الأقباط متحدون - أمريكا قدمت دراسة إنشائه لإثيوبيا عام ١٩٥٨: الطابع السياسى غلب الطابع العلمى فتعثر المشروع
  • ١٢:٥٣
  • الأحد , ٢ سبتمبر ٢٠١٨
English version

أمريكا قدمت دراسة إنشائه لإثيوبيا عام ١٩٥٨: الطابع السياسى غلب الطابع العلمى فتعثر المشروع

مقالات مختارة | أ.د نادر نورالدين

٣٣: ١١ ص +02:00 EET

الأحد ٢ سبتمبر ٢٠١٨

أ.د نادر نورالدين
أ.د نادر نورالدين
يعتبرالإثيوبيون نهر الآباى أو النيل الأزرق شعارا ورمزا للوطنية. فارتباط إثيوبيا بالآباى ارتباط روحى عميق، ويعتبرونه «الأب الأعظم للأنهار»، وينظرون إليه كقوة تدميرية طبيعية ذات قدرات للتنمية الاقتصادية نظرا لانحداره الكبير من منبعه فى بحيرة تانا على ارتفاع ١٨٢٠ مترا فوق مستوى سطح البحر، إلى أن يصل إلى مدينة أسوان عند منسوب ٢٠٠ متر فقط فوق مستوى سطح البحر. ويعتبر الإثيوبيون أن شعب الجاش الإثيوبى Cush أو الأحباش من السود، الذين يعتبرون أنفسهم من سلالة جاش ابن هام بن نوح ومنه جاء نسل الحبشيون والإثيوبيون، أن النيل هو مهد الجنس الأسود فى أفريقيا، ومصدر الدماء الإثيوبية، والأم بالنسبة للأحباش.
 
تبلغ مساحة حوض النيل الأزرق داخل إثيوبيا نحو ٢٠٠ ألف كيلومتر مربع، ويصل متوسط تدفقاته المائية السنوية نحو ٤٩ مليار م٣ وينضم إليه قبل عبوره للحدود الإثيوبية إلى السودان نهرا «الرهد والتندر» بتدفقات ٤ إلى ٥ مليارات م٣ سنويا وتسير معه إلى الأراضى السودانية. وبهذه الكميات فإن النيل الأزرق يعتبر الرافد الأكبر والشريان الرئيسى لنهر النيل حيث يساهم بنحو ٥٩ – ٦٤% من إجمالى مياه نهر النيل، فى حين يساهم نهرا عطبرة والسوباط معا بنسبة ٢٢% وينبعان أيضا من إثيوبيا، وأخيرا يساهم النيل الأبيض القادم من دول منابع البحيرات الاستوائية العظمى الستة بنحو ١٥% فقط. لذلك فطنت دول المستعمرين خاصة إنجلترا وفرنسا منذ قدومها للقارة الأفريقية أن من يريد أن يسيطر ويضر بمصر فعليه أن يسيطر على النيل الأزرق شريان الحياة فى مصر الصحراوية والتى يعيش شعبها على ضفتى النهر فى مساحة لا تزيد على ٧% فقط من إجمالى أراضيها. فكرت فى هذا الأمر إنجلترا وفرنسا أثناء العدوان الثلاثى على مصر، سواء بمنع مياه النيل الأزرق أو الأبيض عن مصر، كما كان الأمر مصدرا للتهديد من الأمريكان والعديد من القيادات فى إثيوبيا.
 
بعد خلافات الرئيس جمال عبدالناصر مع أمريكا والبنك الدولى وإسناد مصر بناء السد العالى إلى الاتحاد السوفيتى فى عام ١٩٥٨، وما صاحبه من غضب إثيوبى عارم اتفق مع الغضب الأمريكى والذى يبدو دوما أن الفكر العقابى للأمريكان سابق عن الفكر النفعى، قدمت أمريكا عرضا لإثيوبيا لإجراء دراسة شاملة لنهر الآباى تشمل الحصر المائى والاستغلال الاقتصادى وتوليد الكهرباء واستخدام مياه النهر فى الرى بدلا من الزراعة المطرية، وذلك على طول النهر بدءا من منبعه فى بحيرة تانا وروافده العديده وصولا إلى الحدود السودانية.
 
تم استقدام مكتب استصلاح الأراضى الأمريكى للمشاركة فى المشروع بعنوان: تعاون الولايات المتحدة- إثيوبيا لدراسة حوض النيل الأزرق. تم الاتفاق على أن يتقاسم الشريكان تكاليف البرنامج وقد أنفقت إثيوبيا خلال هذه الدراسة ٤٢ مليون «بر» إثيوبى أى ما يعادل ٢١ مليون دولار وقتها.
 
استغرقت الدراسة المكثفة لحوض نهر الآباى خمس سنوات، وقدمت نتائج فى مجالات تدفقات المياه، نوعية المياه، الخرائط الجغرافية والكونتورية، الجيولوجيا، الترسيب والإطماء، الموارد المعدنية، استخدامات الأراضى، المياه الجوفية، وقدمت الدراسة مقترحا بإنشاء أربعة سدود على مجرى النهر بسعة مائية إجمالية تبلغ ٥٥ مليار متر مكعب. هذه السدود طبقا لسعتها المائية المقترحة وهى السد الحدودى والذى أصبح سد النهضة على الحدود السودانية بسعة ١١.١ مليار متر مكعب ويولد ١٤٠٠ ميجا وات، وسد كارادوبى بسعة ١٤.٢مليار م٣ ويولد ١٦٠٠ ميجا وات، ثم سد مندايا بسعة ١٥.٩ مليار م٣ ويولد ١٦٢٠ ميجاوات وأخيرا سد مابيل ١٣.٦ مليار م٣ ويولد ١٢٠٠ ميجاوات. هذه السعات تريد إثيوبيا تغييرها حاليا والوصول بإجمالى سعاتها التخزينية إلى ٢٠٠ مليار متر مكعب تخزنها من نهر صغير كما سبق لا تتجاوز تدفقات مياهه السنوية ٤٩ مليار متر مكعب وتعيش عليه دولتان أخريان، وهما السودان ومصر ومقام عليه ثلاثة سدود فى السودان وسد ضخم فى مصر كدولة مصب ولا يمكن علميا لهذا النهر الصغير أن يملأ هذه السعات الضخمة فى إثيوبيا ثم يكون قادرا على ملء السد العالى فى مصر ومن قبله سدود سنار والروصيرس وميروى فى السودان.
 
لم يبدأ سد النهضة بوضع رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل مليس زيناوى حجر أساسه فى ٢ بريل ٢٠١١ بعد تنحى الرئيس حسنى مبارك عن الحكم فى ١٢ فبراير ٢٠١١ بنحو شهر ونصف فقط. بدأ التخطيط الحديث للسد منذ انضمام إثيوبيا لمفوضية حوض النيل فى عام ١٩٩٩ واشتراطها أن يتم الموافقة على دراسة جدوى لإقامتها عدة سدود على النيل الأزرق وروافد نهر النيل التى تنبع من أراضيها فوافقت مصر والسودان وباقى دول الحوض على ذلك.
 
بحلول عام ٢٠٠٧ كان قد تم بالتقريب الانتهاء من دراسات جدوى عدد من السدود الإثيوبية على النيل الأزرق وبدأت إثيوبيا فى طرح فكرة إقامة سد كارادوبى على بعد ٤٠ كيلومترا من الحدود السودانية والذى زادت سعة تخزينه إلى ٤٠ مليار متر مكعب بدلا من ١٤.٥ مليار فى الدراسة الأمريكية، والغريب فى الأمر أن مصر وافقت على إقامة هذا السد، والذى تبين بعد ذلك أنه كانت هناك مكاتبات متبادلة بين السودان وإثيوبيا تحث فيها السودان إثيوبيا على سرعة إنشاء هذا السد واستعداد السودان للمشاركة فى تكاليفه وذلك لسعى السودان لتقليل عمليات الإطماء السنوية التى تحدث لخزان الروصيرس، وإيقاف الأضرار السنوية للفيضان على ولاية النيل الأزرق وبما يمكنها من تعلية خزان الروصيرس ليتسع لعشرة مليارات بدلا من سبعة حاليا.
 
الغريب أيضا أنه وبعد موافقة مصر صرفت إثيوبيا النظر عن إقامة سد كارادوبى لأنه يبدو أنها كانت تتوقع رفض مصر للبناء لتبدأ سلسلة من التصعيد ضدها، أو أنها كانت قد بدأت التخطيط للطريق إلى عنتيبى لتوقيع اتفاقية مع دول منابع النيل الأبيض لوضع اتفاقية جديدة لإعادة توزيع مياه النهر وجعل التصويت على إقامة السدود بالأغلبية وليس بالإجماع ولا بالتوافق (عدم المعارضة أو الامتناع عن التصويت)، وإلغاء حق الفيتو المصرى، ومعه الحقوق المكتسبة والتاريخية، وبالتالى كانت إثيوبيا تخطط لبناء ما تشاء من السدود مستقبلا على النيل الأزرق وروافد النهر بعيدا عن مصر وموافقتها خاصة أن حصولها على موافقة دول مفوضية حوض النيل لبناء سد كارادوبى كان سيؤسس إلى عدم حاجتها للحصول على موافقة باقى دول حوض النيل مع شروعها فى بناء كل سد جديد.
 
بدأت إثيوبيا ومنذ عام ٢٠٠٧ تحركاتها بشأن التحرك نحو عزل مصر عن دول منابع النيل الأبيض، ثم محاولة إحداث انشقاق فى العلاقات بين مصر والسودان واستقطاب السودان إلى الموقف الإثيوبى بأى ثمن سواء بالتنازل للسودان عن أراض حدودية خلافية أو بتصدير الكهرباء إليها مستقبلا بسعر مميز، وبالتالى فإن هذا التوجه السودانى بعيدا عن مصر كان يشير إلى بداية ترهل الدولة المصرية ووصول نظامها العجوز إلى نهاية مراحله وبداية خروج الأنصار والأتباع عن الفلك المصرى. بدأت إثيوبيا فى عمل رحلات مكوكية فى التنقل بين اجتماعات مفوضية حوض النيل ووزراء الرى فى الإلحاح بإلغاء كل بنود اتفاقيات تقسيم حصص المياه سواء الموقعة بين مصر ودول منابع النيل الأبيض عام ١٩٢٩ أو مع السودان عام ١٩٥٩ مع قتل إثيوبيا للاتفاقيات الموقعة بينها وبين مصر فى أعوام ١٩٠٢ ثم ١٩٠٦. توالت الاجتماعات فى كينشاسا وعنتيبى والقاهرة وشرم الشيخ وحتى عام ٢٠٠٩ كانوا قد توصلوا بالضغط إلى إلغاء مبدأ الإخطار المسبق وإلغاء حق الفيتو وإلغاء أن يكون التصويت على أى إنشاءات فنية أو سدود بالإجماع أو بالتوافق ولكن بالأغلبية على الرغم من أن دول المنابع تشكل أغلبية فعلية ولا يقر القانون الدولى أبدا بأن تقوم دول المنابع وحدها بتحديد حصص مياه دول المصب، حتى إن مصر والسودان طالبتا فى حال إقرار التصويت بالأغلبية أن يتضمن وجود إحدى دولتى المصب مصر أو السودان مع الدول الموافقة إلا أنه تم رفض هذا المقترح. تم أيضا إلغاء مبدأ الحقوق التاريخية أو المكتسبة واستبداله بمبدأ حقوق الاستخدامات والأمن المائى للجميع وهو الأمر الذى تحدده دول المنابع وفقا لما تراه وليس وفقا لما تعودت دولة فى حجم مصر على استلامه من المياه عبر آلاف السنين. تم بعد ذلك إعطاء دول المنابع وحدها الحق فى تقسيم حصص المياه ومنح دول منابع النيل الأبيض لعدة مليارات من المياه الإضافية كحصص جديدة فى مياه النيل فى ظل حرص إثيوبيا على استقطابهم جميعا، وهم لا يدرون بأن عين إثيوبيا على الاسئثار بمياه النيل الأزرق ثم السوباط وعطبرة بعد أن تكون قد ضمنت مساندة دول منابع النيل الأبيض والتى لا ناقة لها ولا جمل فى الخلافات الإثيوبية مع مصر. تم توقيع على كل هذه الأمور فيما عرف باتفاقية عنتيبى فى ١٤ مايو ٢٠١٠ والتى رفضت مصر والسودان وإرتريا والكونغو التوقيع عليها ثم انضم إليها جنوب السودان بعد ذلك بينما وقعت ست دول وهى إثيوبيا وكينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبروندى، والتى ألغت فيها جميع الاتفاقيات السابقة للنهر وكأن تاريخ نهر النيل قد بدأ فقط فى عام ٢٠١٠ بينما كانت ترى مصر ألا ينبغى إلغاء الاتفاقيات السابقة، وإنما البناء عليها وتخصيص حصص مائية من مياه النهر لدول المنابع من التعاون فى استقطاب مياه المستنقعات والفواقد العديدة على امتداد النهر والتى تلتهم أكثر من ٩٦% من موارد مياه النهر والبالغة ١٩٧٧ مليار متر مكعب سنويا يصل منها ٨٤ مليارا فقط إلى ما بين ضفتى النهر بنسبة ٣.٧% فقط، وبالتالى فيمكن بالتعاون على استقطاب مياه هذه الفواقد تجميع نحو ١٠٠ مليار متر مكعب إضافية تكفى وتفيض عن احتياجات جميع دول النهر. يضاف إلى ذلك أن مبدأ الإخطار المسبق قبل بناء السدود هو مبدأ أممى وليس مصريا، وأن قانون المياه للأنهار النهرية للأمم المتحدة خصص له ثمانية بنود كاملة من إجمالى ٣٣ بندا هى إجمالى بنود القانون بما يوضح أهميته البالغة والتى ضربت بها إثيوبيا ودول اتفاقية عنتيبى عرض الحائط وكأننا نعيش بمعزل عن القوانين العالمية والأممية.
 
فى العامين الأخيرين لحكم الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك ألح مليس زيناوى على مبارك فى إنشاء سد على النيل الأزرق ويقع بالقرب من الحدود مع السودان لا تزيد سعة بحيرته على ١٤ مليار متر مكعب إلا أن مبارك كان يرى أن النيل الأزرق خط أحمر ولا ينبغى لإثيوبيا أن تترك كل أنهارها العديدة وتضع النيل الأزرق صوب عينيها فقط من أجل الإضرار بمصر، وعلى الرغم من أنه لو استشار الخبراء المصريين فى الرى ومياه الأنهار السطحية فى الهندسة والزراعة لنصحوه بالموافقة على بناء هذا السد وحتى إذا تطلب الأمر إقامة سد آخر بعد الانتهاء من هذا السد وبنفس السعة فلا ضرر يمكن أن يقع على مصر حيث يمكن استيعاب أضراره على مدار سنوات البناء والتى لن تقل عن خمس سنوات فى حين تتطلب السدود الضخمة ١٠ سنوات. هذا الرفض المصرى أثار غضب رئيس الوزراء الإثيوبى وجعله يصدر توجيهاته بالمضى قدما فى اتفاقية عنتيبى مع دول النيل الأبيض للاستقواء بهم ضد مصر ومحاولة لعزل مصر عنهم بوثائق ومعاهدة رسمية تقر بمواقفهم ضد مصر وسهولة الحصول على موافقة دول المنابع على بناء السدود الإثيوبية التى ينتوى الجانب الإثيوبى إقامتها على النيل الأزرق وفى نفس الوقت يمضى قدما فى استقطاب الاستثمارات الأجنبية والخليجية بأكبر قدر للاستثمار فى الأراضى والزراعة والصناعة فى إثيوبيا بأى ثمن ولو بدون مقابل لضمان وجود الدول الكبرى على أرضه، فمنح استثمارات واسعة لإسرائيل (٤٠٠ ألف فدان) والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وهولندا والنرويج وإسبانيا وإيطاليا وكندا وقبرص ثم المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت وقطر ليكون تواجدهم على الأراضى الإثيوبية حماية من أى انتقام مصرى متوقع على سدود النيل الأزرق.
 
الإسراع فى بناء السدود النهرية الضخمة والذى انتهجته إثيوبيا استغلالاً لموقف مصر بعد أحداث يناير ٢٠١١ والعمل على الانتهاء من السد خلال خمس سنوات فقط بدلا من عشر سنوات جعل الطموحات تغطى على الإمكانيات المالية والفنية المتاحة وأيضا إسناد العمل إلى شركات سواء لبناء السدود أو توريد التوربينات ومستلزماتها المعدنية ليس لها سابق خبرات فى بنا السدود الضخمة لابد أن يؤدى إلى تعثر العمل ووجود العديد من الأخطاء، خاصة أن الطابع السياسى وفرض سياسة الأمر الواقع كان يفوق الطابع العلمى والتنموى والاقتصادى للغرض من بناء السد، كما أن تعمد إضعاف الجار لا ينبغى أن يكون ضمن الأهداف السامية لبناء السدود على الأنهار الدولية المشتركة بين دول الجوار. فمن السابق ليس لمصر أى تحفظات على بناء إثيوبيا سداً على النيل الأزرق بسعة حتى ٤٠ مليار متر مكعب، وهو ما يمكن تحقيقه حاليا حيث لا يوجد لمصر تحفظات على السد الرئيسى الأسمنتى لسد النهضة والذى سيركب عليه توربينات توليد الكهرباء حيث إن سعته لا يمكن أن تتجاوز ١٤.٥ مليار متر مكعب فقط ويبلغ ارتفاعه ١٤٥ مترا، ولكن التحفظات على السد الجانبى الركامى والذى تمت إقامته ليضيف ٦٠ مليارا للسعة التخزينية للسد وبارتفاع ٥٠ مترا، ولو تم تقليص هذا الارتفاع إلى النصف لوصلنا إلى سعة التخزين الآمنة ما بين ٣٠ - ٤٠ مليار متر مكعب، بما يولد كميات كهرباء جيدة لإثيوبيا ولا يسبب أضرارا جسيمة لمصر والسودان، ويوفر مبالغ كبيرة لإثيوبيا ويضعها على طريق الواقعية العلمية فى النظرة العلمية لإقامة السدود النهرية وأهدافها الاقتصادية والتى تراعى جيرانها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع