كتب : نبيل المقدس
منذ شهور قريبة كنت أقف علي شباك البنك لكي أسحب معاشي . تلفتُ بالصدفة إلي الشباك الذي بجانبي , وإنتفض جسدي فجأة , لكي أري سيدة تبو وكأنها في الأربعينات . وإذ أصرخ واقول معقولة يا نبيلة أشوفك بعد 55 سنة من بعد تخرجنا .. طبعا إنزعجت مني من المفاجأة , حتي أن رجال الأمن حضروا , ونهروني بشدة .. ولولا معرفتهم بي ربما كانوا تعاملوا معي مثل هذا السكير في الأفلام الأبيض والأسود والذي يسبب قلق و دوشة في الصالة ثم يأتي زبانية الكازينو لكي يلقوه خارج البار. كانت السيدة في منتهي الذوق .. ثم بادرت وقالت لك حق .. هو سيادتك من أسيوط .. تأسفت لها طبعا وقلت لها نعم .. ثم أكملت حديثها .. وأكيد خريج هندسة أسيوط جاوبت بنعم متعجبا .. وقبل أن تكمل حديثها قاطعتها وسيادتك عرفتي إزاي .. ضحكت ضحكة نبيلة حتي أنني قلت في نفسي حتي الضحكة ضحكتها .. وإذ تقول لي فعلا يا أنكل أنا إبنة مدام نبيلة التي كانت زميلة لك في الكلية . وإذ أجد نفسي أحضنها وأقول لها "ياه الدنيا صغيرة جدا " .. ثم قالت لي الدنيا مش ًصغيرة وبس يا أنكل دي أصبحت تٌقاس "بالفونتو" .. ضحكت وقلت "لها إزاي" , اخذتني خارج البنك وهي تقول " بص ناحية العربية إللي علي الرصيف الثاني " وجهت نظري نحو السيارة ولم أنتظر حتي تمر سيارة الأجرة التي كانت تسير في نهر الطريق , وعبرت بسرعة حسب قدرتي الصحية والعمرية - وجدتها فتحت باب سيارة إبنتها وفهمت من حالتها أنها لا تسطيع أن تقف علي رجليها .. " فعلا لم تتغير نبيلة .. الجسم الذي يميل إلي النحافة والمتناسق .. قلت لها "معقولة يا نبيلة ألتقي بيكي " بعد العمر الطويل ده " ثم أخذت يداها وقبلتهما ولاحظت أن الدم يكاد يخرج من عروق ظهر يداها .. ثم همست بالقرب من أذني وقالت " طول عمرك شيك في التعامل مع الجنس الآخر ... ضحكت جدا .. ثم أكملت همساتها وقالت لي " البقية في حياتك من أجل زوجتك .. فقد كانت زميلة قريبة مني , ولا تعرف شيء غير الأصول .. أنا حزنت عليها جدا وحاولت أن أقابلك لكي أعزي لكن وجودي في الكويت مع ابني كان حائلا أن أراك فقد سمعت الخبر من زميلتنا نادية .. أكيد مش فاكرها عشان كانت في القسم المدني .. هي تركت مصر إلي كندا عند إبنها مباشرة بعد ما وصلت إلي المعاش " .. قلت لها " المهم العمر ليكي ". وقبل أن أتركها وجهت سؤالي إلي ابنتها : " انتي عرفتي إزاي ياعفريتة اني من أسيوط ومن جامعتها " .. ضحكت نبيلة وقالت : " بصراحة أنا شوفتك داخل البنك وقلتلنفسي هذا الشخص أعرفه وفي لحظة إفتكرتك وأبلغت إبنتي أنك كنت زميلا لي في الكلية ومن الزملاء الأقرباء . ضحكتُ وضحكت هي وإبنتها , وبان عليها نفس الخجل الذي كانت تبدوه أيام زمان .
أعطتني ميعاد لكي أزورها في بيتها في إ حدي أحياء القاهرة المتطرفة .. وفعلا ذهبت إليها وتسامرنا "وحكينا الكثير عن المواقف المضحكة التي كانت تحدث في الكلية , وخصوصا مع تلك المجموعة " شلة [نيو] New " علي أساس كانت تضم الحروف الأولي لأسماء السكاشن الأخيرة وهم النون والياء والواو " و التي كنا ننتمي إليها .. كانت ابنتها وزوجها يتحسران علي تلك الأيام ويقولان "ياريت نتذوق مثل السنوات دي ". وتعلق نبيلة بصوت هاديء وبشدة التعب واضح علي جسدها الضعيف : " تمنيت أن أحيا الزمن الجميل ولو لحظة , وها أنا أعيشها الآن " .. قلت لهم : فعلا كل شعب مصر يتمني ذلك , بالرغم أنه كان في هذا الوقت الكل يأكل نفس نوع الطعام يوميا .. لكن كانت ثقافته وأخلاقياته الجميلة ورقي فنه تتغلب بإستمرار علي مشاكله السياسية والإقتصادية .
أخذت جلستي وقضيت وقت جميل معهم ونزلت من عندهم شاب في اوائل العشرينات , عبرت الشارع بخفة " هذا ما كنت اتصوره " وشاورت لتاكسي وبحركات الشباب فتحت باب التاكسي وبروح الشباب جلست بجانب السائق " هذا ما كنت أشعر به.. لكن بمجرد جلوسي في التاكسي سمعت القرآن صادر من كاست السيارة .. فرجعت إلي حالتي الطبيعية الشخص الضعيف الذي أدخل رجليه بالعافية داخل السيارة.
بعد اسبوع إتصلت بي أبنتها أن نبيلة والدتها إجتازت أيام صعبة فهي تعاني من ضيق في التنفس , وأبلغتها أنني سوف أعدي عليهم بعد يومين .وفعلا بعد يومين إتصلت بنبيلة لتأكيد الميعاد .. لكن كان الخط مقفول .. إتصلت بإبنتها وجدته مشغول علي طول , لكنني عاودت المحاولة مرة أخري وإذ أسمع صوت أبنتها لتقول لي وهي تبكي بشدة .. "ماما نبيلة إنتقلت يا أنكل بالليل " وعرفت منها ميعاد الجناز . جلست والدموع تنهمر وقلت لنفسي لا تزعل فهي تنعم الأن بزمن الأبدي الجميل .
فعلا معي بعض أرقام موبيلات زملاء الكلية .. لكنني أخاف أتصل بأحد لأجد الموبايل مقفول . حقيقة أتي الخريف منذ فترة علي دفعتي وبدأ أوراقها تتساقط تلو الآخر ولا نعرف من هم الذين يسقطون .
ذهبت الباشمهندسة نبيلة إلي السما .. وكأنها صممت أن تنتظر أحد زملاء الكلية لكي تعيد معه أجمل أيامها .. أيام الزمن الجميل .