الأقباط متحدون - مارى أسعد: من أعماق الصعيد قمة المجتمع المدنى العالمى
  • ١٣:٥٧
  • السبت , ٨ سبتمبر ٢٠١٨
English version

مارى أسعد: من أعماق الصعيد قمة المجتمع المدنى العالمى

مقالات مختارة | سعد الدين ابراهيم

٠٨: ٠٨ ص +02:00 EET

السبت ٨ سبتمبر ٢٠١٨

الدكتورة مارى أسعد
الدكتورة مارى أسعد

ربما لم يسمع كثير من المصريين عن الدكتورة مارى أسعد، التى رحلت عن عالمنا يوم الجمعة 31 من أغسطس 2018، عن أكثر قليلاً من تسعين عاماً.

ولكن كل نُشطاء التنمية، والعمل الأهلى، والرعاية الاجتماعية، كانوا يعرفونها جيداً، ويُقدرونها تقديراً كبيراً. فقد تعلموا منها كثيراً، بشكل مباشر، كأستاذة جامعية قديرة. وأهم من ذلك أنها كانت مُلهمة وقدوة لآلاف الفتيات والنساء، فى المُثابرة وتحدى الصعاب، وفى مقاومة العادات والتقاليد البالية والممارسات الضارة بعقول وأجسام البنات والنساء المصريات عموماً، وفى الصعيد خصوصاً. كما كانت مُحاربة شرسة ضد الفقر، ونصيرة للفُقراء.

من ذلك أن مارى أسعد، التى انحدرت من أسرة من كبار المُلاك للأراضى فى الوجه القبلى، وهو ما عرّضهم لقوانين الإصلاح الزراعى فى خمسينيات القرن العشرين. وتمت مُصادرة معظم ما كانت أسرتها تمتلكه من أراض زراعية. فاتجهت الأسرة إلى مجال التصنيع الزراعى، من خلال تأسيس مصانع لقصب السُكر وتكريره. وكانت مارى أسعد مع ذلك الوقت قد شبّت عن الطوق، حيث تزوجت مُبكراً، كمعظم بنات الأرياف عموماً، والصعيد خصوصاً، ولا فرق فى ذلك بين بنات مسلمات وأخريات قبطيات. وكان زوجها رأسمالياً عصامياً، يُدير مصانع أسرته، وما ورثته مارى أسعد من ذويها.

ولكن مع بداية ستينيات نفس القرن العشرين، انتقل مَنْ قاموا بثورة يوليو نحو تأميم الشركات الأجنبية، ثم سرعان ما اتجهوا إلى تأميم الشركات الوطنية، التى يملكها مصريون مثل أسرة مارى أسعد. فجرى تأميم مصانع قصب السُكر التى كان يملكها، أو يُديرها زوجها. وهو ما تسبّب فى صدمة، يُقال إنها كانت وراء وفاته المبكرة، تاركاً مارى أرملة فى ريعان الشباب، ومعها طفلان، هانى وراجى.

فشمّرت الصعيدية مارى أسعد عن ساعديها، وبدأت تعمل وتدرس، وتُربى ولديها. فأكملت تعليمها الجامعى بتفوق، شجّعها على أن تمضى نحو التعليم الأعلى، فحصلت على الماجستير، ثم الدكتوراه فى العلوم الاجتماعية. وعملت لعِدة سنوات باحثة، ثم ناشطة ميدانية، فى مجالات التنمية، وتطوير المرأة، ومُحاربة الفقر. ولفتت الانتباه مصرياً ودولياً للمناطق العشوائية، التى انتشرت حول القاهرة وبقية المُدن المصرية الكُبرى، والتى كان أحد تجلياتها مشكلة القمامة، وتعاسة الزبالين، وتفشى الأمراض بينهم، حيث كانوا يعيشون مع أكوام الزبالة التى يجمعونها يومياً. وآية ذلك أن معدل وفيات أطفالهم كانت أربعة أمثال نفس معدلاتها فى عموم مصر.

فاستطاعت مارى أسعد وكتيبة باسلة من بنات ونساء الطبقتين العُليا والمتوسطة، من أمثال الراحلة عزيزة حسين، والراحلة عايدة الجندى، ويسرية لوزا، أطال الله عمرها، وجيل أصغر مثل د.ليلى إسكندر، ود. مواهب المويلحى، ود. عايدة سيف الدولة، لمواصلة المسيرة. وأسّست مارى أسعد وتِلك الكتيبة النسائية المُتفانية عشرات الجمعيات والمنظمات التطوعية للتنمية. وفى بداية تسعينيات القرن الماضى، والذى قررت منظمة الأمم المتحدة عقد مؤتمر عالمى لدراسة تحديات المشكلة السُكانية، كانت مارى أسعد ضمن الكتيبة التى عملت مع عزيزة حسين والراحل ماهر مهران على أن تستضيف مصر ذلك المؤتمر، لا فقط كنوع من التشريف، ولكن الأهم لتسليط الضوء على تفاقم مشكلة الزيادة السُكانية فى مصر، وأن المشكلة لا يمكن مواجهتها إلا بربطها بمواجهة التخلف الاجتماعى والاقتصادى. فأضيف إلى عنوان المؤتمر مصطلح التنمية، فأصبح المؤتمر الدولى للسُكان والتنمية،International Conference for Population and Development والذى عُرف اختصاراً (ICPD).

وكان لمارى أسعد وعزيزة حسين فضل انتهاز تِلك الفُرصة لتسليط الضوء على مشكلة أخرى تتصل بالموضوع، وذات خصوصية شديدة بحقوق المرأة الإنسانية فى المُتعة الحلال فى الزواج والأسرة، ألا وهى مشكلة خِتان البنات، والتى ألصقها البعض بالإسلام والمسلمين. وكان على الكتيبة النسائية المصرية أن توضح للرأى العام فى الداخل والخارج، أن تِلك الممارسة (أى خِتان البنات) لا علاقة لها بالإسلام، ولا بأى دين آخر. وكان دليلهن الدامغ على ذلك أن السعودية وأكثر البلاد ذات الأغلبية المسلمة، مثل إندونيسيا وباكستان، لا يتم فيها خِتان البنات.

وفعلاً استطاعت تِلك الحملة أن تؤدى إلى صدور قانون المرأة، فى عهد الوزيرة أمينة الجندى، والذى لم يؤد إلى تجريم الممارسة أو القضاء عليها تماماً، ولكنه حاصرها، وقنّنها، بحيث تتم على يد طبيب جرّاح، وبشكل مُخفف للغاية.

إن مناقب الراحلة مارى أسعد تجلّ عن الحصر، وكان منها التواضع الشديد. وربما كان ذلك التواضع والعزوف عن البهرجة أو الدعاية الإعلامية، هو ما جعل كثيرا من المصريين لا يعرفون الكثير عن مارى أسعد. ولكن ها هى المناسبة لتذكير الأجيال الناشئة بهذه المرأة الصعيدية المصرية العظيمة، لعلهم يقتدون بها، وينهجون نهجها.

رحم الله الدكتورة مارى أسعد، وقدّس روحها، وأسكنها فسيح جنّاته، وألهم أبناءها وأحفادها، وتلاميذها، وكل مَنْ عرفوها وأُعجبوا بها الصبر والسلوان.

وعلى الله قصد السبيل
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع