البصرة المنكوبة بالعطش والقتل بالرصاص
د. عبد الخالق حسين
٥٢:
١١
ص +02:00 EET
السبت ٨ سبتمبر ٢٠١٨
د.عبدالخالق حسين
قالوا عن البصرة أنها ثغر العراق الباسم، وبلد النخيل والحناء، وتسقى بساتينهم بالمد والجزر وهم نيام، وهي حوض شط العرب، وفيها الموانيء، وإنتاج وتصدير النفط. المحافظة التي تمنح العراق 90% من ميزانيته. البصرة أم الخيرات هذه محرومة من خيراتها، وتعاني في العهد الديمقراطي من العطش، والماء المالح والخابط بالطين، ولعشرات السنين لم يتم تعيين أي من أبنائها وزيراً إلا مؤخرا و بوزير واحد للنقل. وتعبير (بعد خراب البصرة) مثل عراقي شائع حتى في البلاد العربية، عما حدث فيها من دمار شامل إثناء ثورة الزنج فيها، في القرن الثامن الميلادي، وراح مثلاً يضرب لوصول النجدة بعد فوات الأوان.
فالبصرة تعرضت للتخريب في جميع مراحل التاريخ، ناهيك عما أصابها من خراب شامل في عهد الطاغية صدام حسين، بسبب حروبه العبثية ضد إيران وغزوه للكويت، حيث كان أهل البصرة من أكثر فئات الشعب العراقي تعرضاً لكوارث الحروب، وعانت الكثير من الخراب، إذ كما وصفها سناتور أمريكي خلال زيارته للمحافظة بعد تحرير العراق مباشرة من الفاشية، بأن ثلثها فقط قابل للسكن، والبقية خراب تحتاج إلى صرف المليارات لإعمارها، وجعلها مكاناً لائقاً لمعيشة البشر في القرن الحادي والعشرين.
كان أهل البصرة يتوقعون من الحكومات المتعاقبة ما بعد صدام، أن تولي اهتماماً لمحافظتهم بعد تعرضها للخراب والإهمال المتعمد في عهد البعث الفاشي، ولكن الذي حصل هو العكس، أي الإهمال المتعمد من ذوي القربى أيضاً، ومعاملة المحافظة كالبقرة الحلوب لتدر الخيرات على العراق، ودون أن ينال أهلها أي تحسن في أحوالهم المعيشية، إلى أن بلغ السيل الزبى، حيث عانى أهل البصرة من قطع التيار الكهربائي في شهر آب اللهاب، وأزمة مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والزراعية، إلى حد أن وصلت مياه الخليج المالحة إلى شمال شط العرب.
طبعاً هناك عوامل عديدة لأزمة المياه، منها أن معظم مياه العراق تأتي من تركيا وإيران (دول المنبع)، وهاتان الدولتان إضافة إلى سوريا، أنشأت السدود للاستفادة من المياه على حساب حصة العراق. وكذلك كون جميع البنى التحتية لإسالة المياه في البصرة، كما في بقية المحافظات، هي قديمة جداً بعضها يرجع تاريخها إلى ما قبل 70 أو 80 سنة، مما يحمِّل الحكومات المتعاقبة مسؤولية كبرى في إهمالها المتعمد تحديث شبكات الإسالة والصرف الصحي، وإقامة مشاريع تصفية المياه، وتعقيمها وجعلها صالحة للإستخدامات البشرية. كذلك لا عذر لحكومات العراق الجديد في عدم اتخاذها الإجراءات الاحترازية اللازمة، إذ كانت هناك علامات واضحة تشير إلى انفجار الأزمة في أي وقت منذ السبعينات من القرن الماضي، فلماذا لم تتخذ الحكومات العراقية، وخاصة ما بعد 2003 الإجراءات اللازمة إلى أن انفجرت الأزمة في وجوههم وبعد فوات الأوان، وقال أهل البصرة (كفى إهمالاً)، وللصبر حدود؟
كان المفروض بالحكومتين، الاتحادية، والمحلية ما بعد 2003، أن تتوقع هذه الأزمة منذ سنوات، وتتحضر لها، وذلك ببناء مشاريع تحلية المياه، كما هو جار في الدول الخليجية، بل وحتى في الدول الأوربية مثل بريطانيا التي رغم ما تتمتع به هذه البلدان من أمطار غزيرة، ولكن الحكومات المتحضرة التي تحترم شعوبها وتحرص على أمنها وسلامتها، تتخذ الاجراءات اللازمة تحسباً للأزمات قبل حصولها. فالعراق لا تنقصه الأموال، ولا خبرات فنية أو علمية، فمن بين أبرز خبراء تحلية المياه في العالم، هو عراقي، ألا وهو البروفيسور عادل شريف، أستاذ تحلية المياه في جامعة سري (Surrey) البريطانية، والحائز على عدة جوائز عالمية ومنها جائزة ملكة بريطانيا لاكتشافاته العلمية، واختراعاته التقنية لتحلية مياه البحر عن طريق الضغط الأسيموزي ذو التكاليف الواطئة، وقد استفادت منه الدول الخليجية وغيرها. وعلى حد علمي وكما هو واضح في الفيديو في الهامش(1)، أن الدكتور عادل شريف طرح مشروعه على الحكومة العراقية منذ سقوط الحكم البعثي عام 2003، لإنقاذ أهل البصرة خاصة، والمحافظات الجنوبية الأخرى بصورة عامة، من كارثة الأزمة المائية المتوقعة، وأن يتهيئوا لها قبل وقوعها، إلا إن كلماته وقعت على أذن صماء، فلم يلق أي اهتمام من المسؤولين العراقيين، إما عن عمد أو عن جهل، أو كليهما.
نحن نعيش في عصر العولمة والديمقراطية، والانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأهل البصرة كغيرهم من شعوب العالم، لا يمكن لأية قوة أن تمنعهم من حقهم في التظاهرات الاحتجاجية السلمية، ونشر مشاكلهم ومطالبهم المشروعة على وسائل الإعلام، لذلك شاهدنا بالصوت والصورة المياه الملوثة والخابطة بالطين تصب من صنابير البيوت والتي لا تصلح حتى لتنظيف الشوارع، وحتى بعد تصفيتها فهي مالحة أو مج، وملوثة بمياه المجاري القذرة التي تصب في الأنهر وشط العرب، وملوثة بالجراثيم ونقلها للأمراض. فحسب تصريحات رئيس صحة البصرة، هناك أكثر من 18 ألف إصابة بالإسهال، وحتى عودة الكوليرا، مما حدى ببعض الدول الخليجية منع مواطنيها من السفر إلى البصرة، وهذا دليل على أن البصرة محافظة منكوبة ومهملة من الحكومة. وتجد معظم أنهار البصرة، وخاصة نهر العشار الجميل، أصبحت مكبات للقمامة تهدد البيئة كما هو واضح من الصورة في بيان حول الكارثة البيئية و الصحية في محافظه البصرة(2).
فكيف تعاملت الحكومة المحلية والقوى الأمنية مع غضب الجماهي؟ تفيد الأنباء أن التظاهرات السلمية وفي هذا العهد المفترض به عهد الديمقراطية، الذي يمنح فيه الدستور الناس حقهم في التظاهر السلمي، ولكن واجهت تظاهرات أهل البصرة بالرصاص الحي، وهذه كارثة، وصفحة سوداء في سجل العهد الديمقراطي، تلك المواجهات التي لم يعرفها العراقيون إلا في العهد الملكي، وعهد البعث الصدامي. إذ هناك تقارير تفيد بوقوع حوادث العنف بين المتظاهرين والقوات الأمنية أدت إلى: (مقتل وإصابة 25 متظاهراً وحرق ديوان المحافظة وفرض حظر للتجوال)(3). وفي تقرير آخر يفيد: (أعلن المتحدث باسم وزارة الصحة عن أنّ حصيلة أحداث الثلاثاء العنيفة في البصرة بلغت خمسة قتلى من المتظاهرين و68 جريحاً منهم 41 مدنياً و 27 من منتسبي القوات الأمنية)(4).
ما كان لهذه المواجهات الدموية أن تحصل لو تعاملت القوات الأمنية بضبط النفس، والتعامل بالحسنى مع الجماهير المنكوبة.
ما العمل؟
إذا أرادت الحكومة أن تستعيد بعضاً من سمعتها، وما تبقى من ماء وجهها، أن تأخذ الإجراءات الفورية التالية، وعلى جناح السرعة:
أولاً، إعلان محافظة البصرة كمحافظة منكوبة تحتاج الدعم السريع كما يتعرض أي شعب للكوارث الطبيعية، إلا إن كارثة البصرة هي من صنع البشر المسؤولين عن أمنها وسلامتها.
ثانياً، توفير المياه الصالحة للشرب والاستخدامات المنزلية فوراً،
ثالثاً، البدء الفوري بإقامة مشاريع تحلية المياه في مختلف الأقضية والنواحي والمدن في المحافظة، والاستفادة من الخبرات العراقية والأجنبية في الداخل والخارج.
رابعاً، الاتصال بالحكومات والشركات الأجنبية ذات الخبرة الواسعة والسمعة الطيبة في مجال المياه ، للاستفادة من خبراتها، وإمكاناتها للقيام بتجديد شبكات إسالة الماء والصرف الصحي، وإنشاء مشاريع تحلية المياه، وحفر الآبار الارتوازية للمياه الجوفية وغيرها،
خامساً، أن تستخدم الحكومة العراقية ورقة العلاقات الاقتصادية على إيران وتركيا بإطلاق حصة العراق من المياه، وفق القوانين الدولية، خاصة أن هاتين الدولتين مستفيدتان من الاقتصاد العراقي، لذلك يمكن للعراق أن يفرض العامل الاقتصادي لحمل إيران وتركيا على الاستجابة لحاجة العراق من المياه.
سادساً، على الحكومة الاتحادية توفير الخطط العلمية لإقامة مشاريع بعيدة المدى وتخصيص الأموال اللازمة لها، لتوفير المياه ليس فقط للاستخدامات البشرية فحسب، بل والزراعية أيضاً.
وبدون هذه الاجراءات وغيرها كثير، سيصبح العراق بلداً صحراوياً غير قابل للعيش.
روابط ذات صلة
1- البروفيسور عادل شريف الحسيني والأزمة المائية في العراق
2- بيان حول الكارثة البيئية و الصحية في محافظة البصرة، تلاحظ صورة نهر العشار الذي صار مكباً للنفايات وخطراً على الصحة
3- البصرة: مقتل وإصابة 25 متظاهراً وحرق ديوان المحافظة وفرض حظر للتجوال
4- عدنان حسين: العبادي إذ يُنكر
الكلمات المتعلقة