سحر الجعّارة
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الاثنين ١٧ سبتمبر ٢٠١٨
هل يجتمعُ القلقُ مع الاطمئنان؟ هل بوسع الخوف أن يقترنَ بشعور غامض بالأمان؟ كيف تجتمعُ الأضدّادُ ويقترنُ ما لا يقترن؟ الإجابة فى فلسفتى الخاصة: نعم يجتمعان ويقترنان. عكس ما نعرفه فى شأن الفلسفة بما يُعرفُ بـ: «الثالثُ المرفوع». فثمّة ما يُسمى «القلق النبيل». وهى حالٌ من القلق الشريف نعيشها حين نخشى من وقوع خطر ما، مع إيماننا بأن ذلك الخطرَ، إن وقع، هو خطرٌ متحضّرٌ وشريف، وليس خطرًا رخيصًا مؤذيًا. فالجندى الذى يموتُ على تراب الوطن ذودًا عن شرفه، تعيشُ أسرتُه لونًا من الحزن المقترن بالفرح. حَزَنٌ نبيلٌ مقرونٌ بفخر وعِزّة لا نعرفها فى أحوال الموت المعتادة. تلك مقدمةٌ لرسالتى لصديقتى ورفيقة درب التنوير «سحر الجعّارة»، الكاتبة الجميلة.
مبروك على البراءة المستحقّة. براءةُ الثوب الأبيض من دنس الجهالة والفقر الروحى والمرض الفكرى. دامَ ثوبُك أبيضَ ناصعًا ودام عقلُك نيّرًا ألِقًا يُهذِّبُ الجهالةَ ويحاربُ الظلم. شهورًا طوالاً عشتِها أيتها الجسورُ، وعاشتها أسرتُك الطيبة، وعشناها معك، نحن أصدقاءك، فى حال عميقة من «القلق النبيل». فكما أن البراءةَ شرفٌ وفرحٌ، فإن السَّجنَ والسِّجنَ مقابل كلمة الحقّ، شرفٌ أيضًا وفرحٌ. فأنت يا جميلةَ القلم، صُنوُ الشرف والفرح فى الحالتين.
مررتُ بما مررتِ به ولكن على نحوٍ مكثَّف ومرير، محرومةً من بيتى ومن وطنى ومن دفء عيون أطفالى. شهورًا طوالا عشتُها فى دولة الإمارات الطيبة، لا أعلمُ إن كنتُ سأرى وجهَ وطنى مصرَ مرّةً أخرى، أم سألمحُ ظلالَ أشجارِها من وراء قضبان سجونها. وتعلمتُ فى شهور غُربتى أن هناك إلهًا طيبا وعادلا، لا يُخشَى معه شىء. ذاك أنه لا يسمحُ إلا بما هو جميلٌ وحانٍ وطيب وعادل، مهما اختلف منظورُنا المحدودُ عن منظوره الكونى الشاسع. ففيمَ القلقُ ومِمَّ الخوفُ وذلك الإلهُ الحكيم هناك يبصر؟! تعلمت من وحدتى فى الغربة ومن خوفى ومن مرارتى، أن هناك ما يُسمى: «القلق النبيل». يدثّرنا هذا النوع من القلق حين نكون على الحقِّ لا نرومُ إلا الحقَّ والعدل، ومن وراءنا الأشرارُ المسلحون يطاردوننا بسيوفهم ونحن عُزّلٌ لا نملكُ إلا سنونَ أقلامِنا النظيفة، ومآقى عيونِنا الطيبة التى ترفض القبحَ وتطارُد الجمال والصدق. ذاك هو القلقُ الذى يشبه الطمأنينة والخوفُ الذى يشبه الأمان. فكان اطمئنانى وثقتى بأن قامتكِ ستظل مشدودةً وهامتكِ ستظل مرفوعة وأن قلمك الرفيع النبيل سيظل رفيعًا ونبيلا.
دام قلمُك رفيعًا وسالمًا لتذودى به عن جوهرة الحق والخير والجمال. وأُهديكِ قصيدة «سجن» التى كتبتُها فى محنتى لأقول للسجّانين أن يبنوا بأحجار سجوننا بيوتًا للفقراء والعرايا.
«إنَّهم/ يكرهونَ الشَّدوَ/ يا حبيبى!/ لهذا يُصوِّبون نِبالَهم/ نحوَ جَناحىّ العَزلاوين/ حتى تُسقِطَ حَصواتُهم/ ريشةً وحُلُمًا/ فلا أطيرُ إلى حيثُ صوتُك/ يُغنّى فوق الشَّجر: تعالى يا حبيبتى!/ سهِروا ليالىَ/ إثرَ ليالٍ/ يجدلونَ قضبانَ الحديدِ/ وتَرساناتِ رصاصٍ/ ويفرشون الأرضَ الحزينةَ/ بالخرسانةِ المسلحة/ حتى يصنعوا سِجنًا مُحكمًا/ يليقُ بجموحِ أفكارى/ التى تطيرُ/ رغمًا عنهم/ ورغمًا عنى/ فيما وراء الحُجُبِ/ نحو السمواتِِ العُلا/ ألمْ يُخبرهم العارفونَ/ أن خيطًا نحيلاً من الحريرِ/ كان يكفى ليربِِطَ مِعصمِى/ ويكسِرَ جَناحى؟!/ ألم يُخبرْهُم ذوو المعرفة/ أن حَصوةً ضئيلةً/ من أقواسِهم/ تشُقُّ طريقَها/ نحو قلبى/ كانت تفِى/ بما عقدوا عليه عزمَهم؟!/ ألم يُخبرهُم العرّافونَ/ أن العصافيرَ/ لا تحتاجُ أكثرَ/ من عودِ قشٍّ نحيلٍ/ لنَحرِِ أعناقِها؟!/ لو كانوا يعلمون/ لوفَّروا أطنانَ الحديدِ/ وشكائرَ الأسمنتْ/ من أجلِ الفقراءِ/ يبنون لهم منازلَ/ وأكواخًا/ تحمى أجسادَ العرايا/ من ويلاتِ الصقيع/ لكنَّهم يا حبيبى/ يكرهونَ الموسيقى/ لهذا أغضبَهم همسى إليك/ أدركنى/ هاتِِ قِيثارتَك/ وغنِّ لى/ أغنيةَ الفرح/ أيها السجّانون الغِلاظُ/ وفِّروا زنازينَ العتمة/ لسافكى الدمِ/ وقاتلى الأحلامْ/ وخلّوا عنّا كلبشاتِ الفولاذِ التى/ أولى بها/ لصوصُ العقولِ/ وسارقو الأوطانْ/ لا تُشْهِروا أمامَ وجوهى سيوفَكم/ فلا حاجةَ لى بها حتى أُنحَر/ أنا تقتلُنى كلمةٌ/ تخرجُ من فمٍ عبوسْ/ لا يحِبُّ النغَم/ أمهِلونى برهةً/ حتى ينتهى شهرُ الربيعْ/ وعهدًا:/ سآتى إليكمْ/ طائعةً/ عاصِبةً العينين بورقةِ شجرٍ/ رابطةً مِعصمىّ بسَعفةِ نخيلٍ خضراءَ/ حاملةً فوق ظهرى مِخلاةً/ تحملُ أفكارى التى/ ستطيرُ من ثقوبِ الجدران الخرسانية/ إلى حيث لا تطالُها أياديكم/ ثُمَّ لا تسألوا عن قلبى/ فقد أودعتُه قبل مجيئى/ فى كفِّ حبيبى/ حتى يجعلَه ريشةً/ يعزفُ بها/ على قيثارتِه».
نقلا عن المصري اليوم