدُ جريحًا. وتنعكس تلك السعادةُ على التحليل البصرى للمرئيات؛ فنرى الأشياءَ أجملَ من حقيقتها. وبالتالى نرى وجوهَنا أجملَ على صفحة المرآة، كلما صنعنا شيئًا جميلا، والعكس صحيح. وهذا ما أطلقتُ عليه فى قصائدى: عقابُ المرايا.

ولكن هناك سببًا علميًّا آخرَ؛ يُفسّر تلك اللعبة التى تلعبُها معى مرآةُ غرفتى منذ طفولتى، وحتى اليوم، وإلى نهاية العمر. ثمّة مذهبٌ سيكولوجيّ، اسمُه «Mind over Matter». وهو قدرةُ «العقل» البشرى على التحكّم فى المادة. حيث الأشياءُ الجامدةُ تُصبح تحت سيطرة العقل، بعد إخضاعها لعمليات معقدة من التركيز الشديد. أجرى قسمُ علم النفس بجامعة أوتاوا تجاربَ لدراسة تلك الظاهرة، وتوصّلوا إلى نتائج طريفة، مثل القدرة على إخضاع حجر النِّرد وإجباره على السقوط على وجه معين، من وجوهه الستّة، حددوه سلفًا. يُطلب من المشاركين التركيز على رقم ما (من ١- ٦) وكتابته فى ورقة قبل رمى النّرد. وبعد عدة محاولات مع التركيز، نجح البعضُ فى المهمّة، بعيدًا عن نسبة المصادفة، وقانون الاحتمالات. وقال بروفيسور فرانسيس باو، المشرف على التجارب: كلما زاد إيمانُ المرء بالفوز، حقق نسبةَ نجاح أعلى.

وكثيرة هى الحكايا التى قرأناها حول أُناس يحرّكون الأكوابَ والصحونَ بعيونهم بمجرد التحديق فيها والتركيز فى خلاياها، ثم أمرها أن تتحرك. فتتحرك. شهدتُ فى طفولتى أمرًا كهذا. حين كان أبى وأمى يختلفان حول قضية، يجلسان متواجهيْن وبينهما ورقةٌ فوقها قلم. يقومُ أبى بالتركيز الذهنى، فيتحرك سنُّ القلم ليشير ناحية الشخص المخطئ. كنت أظنهما يلعبان. أبى كان ميتافيزيقيًّا يقرأ كثيرًا فى الماورائيات، رغم حفظه القرآنَ كاملا، بينما امتلكت أمى عقلا عمليًّا علميًّا جدليًّا. ومن ثمّ كان لقاؤهما لونًا من الكوميديا الكونية.

ولم يقل العلمُ كلمتَه النهائية حول الأمر. وأظنُّه لن يفعل حتى يظلَّ الغامضُ غامضًا ومُثيرا. للآن، يفترضُ العلمُ أن تفاعلا كهربائيًّا يتم فى خلايا الدماغ، فى حالات التركيز الذهنى العميق، فيخلق مجالا مغناطيسيًّا قادرًا على التأثير فى إلكترونات المادة موضوع التركيز. ومن ثم يُبدّل فيها. بل إن نظرية تذهب إلى أن ظاهرة الحسد تتم على هذا النحو. حيث شعاعٌ كهرو- مغناطيسيّ يخرج من عين الحاسد نحو المحسود؛ فيجعله يزلُّ أو يُجرح. أو يموت!!

وفى الحقل الفلسفيّ، والإبداعى، يتقاطع هذا الأمر مع رواية الخيميائى للبرازيليّ باولو كويللو حين حدثنا على لسان سانتياجو قائلا: «إذا آمن الإنسانُ بحُلم ما إيمانًا عميقًا، تآمر الكونُ كلُّه من أجل تحقيقه». وقبله قال الشاعر الأمريكى رالف أميرسون: إنَّ العالمَ يفسحُ الطريقَ لمن يعرفُ إلى أين هو ذاهب. والفكرةُ هى أن الموجوداتِ تستجيبُ لقوى العقل، فتنفِّذُ أوامرَه، وتُثيبُه إن أصاب، وتعاقبه إن أخطأ.

اِشْتُقّ من مذهب «العقلُ فوق المادة» Mind over Matter مذهبٌ آخر هو: العقل فوق العقل أو Mind over Mind. وفيه يلاعبُ العقلُ نفسَه بنفسِه، فى لُعبة كرٍّ وفرٍّ وخداعٍ وإيهام، حتى تسيطرَ مزاياه على عيوبه، والهدفُ الأخير هو تقوية قواه الإيجابية أو إخماد قواه السلبية. والمحصلةُ فى النهاية دائمًا تصبُّ فى خانة صالح الإنسان، وبالتالى صالح البشرية. ولهذا حديثٌ آخر.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع