مقاومات وثورات القبط للغزو العربي
فاروق عطية
٠٠:
١٢
ص +02:00 EET
الاثنين ٢٠ اغسطس ٢٠١٨
فاروق عطية
يظن الكثيرون أن المصريين شعب مستكين قانع بحياته لا يقاوم الظلم ولا يثور، وهذا فهم خاطئ لطبيعة المصريين. كلنا نعلم أن الطبيعة الجغرافية للسكان تشكل الكثير من طبائعهم, والمصريون قد حبتهم الطبيعة بأرض زراعية سهلة الزراعة ونيل متدفق يبعث النماء والاستقرار فانعكس ذلك على سلوكهم الهادئ الوديع. فهم شعب مسالم طيب ودود صبور جدا ولكنه حين يتعرض للظلم يثور ثورة عارمة وينطبق عليه القول" يكفيك شر ثورة الحليم إذا غضب". وفى هذا المقال نستعرض ثورات المصريين ضد الغزاة العرب بعد هزيمة الرومان. وقد ظن المصريون أن العرب أخف وطأة من الرومان ولكن كأنهم استجاروا من الرمضاء بالنار، فكانت ثوراتهم المتوالية.
اعترف المؤرخون العرب رغم أيدولوجيتهم الإسلامية بالجرائم الوحشية التي ارتكبها العرب ضد شعب مصر بعد الغزو. اعترفوا بها كمدافعون عن العرب والإسلام، أمثال الطبري والبلاذري والسيوطي إلخ. ورغم حديث المقريزي عن ثورات المصريين ضد الاحتلال العربي:
الثورة الأولى: ثار إثنين من رجال الاقباط هم مينا وقزمان ووضعوا أرواحهم للدفاع عن انفسهم وقراهم وقادا مجموعه من الاقباط المدربين على حمل السلاح ودافعوا عن قراهم فى بساله وشجاعه ضد جنود العرب والاروام المدربين جيدا على القتال ( تاريخ الامه القبطيه ج2-3 ص136-137 ), وقاومت مدن شمال الدلتا الغزو العربى مثل إخنا - رشيد - البرلس - دمياط - خيس - بلهيب - سخا - سلطيس - فرطسا - تنيس - شطا - البلاد الواقعه باقليم البحيره وغيرها، اما مدن وقرى الصعيد فقد ظلت منفصله تقاوم لمده سنه تقريبا. ومن القري التى قاتلت عمرو بن العاص قريه يقال لها بلهيب واخري يقال لها الخيس وقريه يقال لها سلطيس، ولما ظهر عليهم الغزاة استحلوهم وسبا عمرو أهلها ارسلهم ليباعوا كعبيد فى المدينه فردهم عمر بن الخطاب الى قراهم قائلا: ان تجعل الاسكندريه وهؤلاء الثلاث القريات ذمه للمسلمين، وتضرب عليهم الخراج. ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط قوة للمسلمين على عدوهم ولا يجعلون فيئا ولا عبيدا ففعل ذلك ( كتاب خطط المقريزى ج8 ص309-310) ومات كثير منهم فى الرحله الى المدينه والعوده من المدينه الى مصر.
مذبحة وردان ونقيوس: عندما واصل العرب زحفهم قاصدين الاسكندريه مروا بمدينة تسمى طرنوتى ويسميها العرب الطرانه، دار قتال هناك وانهزم الروم ومر العرب بعد ذلك على قريه على الجانب الغربى من النيل تعرف اليوم ب(خربه وردان) قال سعيد بن عفير: ( أن وردان عدل لقضاء حاجته عند الصبح فإختطفه اهل القريه وأخفوه عندهم فتفقده عمرو وسأل عنه وقفا أثره فوجدوه فى بعض دورهم فأمر بإخرابها وإخراجهم منها ) وقيل ان اهل القريه كانوا رهبانا كلهم فغدروا بقوم من صحابه عمرو فتوجه اليهم وردان فقتلهم وخربها (المقريزى ص309). وصل العرب الى نقيوس وهى مدينه تقع على فرع رشيد فى الشمال الغربي من منوف ( قريه أبشادي وزاويه رزين حاليا ) وكان سكانها من الاقباط المسالمين ومركزا لاسقفيه كبيره وكان اسقفها فى ذلك الوقت هو يوحنا النقيوسى الذى عاصر الغزو العربى ورأى وشاهد وكتب تاريخه بكل دقه ووقائعه بكل أمانه (كامل صالح نخله ص87) قال المؤرخ يوحنا عن مدينته ورعاياه : عندما دخل العرب إليها قتلوا كل من وجدوه بها فى الطريق من اهلها ولم ينج حتى من دخل الكنائس ائذا ولم يتركوا رجلا او إمرأة ولا طفلا، ثم إنتشروا فيما حول نقيوس فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوهم هناك. وحدث حوالى سنه 23/25 هـ إنحاز بعض الأقباط الذين يسكنون ضواحى الإسكندريه الى البيزنطيين وإنضموا إلى صفوفهم وساعدوهم على نزول مراكبهم، وقام البيزنطيين بهجوم مضاد على العرب، وقد علل المؤرخون المسلمون العرب "ابن عبد الحكم ص176/177" هذا الإنحياز بالحادث التالى فقالوا: ( كان سبب نقض الأسكندريه هذا أن صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما على أحدنا من جزيه فيصير لها، فقال عمرو وهو يشير الى ركن كنيسه: لو أعطيتنى من الركن الى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانه لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف علينا خففنا عليكم ). فغضب صاحب إخنا فخرج الى الروم.
الثورة الثانية: فى سنة 107 هـ كانت شرارة الثورة. قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ (في كتاب أمراء مصر وأمرة الحر بن يوسف أمير مصر): كتب عبد اللّه بن الحبحاب صاحب خراجها إلى الخليفة هشام بن عبد الملك بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة فزاد على كل دينار قيراطًا فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية وعامة الحوف الشرقيّ فبعث إليهم الحر بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير، ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر. ثم انتقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة 121هـ، فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان فقتلوا من القبط ناسًا كثيرًا وظفروا بهم. وخرج عليهم بَخْنَسْ رجل من القبط في سمنود فبعث إليه عبد الملك بن مروان، موسى بن نصير أمير مصر فقتل بخنس في كثير من أصحابه وذلك في سنة 132هـ. وخالفت القبط برشيد، فبعث إليهم مروان بن محمد عندما دخل مصر فارا من بني العباس بعثمان بن أبي قسعة فهزمهم. وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ونابذوا العمال وأخرجوهم، وصاروا إلى شبرا سنباط وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه مصر فخرجوا إليهم، فبتهم القبط وقتلوا من الغزاة الكثير. فألقى الغزاة النار في عسكر القبط وانصرف الغزاة إلى الفسطاط منهزمين. ومن حينئذِ أذل العرب الغزاة القبط في جميع أرض مصر وكسروا شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان وغلب الغزاة على القرى فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الغزاة وجيشه بإعمال الحيلة واستعمال المكر.
ثورة البشموريين: أغلبنا لم يسمع عن تلك الثورة، غالبا لأنها اتسمت بسمات الثورة المسيحية ضد الحكم الإسلامي، حتى وإن كان هذا الإدعاء غير صحيح تماما ولكن كان من الأفضل السكوت عنها. وبداية فالبشموريين هم سكان المنطقة الواقعة بين فرعي دمياط ورشيد، المنطقه الرملية علي الساحل شمال الدلتا حيث كانت تحيط بها الأحراش والمستنقغات التي كانت تعيق حركة جنود الفاتحين الذين لم تكن لهم دراية بطبيعة المنطقة، مما ساعد أبطال البشمورييين علي إعطاء جنود الغزاة درس خلده التاريخ. طبيعة الارض موحلة حيث يتم فيها اختلاط مياه بحر الروم بمياه النيل العذبة وترسب الطمي ترسبا قويا متينا في بعض المواضع بينما بقي خفيفا في مواضع أخرى من الأرض وباتت له سيولة وزلاقة تغوص فيه اقدام السائر وأقل إهمال او عدم احتراز قد يؤدي الي الغوص والتهلكة لان كثيرا من مواضع تلك السيولة ليس له قرار ويمكن ان يبتلع الانسان ويحتويه داخل الطين، وكان أهالي البشمور قد تمرسوا عليها منذ الصغر وقد بنوا كورهم وقراهم على ما بها من مواضع راسخة التربة. كانت تلك المنطقة ذات أغلبية مسيحية تعمل في صناعة ورق البردي الذى كان العالم كله فى ذلك الوقت يستخدمه لتسجيل علومه ومعارفه وفى مختلف أنشطه حياته اليومية. لم يقاوم البشموريين الاحتلال العربى بمفردهم بل شاركهم معظم الأقباط الذين رفضوا هذا الإحتلال وإشتركوا مع البشموريين فى ثورات شامله ضد الغزو العربى فأقلقوا الجيوش العربيه، وكادت هذه الثورات أن تقضى على الوجود الإستعمارى العربى فى مصر. وقد إستمر قتالهم مع العرب لمده 83 سنه بين هدوء نسبى وسكون وقتال بلا هواده ولم يكن الأقباط المسيحيون وحدهم يقاومون التدخل الأجنبى والإحتلال العربى بل شارك الأقباط المسلمون (المتحولون للإسلام خوفا من القتل والعجز عن دفع الجزية) فى الثورة أملا فى أن يروا مصر حرة من الإستعمار العربى. فقد أدرك الأقباط انهم بالغوا فى حسن ظنهم بالعرب الغزاة الذين كان همهم الأول هو جباية الضرائب لاستغلالها فى حروبهم الدمويه ضد المتمردين والمطالبين بالخلافه، أو لغزو أمم أخرى للتوسع ولمزيد من السلب ونهب الثروات. وزادت خيبه أملهم عندما أدركوا أن الفاتح الجديد كان يريد أن ينعم بثمره إنتصاره دون مراعاة لمعاناتهم لهذا وضعوا نصب أعينهم هدفا واحدا هو التحرر من ربقتهم. ويقول المقريزى المؤرخ (فى كتاب الخطط ج1، ص89/78): "ان هؤلاء القوم (يقصد البشمورين) كانوا أكثر توحشا وتعنتا من سائر سكان مصر وقد أقلقوا السلطات، ألم يناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الأسكندريه فى أيدى عمرو؟ ألم يكونوا أول من قام بإعلان الثوره ضد جباة الضرائب؟". دفع العرب بتجبرهم البشموريين على مواصله القتال بلا رجعه ولا عودة للاستعباد ثانيه حتى لو كلفهم الأمر فنائهم، فأخذوا يصنعون الأسلحه وحاربوا الخليفه علانية. قتلوا كل من جاء إليهم وسيطا وخاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم فى العدد والعتاد وبذلوا حياتهم فى سبيل عيشه حره فى وطنهم الذى داس عليه من لا يعرف معنى العيش بكرامه وحريه، وحكمه ناس لا يعرفون معنى الحرمه.
وقد تعددت ثوارتهم من قبل، إلا ان تلك الثورة كانت هي الأقوى، فقد كان والي مصر، في ذلك الوقت عيسى بن منصور، وقد اشتهر بقسوته في تحصيل الخراج والجزية حتى أن ابن اياس المؤرخ المصري يذكر ان في عهده اضطربت أحوال الديار المصرية، وخرج أهلها عن الطاعة وحدثت مواجهات عسكرية بينهم وبين قوات عيسى بن منصور خصوصا في الصعيد وفي بشمور، واشتدت ثورة أهل بشمور فأرسل اليهم أحد رجاله، ويدعى غيث بن سعيد، ليحصل الجزية والضرائب، ويخمد عصيانهم ولكن استمرت ثورات المصريين ضد حكم عيسى بن منصور. واذا كان البعض يدعي ان تلك اثورة قامت على أساس ديني فإن أقوال المؤرخين أوضحت أن تلك الثورات، شارك فيها أهل مصر مسلمين ومسيحين وعربان، فالمقريزي كتب عنها " انتفض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها".
يقول ساويرس بن المقفع مبررا لثورتهم :عامل العرب البشموريين علي الاخص في غاية القسوة فقد ربطوهم بسلاسل الي المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء فاضطر البشمورين ان يبيعوا اولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب. ولما اقتنعوا نهائيا ان هذا الظلم لا يحده الا الموت وان بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها، وانه يعد من المستحيل على جيوش الغزاة ان يطأوها فقد اتفقوا على اعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية.
لا نبالغ إن قلنا إنها كانت أشبه بحرب نظامية استعملت فيها استراتيجية المنطقة. وقد أسفرت هذه الثورة الى هزيمة جيش الغزاة هزيمة منكرة. وفرّ أمامهم الوالي يتبعه جبأة الضرائب، الأمر الذي جعل المأمون الخليفة العباسي في بغداد يُرسل أخاه المعتصم على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليدعم جيوش الاحتلال في اخماد الثورة القبطية وعلى الرغم من وحشية الحملة وذبح الأطفال والشيوخ وانتهاك الحرمات، إلا أن ثورة الأقباط لم تخمد ولم تهدأ مما اضطر المأمون إلى ارسال جيش آخر من الأتراك بقيادة أفشين التركي بغرض التنكيل بالثوار، فحاربوه وقتلوا من الجيش عددا وافرا، ثم جرد عليهم عسكر آخر فكسروه. تقول الدكتورة سيدة الكاشف: "وقد فشل أفشين تماما في اخماد ثورة البشموريين مما اضطره أن يكتب الى المأمون الخليفة العباسي في هذا الوقت طالبا امدادات للقضاء على الثورة التي اندلعت في كل مكان في محاولة للتخلص من نير الطغاة". كما يقول الدكتور جمال الغيطانى:"إن الارتباط بالأرض نتاج طبيعي للوضع التاريخي والجغرافي والحضاري لمصر، فإذا ما أراد عدو أن يزحزح الانسان المصري عن أرضه، فإلى أين يذهب إذ ليس حوله إلا الصحراء من كل جانب. وإذن فإما أن يموت شهيداً فوق أرضه أو يتجه إلى الصحراء". وتمسك القبطي بأرضه ووطنه حتى الموت، يشهد على ذلك العدد الهائل من الشهداء الأقباط الذين افتدوا مصر منذ القدم وحتى وقتنا. فمصر للأقباط بلد ملايين الشهداء".
في سنة 824م أضطر الخليفة المأمون أن يزحف من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية لإخماد ثورة الأقباط التي فشل في إخمادها كل قواده الذين أرسلهم سابقاً. وكاد ثوار الأقباط أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن الخليفة العباسي التجأ إلى أخبث الطرق الغير شريفة للقضاء على الثائرين، ذلك أنه استدعى الأنبا ديونيسيوس البطريرك الإنطاكي واستدعى معه الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط وطلب منهما تحت التهديد أن يتعاونا معه في إخماد ثورة الأقباط. وقد أجابا بكل أسف طلب المأمون. كتب البطريرك يوساب الأول خطابا الى البشموريين محاولا إقناعهم بعدم قدرتهم على مقاومه الخليفه بالسلاح وأن ينصرفوا عن مواصله الحرب، فلم يثنهم هذا الخطاب ولم يؤثر فيهم. فارسل لهم الخطاب تلو الآخر ملحّا فى رجائه حتى ضاق البشموريين من هذا الإلحاح وانقضوا علي الأساقفه حاملين لهم الرسائل وجردوهم من ملابسهم وأمتعتهم ثم أوسعوهم سبا وشتما، ولما عاد هؤلاء الى البطريرك وقصوا عليه ما حدث لهم، قرر البطريرك أن يترك هذا الشعب الى مصيره. ( تاريخ البطاركه ج1 ص251 ، أقباط ومسلمون د.جاك تاجر102 ). وفي الوقت الذي كان الثوار في أمس الحاجة للمعونة المادية والمعنوية حتى يتمكنوا من التخلص من الظلم والاستبداد الأجنبي إذ بالقادة الروحيين ينخدعوا فيدعوهم إلى الاستسلام. وكان هذا الموقف من طرف القادة الروحيين له أثره البالغ على الأقباط أكثر من كل جحافل المأمون وطواغيته. ولكن على الرغم من كل هذا فقد رفض آباؤنا الأقباط في إباء وشمم هذه النصائح الاستسلامية وفضلوا أن يعطوا أرواحهم فداء لمصر وعقيدتهم وهنا تذكر "الخريدة النفيسة" ذلك الحدث فتقول: واستعدوا لمقاومة من يقصد سلب استقلالهم وإذلالهم. وبعد حروب دموية بينهم وبين عساكر المأمون كان النصر دائما في جانب الثوار. وقاد الخليفة الجيش بأجمعه الى حومة الوغى وأطلق نار الحرب... ولم يدخر من قوته وسعا حتى أضعف الثوار، كما استعان الغزاة ببعض سكان القري المجاورة الخونة ليرشدوا جيش الخليفة للوصول الي البشموريين خلال المستنقعات التي عجز الجيش علي الدخول اليهم في الغزوات السابقة.
ويذكر المقريزي ان المأمون قد تبرأ من افعال واليه عيسى بن منصور التي أوصلت البلاد لهذا الوضع، فإنه يبقي مسؤلا عن أفعال ولاته، خصوصا أنه لم يحاكمهم عن أفعالهم واكتفى بعزلهم، بل أن عيسى بن منصور عاد بعد ذلك بسنوات عديدة واليا على مصر مرة أخرى. قالت د. سيدة اسماعيل الكاشف عن بسالة هؤلاء الثوار: " ركز المأمون جميع قواته ضدهم وأعمل فيهم جنده السيف وأحرقوا مساكنهم وهدموا كنائسهم". وتضيف:" دخل الجيش بلاد البشمور وحرق مدنها ودمر كنائسها وقتل صغارها وسبى نساءها وأجلى الخليفة رجالها إلى جزر الروم الخاضعة له وإلى بغداد وهكذا أبيد البشموريين على بكرة ابيهم". وأما المقريزى فيقول:" انتفض القبط فأوقع بهم الأفشين على حكم الخليفة المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر".
وأخيرًا رضخ الأبطال للأمر وسافروا على سفن إلى أنطاكية حيث أرسلوا إلى بغداد وكان يبلغ عددهم ثلاثة آلاف، مات معظمهم في الطريق أما الذين أسروا في أثناء القتال فقد سيقوا كعبيد ووزعوا على العرب، وبلغ عدد هؤلاء خمسمائة، فأرسلوا إلى دمشق وبيعوا هناك. وأمر المأمون بالبحث عمّا تبقىَ من البشموريين في مصر وأرسلهم إلى بغداد -عاصمة الدولة العباسية آنذاك- حيث مكثوا في سجونها. وعندما أحرز المأمون النصر سنه 832 م مكث شهرين في مصر ثم ذهب إلى بغداد ولم يعش غير عده شهور وتوفى في خريف833 م، ثم تولىَ الخلافة أخوه المعتصم فأطلق البشموريين من السجون، ربما لشعوره بالذنب مما فعله الولاة تجاههم. وعاد البعض إلى بلادهم وبقي البعض الآخر في بغداد.
هذا تلخيص لثورة استغرقت ما يقرب من ثلاث سنوات راح ضحيتها آلاف المصريين وأجبر آلاف آخرين على الرحيل منها حدثت في أحد أزهى أوقات الخلافة العباسية.
الكلمات المتعلقة