الأقباط متحدون - بوابة عمّ «وليم»
  • ١٩:٢٧
  • الخميس , ٢٧ سبتمبر ٢٠١٨
English version

بوابة عمّ «وليم»

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٥٣: ٠٧ ص +02:00 EET

الخميس ٢٧ سبتمبر ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

وأنا طفلةٌ فى المرحلة الابتدائية كان لمَدرستى بوابتان. واحدةٌ على الشارع الرئيسى مُخصّصةٌ لدخول ميس لولو، عميدة المدرسة والمدرسين والشخصيات البارزة من الوزارة، وزيارات أولياء الأمور. حارسها اسمه عمّ وليم، رجلٌ طويل نحيلٌ قوى الشخصية، قليل الابتسام. وأما البوابةُ الأخرى فكانت فى الشارع الجانبى وحارسها عم محمد. وهى البوابة التى يدخل منها التلاميذُ مع المُشرفين أو الوالدين، والقائمين على نظام المدرسة. وكانت باصات المدرسة تقف أمام هذه البوابة، وعلى مقربة منها، تجلسُ امرأةٌ عجوز فقيرة، تتلمّس رزقَها من إحسان المارّة. مصروفى وقتذاك، فى أولى سنوات حياتى، كان لا يتجاوز القروشَ الخمسة، اعتدتُ أن أقسمها إلى: (قرشين لى، وثلاثة للأم العجوز). ولماذا نصيبُها أكبرُ من نصيبى؟ لأن عقلى الطفلَ وقتها كان يتصوّر أن الأكبر عُمرًا يتناول طعامًا أكثرَ من الأصغر.

وأما القرشان اللذان يتبقيان لى: فواحدٌ أشترى به لِبان إيكا، والآخر كيس تشيبس أو قطع كاندى (كلّ الممنوعات عن البيت). فى بعض الأيام كنتُ لا أعطى المرأةَ حقَّها فى مصروفى طمعًا فى حلوى أكثر، ويكون ذلك دائمًا فى يوم صدور مجلة ميكى من كل أسبوع. تلك كانت أتعسَ أيام حياتى وأشقاها. أولا، لابد أن أهبط من الباص بحذر، وأدور من ورائه لأتخفى وراء طابور الباصات بعيدًا عن عيون المدرسين والمشرفين، (حتى لا تلمحنى السائلةُ العجوز). ثم أنحرف يمينًا حتى أصل إلى بوابة عم وليم. ثم أحاول التسلّل للداخل دون أن يرانى. يرانى بالطبع، فيكفهرّ وجهه ويتطاير الشررُ من عينيه، قائلا: تاااانى؟ مش قلنا ألف مرة دخول التلاميذ الحلوين من الباب التانى؟! فأرد عليه بخجل: معلش بقا يا عم وليم. من فضلك بقا خلينى أدخل الطابور!، فيبتسم ويقول: طيب اتفضلى ادخلى. بس آخر مرة، (يقول الأخيرة بحسم وحزم وتنبيه بإصبع السبابة). وبالطبع لا تكون الأخيرة؛ لأن المرّات التى أبخل فيها بقروشى عن السائلة العجوز، للأسف، لا تتوقف.

أقفُ فى الطابور ثم أدخلُ الفصلَ، وأنا حزينة مكسورة القلب، يكادُ تأنيب الضمير يفتكُ بى. ذهنى مشتّتٌ أكادُ لا أسمع كلمةً من شرح المُعلّمات. أخرج إلى الفُسحة وأشترى لبانًا بلا طعم، وحلوى مُرةً مذاقُها حنظل، ولا أشارك الرفاق لعبة الأولى أو هايد اند سيك أو الثعلب فات. أعود إلى البيت صامتةً، بعد انتهاء اليوم الدراسى، ثم أركضُ إلى غرفتى وأغلق الباب. أنظر إلى وجهى فى مرآة التسريحة ذات اللون السماوى، فأجد وجهى مقيتًا مثل وجه العفاريت، ينكسر قلبى وأندسُّ تحت لحافى وأغرق فى النوم الحزين، حتى توقظنى أمى أو المربية قسرًا لأتناول الغداء دون شهية. فى صباح اليوم التالى، أركض رأسًا إلى الأم العجوز حتى أمنحها القروشَ الخمسة كلَّها، حارمةً نفسى من إيكا، وقطع الحلوى، وأعود إلى مرآتى عصرًا، فأشاهد على صفحتها أجمل وجه فى الدنيا، يكادُ من إشراقه يضىء.

استقرّ فى وعيى وقتذاك أن المرايا تثيبُ وتُعاقب. وكان الأمر بالنسبة لى مُلغِزًا مُحيّرًا. كيف عرفت مرآةُ غرفتى أننى اليومَ كنتُ بنتًا طيبة: منحتُ الفقيرة قروشًا من أموالى، وأطعتُ المعلمات، وقدّمتُ الواجبَ المدرسى، وحافظتُ على كراساتى، ولم أتشاجر من رفاقى، وأكلتُ جميع الساندوتشات التى صنعتها أمى فى الصباح، ولم ألوّث يدى بالحبر وجيوبى بالطباشير …..، كيف عرفت المرآة كلَّ ذلك فجعلت وجهى على صفحتها جميلا؟ وفى يوم آخر، كيف عرفت أننى كنت أنانية ولم أعط الفقيرة حقَّها فى ثروتى، فترسم لى وجهًا قبيحًا على صفحتها؟ وآمنتُ بأن تلك المرآة سحرية ترى كل ما أفعل فى يومى، وترسم لى وجهًا وفق أفعالى الطيبة أو الشريرة. وظللتُ طوال طفولتى أخاف من عقاب المرايا، ولم ينته ذلك الخوفُ حينما كبرتُ ونضجتُ وأدركت أن المرايا لا ترى، ولكن عقابها حقٌّ وله تفسير علمى. وكتبتُ قصيدةً: عقاب المرايا صدرت عام ٢٠٠٠ فى أحد كتبى المبكّرة. ومازلتُ أراقبُ سلوكى وأفحصُ قلبى طوال اليوم، وأنا أعمل ألف حساب لمرايا بيتى. المرة القادمة سأحكى لكم التفسير العلمى لظاهرة عقاب المرايا وثوابها.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع