الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟
كمال زاخر موسى
الأحد ٢٦ اغسطس ٢٠١٨
كمال زاخر
30 ـ طريق الرهبنة مخاطر وخبرات [1]
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
"هذه هى الرهبنة التى تعلمناها : إنها أب روحى مرشد مع رهبان يسيرون فى طريق الخلاص" ، "نحن رهبان نسير وراء أبينا الروحى ... الرهبنة ليست أسواراً ولا حدائق ولا أكلاً وشرباً ... إننا نسير وراء الأب الذى يقودنا ويرشدنا"
جاءت هذه الكلمات فى حوار مقتضب بين مجموعة من الرهبان مع الأنبا ثاوفيلس رئيس دير السريان، قرروا أن يلحقوا بأبيهم الروحى الأب متى المسكين فى خروجه من "دير السريان" بوادى النطرون، قاصداً العودة إلى ديره الأول "دير أنبا صموئيل المعترف" بمغاغة ـ المنيا، فيما كان الأب الأسقف يريد أن يبقيهم بالدير، وكان صاحب الجملة الأخيرة الراهب انطونيوس السريانى، قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد.
(جرت هذه المحاورة فى 20 يوليو 1956، وسجلها كتاب ابونا كتاب : ابونا متى المسكين ـ السيرة التفصيلية ـ إعداد رهبان دير القديس أنبا مقار الطبعة الأولى 2008 ـ ص 138)
فما هى الرهبنة؟
هل هى مجرد مكان قصى عن العمران والناس يقطنه نفر ممن اختاروه مقراً للإقامة، أم هى نسق حياة لها قواعد ومحددات تقودها نحو غاية رسموها لأنفسهم ويسعون إليها؟.
هل هى هروب من العالم وتحلل من التزاماته، بضغط نفسى أو اخفاق فى التحقق فيه، أو للتعرض لصدمات ما ؟.
هل هذا النسق من الحياة يلائم العصر، وماذا قدم للكنيسة من اضافة أو غسهام فى سعيها لتحقيق رسالتها وسط العالم ولأجله؟.
وتمتد الأسئلة خارج اسوار الأديرة، وتتشعب وتفتح الأبواب لحملات شرسة ليست كلها بريئة، وليست كلها فى دائرة الموضوعية، إذ يأتى بعضها محملاً بمواقف ايديولوجية، واسقاطات ذاتية، وربما لادراك اصحابها أن تقويض الكنيسة يبدأ بالنيل من الرهبنة.
واستأذن القارئ فى اقتباس قدر من بحث تعرض لمنظومة الرهبنة ، يقدم تعريفات موضوعية للرهبنة جاءت من دارسين وقامات علمية كنسية، طرحته عام 2009 (فى كتاب : العلمانيون والكنيسة)
نقطة إتفاق :
دعونا، فى رحابة حب المسيح وطول أناته، نتفق أن طرحنا لما نحسبه " إشكاليات كنسية " لا يأتى مدفوعاً من منطلقات ذاتية تحفز على إصطناع صراعات لا مكان لها إلا فى مخيلة مثيريها، إنما نزعم ـ ولعلنا نكون محقين ـ أنها تأتى كإسهام فى أن نرى " كنيسة مجيدة " تملك إمكانية " الحياة فى المسيح " وإظهار رائحة معرفته فى كل مكان "، لذا فالضرورة تلزمنا أن نعبر مصيدة " الصراعات المصطنعة " التى تكشف عن قصور فى استيعاب المفاهيم الإيمانية الأولية .
وتأتى " الحياة الرهبانية المعاصرة " على رأس القائمة ولهذا أسبابه ومنها :
1 ـ أن الرهبنة هى المدخل الرسمى لتولى مقاليد تدبير الكنيسة على مدى قرون طويلة، ولم تعد قضية تثير شهية البحث والتنقيب والتقييم والتقويم رغم أننى أحسبها بحاجة إلى كل هذا .
2 ـ والرهبنة ذات مذاق شعبى وتأثير ميتافيزيقى، يسهم بقدر فى تكوين وجدان بل وإيمان الشعب، لكنه يمكن أن يتحول إلى معوق ومغيب له إذا تجاوز كونه وسيلة ليصبح هدفاً يطلب لذاته، ويزداد خطر التغييب كلما تحركنا باتجاه التعتيم وتسطيح التعليم والإنفصال عن تقليد الآباء وتعليمهم الصحيح وكأننا بلا جذور .
3 ـ والرهبنة " منطقة جذب " فى ظرفنا هذا الذى يحفل بكم من الضغوط الإجتماعية والإقتصادية المتباينة والتى تتجمع لتكون " عوامل طرد مجتمعية " يتعاظم فى ظلها " التوجه الرهبانى " باعتباره المنفذ للخلاص .
4 ـ والرهبنة تحظى بتركيز إعلامى كنسى معاصر عبر كثير من أدبيات الكنيسة المكتوبة والمتواترة، على أنها مرتبة روحية أعلى من مرتبة الحياة فى العالم!!، واستقر تبعاً لذلك عند كثيرين أن الحياة فى العالم أمر غير مستساغ، حتى لقد سارع البعض ليعلن عبر كتب مطروحة بالمكتبة القبطية أنه إكتشف أن هناك "علمانيون أبرار "(!!)، وهذا التصور غير الكنسى مؤشر خطير يحتاج إلى أكثر من إنتباهة.
ويدفعنى المناخ الفكرى السائد، والذى صارت فيه الأعصاب تحت الجلد مباشرة، أو ربما فوقه، وخصوصية الرهبنة بحسب ما بيناه، إلى تأكيد ما هو مؤكد ومستقر، أننى أجل " الرهبنة " ولها عندى مكان ومكانة، وأحسبها مثلاً يحتذى وملجأ حصيناً عند الضيق .
وإن كنت اتوقع أن اتواجه مع موجات هجومية متوالية خاصة ممن ارتبطت مصالحهم ومواقعهم القيادية، ببقاء الأمر بغير دراسة وتصويب، لكن عندما يتهرأ الثوب لا تصبح سياسات الرتق مجدية، وكذلك محاولات التجميل والتجمل ـ بكل بريقها وضجيجها وثقلها .
وحسبى أن أسهم ـ ولو بفلسين ـ فى أن أكشف لأجيالنا الواعدة بعضاً من مداخل " الطريق المستقيم " فى سعينا للأبدية، وننجح فى أن نقول " لا " للأنا ... نعم " للمسيح " ...
نقف فى تتبعنا للجذور عند بواكير القرن الرابع عندما تحرك قلب الشاب الثرى " أنطونيوس " المصرى فى تفاعل تلقائى مع صوت الله الذى جاءه عبر قراءة إنجيل القداس، ليترك كل شئ ـ بحسب الآية ـ ويخرج باحثاً عن هدوء وسكينة يتيحان له مثلهما فى داخله، فيتهيئ لسماع المزيد من صوت الحبيب ويتدرج ليصل إلى عمق الصحراء، ويلتقى بعد حين بسابقه أنبا بولا رائد النسك العظيم ليفوح عطرهما فيغطى العالم كله وتتأسس الرهبنة القبطية فيما عرف فى بادئ الأمر "بالرهبنة الأنطونية " والتى (كان قوامها فى عصرها الأول ينطوى على العزلة الفردية التامة، وإغراق الراهب فى ضروب الزهد وتعذيب الجسد، كما كانت حياة القديس أنطونيوس مثلاً أعلى لهذا النوع من النسك) (أ.د. رؤوف حبيب : الرهبنة الديرية فى مصر . ص 37)، ولكن هذا لم يمنع القديس انطونيوس من النزول إلى العالم ليقف مع أبنائه فى كنيسة العالم عندما إقتضت الضرورة ذلك، وتعضيدهم وتثبيتهم على الإيمان المستقيم، فى موقفين بارزين :
أولهما: إبان محنة الإضطهاد الذى أهاجه الإمبراطور مكسيميانوس (311م) .
وثانيهما: عندما سرت بدعة آريوس وكادت تبتلع إيمان الكنيسة قاطبة، فيما يخص شخص السيد المسيح، وتصدى لها ق. أثناسيوس الرسولى فى نزال عصيب، فإذا بالأنبا انطونيوس يصير دعامة لا تلين تحمى الإيمان القويم للعالم كله .
ويتوالى عبر القرنين الرابع والخامس بروز آباء عظام أرسوا قواعد الحياة الرهبانية، ولم تكن الكنيسة الرسمية هى المحركة أو المحرضة أو الداعية لهذه الحركة (الرهبنة). بل كانت وبحق "حركة شعبية مدنية بالأساس" كما لم تكن رتبة كهنوتية كنسية، بل هى تعبير شعبى عن حب جارف للفادى والمخلص، ضاق عليه العالم ـ على اتساعه ـ فكان الترك والفقر الإختيارى وكان النسك والتقشف . كانت حركة باتجاه البحث عن خلاص للنفس فى وعى مستنير يستشرف الأبدية ويستحضرها ويعيش بها، بل ويعيشها .
وتأسست الحركة الرهبانية ـ بحسب إجماع الدارسين ـ على ركائز أربع هى: [ البتولية ـ الوحدة ـ التجرد (الفقر الإختيارى) ـ الطاعة ]، ويحوط هذا كله " فكر الإتضاع "الذى يحمى مسيرة الراهب فى سعيه للأبدية، وبه يشعر الراهب بحاجته المستمرة لرحمة الله، وهى ركائز لها أبعادها الكتابية والإنجيلية، وتأخذ عمقها وحيويتها وتواجدها من ديمومة " الإستنارة " التى يعطيها الروح والتى بغيرها تتحول إلى مطالب مجردة لا تعطى شبعاً أو توصل إلى حياة مستقرة وثابتة فى المسيح .
ومرجع قوة التوجه الرهبانى وصموده أمام المحن والزمن والمتقلبات العاتية ـ فى زمن القوة ـ أنه توجه شعبى لم يحركه أو ينظمه سوى شهوة الإلتصاق بالفادى فى اختبار حب جارف لم يقو العالم أو الذات أو الشيطان ـ ثلاثية الأعداء ـ مجتمعين أو منفردين، على الوقوف أمامه أو احتوائه أو عرقلة خطواته .
وتجرى فى نهر الرهبنة مياه كثيرة، ويتصاعد الدور الرهبانى فى تدبير الكنيسة، ويصبح خطاب الرهبنة ومفرداته هو السائد، لتبدأ بوادر فقدان الكنيسة لبعض قدراتها على التواصل مع البيئة المحيطة، هدف خدمتها، فانفصلت الكنيسة عن واقعها, فلم تستطع أن تكون ملح الارض ونور العالم، ولعل هذا ما اكتشفه شباب الأربعينيات وشكل الدافع الرئيسى لتحركهم .
وهنا تبرز أسئلة حائرة :
من خلال عقد مقارنة بين الواقع الرهبانى الكنسى المعاصر وبين الجذور، نطرح بضع أسئلة بحاجة إلى إجابات موضوعية أمينة ومجردة :
o كيف ولماذا ـ توغلت، ثم سيطرت، الرهبنة، وهى توجه شعبى خالص، وهى منهج نسكى تقشفى خالص وخاص بمن يقبلونه طواعية ولا يمكن باى حال ان يكون هذا المنهج هومنهج الكنيسة كلها ، إلى مضمار الخدمة الرسمية الكنسية ؟!.
o كيف تطور هذا الدخول إلى الدرجة التى صارت فيها مقاليد المراكز التدبيرية القيادية قى الكنيسة فى يد الرهبنة وحدها ؟!.
o ثم من يخضع لمن : الرهبنة أم الكنيسة ؟.
ولا أدعى أننى أملك إجابة دقيقة علمية على هذه التساؤلات، وإن كنت انتظرها ممن يملكونها ... شريطة أن تكون موثقة وموضوعية وكتابية آبائية , ...هادئة !!.
ملاحظتان :
ثمة ملاحظتان لا تخطئهما عين دارس لتاريخ حركة الرهبنة، نتوقف أمامهما ونطرحهما :
الأولى : أن رواد الرهبنة الأوائل ـ فى عصور الإزدهار ـ لم يحصلوا على أية درجة كهنوتية بل رفضوا هذا بإصرار، وهربوا من الضغوط المتوالية من قِبل الكنيسة لإعطائهم أياً منها حتى درجة الشموسية، وكان الهروب لا من باب الإتضاع بقدر ما كان مبعثه إمتلاكهم لقدر كبير من الوعى الروحى المستنير والمستقبلى، المستوعب للهدف الذى من أجله خرجوا من العالم، وتيقنهم من أن خروجهم إلى درجات الكهنوت الرسمية وانفتاحهم عليها سيقودهم إلى مخاطر عدة لعل منها تحمل مشغولبات جديدة تفوق تمتعهم بالوحدة مع المسيح وفيه (نيافة الأنبا باخوميوس ـ مطران البحيرة ـ الرهبنة القبطية ص 32 )، ثم الصراعات التى يمكن أن تتولد فيما بينهم عندما يطرح سؤال يفرزه تنظيم العمل الجديد : من يجلس على اليمين ومن يجلس على اليسار؟ وطاحونة الأحقية المدمرة.
الثانية : أن الآباء الأساقفة المعاصرين الذين تناولوا الحركة الرهبانية فى كتاباتهم، لم تستطع كتاباتهم أن تخفى أنيناً مكتوماً يعتمل فى قلوبهم، وأزعم أن هاجسهم فيه أن يجدوا فرصة للعودة إلى قلاليهم !!.
فالرهبنة عند الأنبا يؤانس أسقف الغربية (مذكرات فى الرهبنة المسيحية.): مسلك تعبدى وطريق اعتزال وانفراد فى الصحارى والبرارى والقفار، ولها مراتب ودرجات روحية مستقلة عن درجات الكهنوت . ويذكر مؤكداً: أن آباء الإسكيم ( مؤسسى الرهبنة ) قد حرصوا طيلة حياتهم على عدم نوال أية درجة كهنوتية حفاظاً على الرهبانية كطريق للتعبد الخالص وصوناً لفكرتها الأصلية نقية من كل هدف للبلوغ إلى مراتب الكهنوت . ويرى أن قمص الدير أو قمص البرية أو الإيغومانس فى الرهبنة لا تعنى بالضرورة أن صاحبها يحمل درجة كهنوتية، بل كانت فى بعض الأحيان تمنح له باعتباره (مدبراً) للدير أو
البرية، وقد يطلق عليه ( الأبا ) أو ( الأنبا ) بغير أن يحمل درجة كهنوتية
ويرى نيافة الأنبا باخوميوس (أنه كمبدأ فإن الكنيسة حالياً تسمح للرهبان بالمشاركة فى مسئولياتها للضرورة، ولكن لا يجب على الرهبان مزاولة أى عمل بالكنيسة لأن حياة المجتمع تمنع الراهب من ممارسة تأملاته الفردية الضرورية له ليكون مع الله.
والرهبنة عند الأب متى المسكين (كتاب الخدمة جزء 3) " دعوة " لها خصوصيتها ولها منهج معين فى السلوك والصلاة، وتختلف عن دعوة الكهنوت ويرى أن : المدعو للرهبنة عليه أن يبنى قلبه وفكره وكل حياته على سيرة الآباء القديسين ويضع أمام عينيه باستمرار وصيتهم الأولى والعظمى : أن يبتعد عن العالم والرئاسات وأن ينتبه إلى أن الحرب ضده ستكون بحب الخدمة وسط العالم، وهى إلحاح من اللاشعور للهروب من الواقع.
وتتأكد نفس المعانى فى دراسة للأستاذين الدكتور عزيز سوريال والدكتور منير شكرى (أ.د.عزيز سوريال و أ.د. منير شكرى : عبقرية القديس باخوميوس .) إذ يريان : أن الرهبنة حركة علمانية لم يكن للكنيسة دخل فيها، ولم يكن الرهبان سوى جمهرة من العلمانيين الأتقياء، وكان تركيز الراهب منصب على وسائل خلاصه. ولم يُرفع أحد إلا بشكل استثنائى جداً إلى مرتبة الكهنوت وخدمة لجماعته.
ويفسران إصرار الأنبا باخوم ـ أب الشركة ـ على عدم نوال أبنائه أية درجة كهنوتية بأنه يرى ذلك حتى لا يحدث شجار وحقد أو شقاق بين الإخوة، وبحسب قوله: أنه كما أن الشرارة التى تسقط على القمح كفيلة بأن تقضى على عمل سنة بكاملها هكذا فإن الفكرة فى أية رتبة كهنوتية قد تشعل فى القلب الطمع فى أشد صوره، وتقضى على السلام الذى يرفرف على الدير .
وقد أوجز الدكتور رؤوف حبيب (الرهبنة الديرية فى مصر ) معنى الرهبنة فى قوله : الرهبنة معناها الزهد والتنسك والإنعزال والإنفراد بقصد التبتل والعبادة مع إختيار الفقر طوعاً .
وبعد... لعلنا متفقون على أن الرهبنة هى واحدة من مسالك السعى للأبدية فى الأساس بحسب صورتها النقية، لا تتقاطع أو تتصادم مع مسالك أخرى تعيش فى العالم وتتفاعل مع مشاكلة وأزماته.
:::::::::::::::::::::::::
يبقى أن نطرح ضوابط الرهبنة كما رآها أحد مؤسسيها "القديس مقاريوس الكبير" (القرن الرابع)، وأحد أعلامها "القديس يوحنا الدرجى السينائى" (القرن السادس). ومعهما نضع ايدينا على الأسباب الحقيقية لاختلالات الرهبنة المعاصرة، وربما ندرك دوافع مصرع الأنبا ابيفانيوس رئيس دير أنبا مقار.