الأقباط متحدون - الطريق إلى العمّ نجيب
  • ٠٧:٢٨
  • الاثنين , ١٠ سبتمبر ٢٠١٨
English version

الطريق إلى العمّ نجيب

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٩: ٠٨ ص +02:00 EET

الاثنين ١٠ سبتمبر ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

ثلاثون عامًا تفصلُ بين لقائى الأول بعمّ نجيب، ولقائى الأخير به. الأخيرُ كان فى فندق «شبرد» المطلّ على نيل مصر، قبل طيرانه إلى السماء بشهور قليلة. حيث قاعةٌ ضوؤها خافتٌ لا يجرحُ شبكيةَ عين رجل جاوز التسعين، بينما فرادةُ عقله قد أثبتت أنها تحيا خارج الزمن.

تحدَّثَ معنا بمحبة كعادته مع مريديه وحوارييه حول شؤون الأدب والسياسة. وانتبهتُ فجأة أننى لا أحوزُ أيَّ توقيع بخط الأستاذ على أيّة رواية من رواياته فى مكتبتى. تركتُ الصالونَ وركضتُ على سُلَّم بهو الفندق نزولا، ثم دخلتُ فندق سميراميس المواجه، وصعدتُ إلى الطابق الأول حيث المكتبة التى تضمُّ أعمالَ الكاتب الكبير.

لم أتحيّر كثيرًا فى الاختيار، وامتدّت أصابعى رأسًا إلى «الطريق»، و«الشحّاذ»، الروايتين الأقرب إلى قلبى. حيث «البحثُ عن الذات ومطاردة الحُلم”. «البحث» فى ذاته هو الهدف؛ وليس الوصول إلى الضالة. كلُّنا ينتظرُ شيئًا ما، والبحثُ هو القيمة. ولو تحقق ما ننتظر انتفى سببُ وجودنا. عدتُ ركضًا وكان الأستاذُ ينتظرنى بقلمه لكى يوقّع على الرواية.

كتابة اسمه فقط استغرقت، خمس دقائق كاملة بسبب الطعنة الخائنة التى أنهكت أوتار عنقه وذراعه. أشفقتُ عليه فسحبتُ الرواية من تحت قلمه، فتشبّث بها ونظر إليّ بعين العتاب قائلا: «إياكِ أن توقّعى، دون تأريخ!» فتركته يُكمل الإهداء كاتبًا: «٢ أبريل ٢٠٠٦». وكان ذلك هو الدرسُ الذى تعلّمتُه من العمّ وأُطبّقه كلمّا وقعتُ كتابًا من كتبى لقارئ. دسستُ الرواية، التى غدت ثروةً قيّمة، فى حقيبتى ثم أخذنى الصمتُ الطويل. أستمع له وأستمتعُ بخفة ظلّه وقفشاته السياسية وإلماحاته الذكية التى تشير إلى نصاعة وعى لم يستطع أن ينال منه تراكمُ العقود وغزارةُ العمل.

أما لقائى الأول به فكان فى كازينو «قصر النيل». النيل أيضًا؟! تُرى ما الرابطُ بين النيل ومحفوظ، وبينى؟ كان عمرى وقتها حول السنوات التسع. وهذا الرقم سوف يظهر فى قصيدتى الوحيدة التى كتبتها فى نجيب محفوظ بعنوان: «الطريق»، وأهديتها إلى نجيب محفوظ، وقرأتُها عليه عام ٢٠٠٣ فى فيلا د. يحيى الرخاوى بالمقطم، وأشاد بها رغم ما بها من هجوم عنيف عليه. كنتُ فى التاسعة حين اصطحبتنى أمى للكازينو لتناول «الكاساتا» المثلّجة.

أشارت أمى إلى مجموعة من الرجال يتحلّقون حول إحدى الطاولات القريبة وقالت: هذا نجيب محفوظ، الكاتب الكبير. شببتُ على أطراف أصابعى لكى أراه ورحتُ أتأمل تلك «الحَسَنَة» الكبيرة جوار أنفه، أو «الزبيبة». وراح عقلى الطفلُ يحاولُ الربط بين الحسنة الكبيرة وبين الكاتب الكبير. كان ذلك قبل سنوات من حصوله على نوبل. لكنه كاتبٌ كبيرٌ قبل نوبل بدليل أن أمى قالت ذلك.

أدفسُ وجهى فى كأس الكاساتا بالفراولة والفانيليا، وأشبُّ بين الحين والآخر على قدميّ كى أُحدّق فى الكاتب الكبير. هل يختبئ الإبداعُ الكبيرُ داخل تلك الزبيبة الكبيرة؟ أعودُ إلى البيت وأتفحَّصُ وجهى فى مرآة غرفتى، فلا أجد زبيبة. أُطرقُ أسفًا لأن هذا يعنى أننى لن أكون كاتبة كبيرة أبدًا!

أما قصيدتى إليه، فتحملُ العتابَ المُرًّ الذى ملأ قلبى حينما بحثتُ فى رواياته عن جدتى الجميلة الأنيقة الحُرّة، فلم أجدها. وجدتُ «زبيدة» التى تبيعُ جسدَها للرجال مقابل المال، ووجدتُ «أمينة» الفاضلة، ربما رغم أنفها؛ ذاك أنها لا تمتلكُ «الحرية» التى بها نحكمُ على فضيلة إنسان، أو عهره. ليس بوسعنا أن نحكمَ على فضيلة إنسان، إلا إذا كان حُرًّا مالكًا زمامَ أمره فاختار الفضيلةَ، بينما بوسعه ارتكاب الرذيلة. و«أمينة» لم تكن حرّةً حتى نُقرَّ لها بالفضيلة. لكن جدتى كانت حُرّة وفاضلةً باختيارها. وذاك هو النموذج الذى لم أجده فى روايات نجيب محفوظ. فكأنما حصرَ عمُّ نجيب النساءَ فى ثنائية: إما العاهر، أو الفاضلة رغم أنفها فى قبضة الرجل. ومن هنا كان عتابى له فى القصيدة التى اختتمتُها بقولى: (لن أصفحَ/ ولا شيءَ يُنجيكَ من غضبتي/ سوى تحريرِهن من ثنائيةِ الوَيْل/ سأكمنُ فى عزلتي/ حتى أُصادفَ قيثارتَها/ قيثارةَ جدتى الجميلةَ/ التى وأدتها بين سطورِك).

يا عمُّ نجيب، يا فرعونَ مصر العظيم، سلامًا عليك. نَمْ مِلْءَ جفونِك عن شواردها، فقد سهرَ الخلقُ جَرَّاكَ، واختصموا.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع