الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟
كمال زاخر موسى
٤٠:
١٠
ص +02:00 EET
الثلاثاء ٤ سبتمبر ٢٠١٨
كمال زاخر
31 ـ طريق الرهبنة .. مخاطر وخبرات 2 / 2
(هذه السطور منقولة بجملتها من كتاب الرهبنة القبطية فى عصر القديس أنبا مقار للأب متى المسكين الطبعة الخامسة 2014، الباب الثالث آثار القديس أنبا مقار المدونة ؛ الفصل الأول : كتابات القديس أنبا مقار الكبير.)
ـ رسالة القديس مقاريوس الراهب إلى أولاده
الكتابات المنسوبة للقديس أنبا مقار كثيرة، ولكن قام العلماء مؤخرا بفحصها وتحليلها ونقدها. وقد غالى الكثيرون منهم فى نقدها حتى لم يُبقوا على الكتابات المنسوبة لقديسنا ال2كبير سوى رسالة واحدة، لا توجد إلا با2للغة اللاتينية والسريانية، بعنوان "الرسالة إلى الأبناء الروحيين"، مستندين فى صحتها على شهادة المؤرخ القديم جناديوس، حيث يقول عنها :
[مقاريوس الراهب المصرى تميز بشيئين: معجزاته وفضائله. وقد ترك رسالة واحدة وجهها إلى المبتدئين من بنى طقسه، وفيها يعلمهم أن كل من يصل إلى معرفة نفسه يستطيع أن يعبد الله، إن هو أسلم ذاته لجميع الجهادات، ضابطاً نفسه فى كل شئ، على أن لا يكف فى نفس الوقت عن الدعاء والتوسل، طالباً معونة الله، فإنه يصلإلى طهارة الطبيعة، ويبلغ حالة العفة، كهبة تُمنح لطبيعته]
نص الرسالة :
1. حينما يبدأ الإنسان يعرف ذاته، لماذا خُلق، ويبحث عن الله خالقه،
فإنه يتوب أولاً عن كل ما اقترفه فى زمن توانيه. هكذا يعطيه الله الرؤوف
حزناً على خطاياه.
2. ثم يعطيه، بنفس الرأفة، أن يُتعب جسده بالأصوام والأسهار، وأن يثابر
على الصلاة ويحتقر العالم، كما يمنحه أن يحتمل الإهانات، برضى،
ويبغض كل نياح الجسد، ويفضل البكاء على الضحك.
3. ثم يعطيه اشتياقاً للدموع والبكاء، ومسكنة فى قلبه، وتواضعاً، كما يعطيه أن يرى الخشبة فى عينه دون أن يحاول إخراج القذى من عين قريبه، وأن يردد باستمرار : "إنى عارف بإثمى وخطيتى أمامى كل حين" (مز3:51)، وأن يفكر فى يوم موته وفى مثوله أمام الله، وأن يتصور الدينونة والعذاب، وأيضاً الأجر والكرامة التى تُعطى للقديسين.
4. وحينما يرى الله أن هذه الأشياء تحلو له، يُعرِّضه للتجربة، ليراه هل يرفض الشهوات، وهل يثبت أمام هجمات ولاة هذا العالم الذين غلبوه من قبل، وأمام ملذات الأطعمة المتنوعة التى تُضعف القلب. فتصل به الحال (تحت التجربة) إلى أنه يعجز تقريباً عن الصوم، ويكاد يستسلم، منهزماً بضعف الجسد وطول الزمان، لأن أفكاره المعادية تقول له : " كم من الزمان تستطيع أن تحتمل هذه الأتعاب؟"، وأيضاً "إنه لتعب مرير أن تستحق حلول الله فيك، لاسيما وأنك وأنك قد أخطأت بهذا المقدار"، ثم أيضاً : "هل يستطيع الله أن يغفر لك كل هذه الخطايا؟".
5. ولكن حينما يتيقن الله أن قلبه يبقى ثابتاً فى مخافته، وأنه لا يترك المكان الذى جاء ليسكن فيه، بل يقاوم بشدة، فإنه يسمح بأن تأتيه أفكار أخرى توحى له قائلة ـ وهى متخذة فرصة ببره ـ : "صحيح إنك أخطأت، غير أنك قد قدمت توبة، فقد صرت منذ الآن قديساً"، وتذكره بخطايا بعض الناس الذين لم يتوبوا، وبذلك تزرع المجد الباطل فى قلبه.
6. ثم أن الأبالسة لا تكتفى بذلك، بل تجعل أيضاً بعض الناس يمتدحونه بإفراط، ويدفعونه إلى أعمال لا يقدر أن يقوم بها؛ وتوحى له بأفكار، كأن يمتنع عن الأكل أو الشرب أو يغالى فى السهر، وبأفكار أخرى يطول ذكرها؛ بل وتعطيه سهولة القيام بها، محاولة بكافة الوسائل أن تجتذبه إليها (أى إلى هذه الأعمال) مع أن الكتاب يحذر قائلاً: "لا تمل يمنة ولا يسرة بل أسلك فى الطريق المستقيك" (راجع أمثال 4 : 26 و 27).
7. ولكن إن لاحظ الله أن قلبه لم يمل إلى أى من هذه التجارب، التى سبق داود فتكلم عنها قائلاً : "جربت قلبى وافتقدته ليلاً. محصتنى بالتار لكن لم يوجد فىَّ إثم" (مز3:17)، حينئذ ينظر إليه الله من سمائه المقدسة ويحفظه بلا عيب. ولاحظوا جيداً أن داود لم يقل "نهاراً" بل "ليلاً"، لأن خداعات العدو هى ليل، كما يقرر أيضاً بولس الطوباوى : إننا لسنا أولاد ظلمة بل أولاد نور. فإن إبن الله هو بالحقيقة "نهار" بينما يشبه إبليس بـ "الليل".
8. ومتى تجاوزت النفس كل هذه المحاربات، فإن الأفكار المعادية توحى له بشهوة الزنا "النجاسة". وفى كل ذلك تشعر النفس بضعفها، ويذبل القلب، لدرجة أنه يتوهم أن حفظ الطهارةأمر يستحيل عليه؛ فإن الأفكار، كما فلت، تبين له طول الزمان، من جهة، وصعوبة الفضائل، من جهة أخرى، وكم أن حملها ثقيل لا يُحتمل، وتضيف إلى ذلك أيضاً ضعف جسده وهوان طبيعته.
9. وإن لم يكل أمام هذه المحاربات، فإن الله الرؤوف الحوم يرسل له قوة مقدسة، ويثبت قلبه، ويعطيه الفرح والنياح والقدرة على أن يقوى على أعدائه، بحيث أن هجومهم عليه لا يخزيه، لأنهم يخافون القوة الساكنة فيه، هذه التى قال عنها القديس بولس : "جاهدوا فتنالوا قوة" (كو29:1)، والتى تعرض لها أيضاً الطوباوى بطرس فى حديثه عن "الميراث الذى لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ فى السموات لأجلكم، أنتم الذين بقوة الله محروسون بالإيمان" (1بط 1 :4 ـ 5).
10. ومتى رأى الله الرؤوف المتحنن أن قلبه صار أقوى من أعدائه، فإنه يسحب عنه بالتدريج القوة التى كانت تسنده، ويسمح لأعدائه أن يهاجموه بنجاسات الجسد المختلفة وبشهوة المجد الباطل والعظمة، وبتجارب الخطايا الأخرى التى تجذب إلى الهلاك، حتى أنه يكاد يشابه سفينة بلا دفة، تتخبط من كل ناحية على الصخور.
11. ولكن متى صار قلبه وكأنه قد ذبل، وكاد أن يكون قد عثر فى كل من تجارب العدو، فإن الله محب البشر والمعتنى بخليقته يرسل فيه قوة مقدسة، ويثبته، ويُخضع قلبه ونفسه وجسده وكل أعضائه إلى نير الباراقليط، لأنه هو قد قال : "إحملوا نيرى عليكم، وتعلموا منى، لأنى وديع ومتواضع القلب" (متى 9:11).
12. وهكذا يبدأ الله الرؤوف، أخيراً، يفتح أعين قلب (الإنسان)، لكى يفهم أن (الله) هو الذى يثبته، وحينئذ يبدأ الإنسان يتعلم بالحقيقة كيف يعطى مجداً لله بكل تواضع وانسحاق قلب، كما يقول داود: "الذبيحة لله روح منسحق" (مز17:51)، لأته من صعوبة ذلك الجهاد، يتولد التواضع وانسحاق القلب والوداعة.
13. ومتى تجرب بكل هذه الأنواع، فإن الروح القدس يبدأ يعلن له الأشياء السمائية، أى كل ما يعود بالإستحقاق والعدل على القديسين، وعلى الذين وضعوا رجاءهم فى رحمته. وحينئذ يتفكر الإنسان فى ذاته ويردد قول الرسول : "إن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو18:8)، وأيضاً قول داود : "ماذا لى فى السماء؟ ومعك كم من الأشياء أردت فى الأرض؟" (مز25:73) ومعناه : يارب كم أععت لى فى السماء؟، وأنا كم من الأشياء طلبت معك فى الحياة الفانية؟ وهكذا أيضاً تعلن له العذابات التى تنال الخطاة، وأشياء أخرى كثيرة يفهمها كل رجل قديس بدون أن أذكرها.
14. وبعد هذا كله يقطع الباراقليط عهداًمع نقاوة قلبه وثبات نفسه وقداسة جسده وتواضع روحه، فيحعله يتجاوز كل الخليقة، ويعمل فيه، بحيث أن فمه لا يتكلم بأعمال الناس، وأنه يرى المستقيم بعينيه، ويضع حارساً لفمه، ويرسم طريقاً مستقيماً لخطواته، ويقتنى برَّ يديه أى (بر) أعماله، والمثابرة فى الصلاة مع تعب الجسد والسهر المتكرر. ولكن هذه الأشياء يرتبها الباراقليط فيه يقياس وإفراز، وليس بتشويش، بل بهدوء.
15. ولكن إن تجاسرت روحه فقاومت ترتيب الروح القدس نفسه، فإن القوة التى وُضعت فيه تنسحب، ويذلك تتولد فى قلبه محاربات واضطرابات، ثم تضايقه آلام الجسد فى كل لحظة بمهاجمة العدو.
16. ولكن إن تاب قلبه وتمسك بوصايا الروح القدس (من جديد)، فإن معونة الله تكون عليه. وحينئذ يفهم الإنسان أنه خير له أن يلتصق بالله فى كل حين،وأن حياته هى فى (الله) كما يقول داود : "صرخت اليك فشفيتنى" (مز2:30)، وأيضاً "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز9:36).
17. فمن رأيى، إذن، أن الإنسان إن كان لا يقتنى تواضعاً كثيراً، وهو فى قمة جميع الفضائل؛ وإن كان لا يضع حارساً لفمه ولا يجعل خوف الله فى قلبه؛ وإن كان لا يمتنع عن تزكية ذاته بسبب الأشياء التى يتوهم فيها أنه أصلح من غيره، وكأنه قد فعل خيراً ما؛ وإن كان لا يحتمل، برضى، الإهانات التىتقع عليه، ولا يقدم الخد الآخر للذى يلطمه؛ وإن كان لا يندفع، بعزم، نحو كل عمل صالح ليقتنيه؛ وإن كان لا يحمل نفسه فى يده كأنه يموت كل يوم؛ وإن كان لا يعتبر كل الأشياء التى تُرى تحت الشمس كأنها باطلة، ولا يردد فى نفسه : "لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح" (فى23:1)، وأيضاً "لى الحياة مع المسيح والموت هو ربح" (فى21:1)؛ فإنه لا يستطيع أن يحفظ وصايا الروح القدس. آمين.
(ملاحظة : الإقتباسات الكتابية مختلفة أحياناً عن نصها فى طبعة بيروت وهى مترجمة حرفياً عن نص القديس مقاريوس).
ويكتب الأب متى المسكين تعليقه الشخصى على الرسالة :
تبدو الرسالة فى منهجها الروحى عملية، تخلو خلواً تاماً من أى ميل ناحية المنهج التأملى الأوريجانى أو ناحية المنهج العقلى المفتعل المسمى بالتداريب الروحانية، حسب النمط الأوغريسي، الذى انتشر في القرن الرابع بين آباء نتريا والقلالى بتأثير أوغريس وآباء السريان فيما بعد (الشيخ الروحانى، والدرجى ومار اسحق). لذلك، فـ "رسالة القديس أنبا مقار إلى أولاده" هذه تعتبر من أندر وأنفس الكتابات الرهبانية القبطية الصافية الأصلية، التى وصلت إلينا، وهى جديرة باهتمام الرهبان وكافة الروحايين، بسبب بساطة الروحانية العملية التى تشع من كل سطورها.
والرسالة تخلو من أى منهج تصويرى فكرى أو ادعاء تدريبى مفتعل، كما قلنا، بل اعتمادها الأصيل على الخبرة الروحانية المسبقة القائمة على حياة التسليم المسبقة الإسترشاد بتدبير الأب الروحانى، حيث تأنى المعرفة دائماً نتيجة للخبرة الروحية وليس العكس؛ يُقوِّمها الأب الروحى ويوجهها، لتطابق المنهج الآبائى الإنجيلى، ليجعلها دائماً فى أمان كامل من التزييف العقلى، والنفسى، ومن الطموح الروحى؛ هذه الثلاثة التى تعتبر أخطر المزالق التى يهوى فيها النساك.
بين رؤية القديس يوحنا الدرجى السينائى، والتى عرضناها قبلاً، والقديس مقاريوس المصرى نضع ايدينا على طبيعة الحياة الرهبانية ومقومات ثباتها، والمخاطر التى تتهدد من اختارها طريقاً لخلاصه، ونكتشف أنها ليست مجرد عزلة والعيش فى مكان قصى بل حياة تسير عكس التيار وتتواجه مع الذات والعالم والشهوات، وتحتاج إلى استنارة لن تتحقق إلا بمعونة إلهية وتلمذة على خبرات شيوخ البرية بشخوصهم وكتاباتهم فى يقظة وافراز لا ينقطعا.
الكلمات المتعلقة