الأقباط متحدون - البابا والراهب وأنا
  • ١٩:٥٤
  • السبت , ١٨ اغسطس ٢٠١٨
English version

البابا والراهب وأنا

مقالات مختارة | عادل حمودة

١٣: ٠٦ م +02:00 EET

السبت ١٨ اغسطس ٢٠١٨

عادل حمودة
عادل حمودة

خلافات البابا شنودة والأب متى حول الدور السياسى للكنيسة وراء اغتيال رئيس دير أبو مقار
الراهب متى المسكين كان أب اعتراف البابا شنودة ورفض أن يتولى منصبه بعد أن حدد السادات إقامته فى وادى النطرون

تبدأ محافظة مطروح بمدينة الحمام وما أن تعبر حواجزها الأمنية حتى يتسلمك سور مرتفع يمتد مسافة طويلة تتدلى منه زهور شجرة الجهنمية بألوانها الناعمة وأشواكها الحادة ولكن يصعب اكتشاف ما يخفيه أو معرفة من يسكنه.

هناك نفى الأب متى المسكين نفسه وقضى سنوات عمره الأخيرة زاهدا متعبدا حتى لا تؤثر الاجتهادات والتفسيرات الدينية المختلفة بينه وبين البابا شنودة عن وحدة الكنيسة القبطية وقوة تماسكها وتوافق رعاياها.

وتسامى أبناؤهما الرهبان عما يفجر الفتنة فى الصدور ويزرع الغل فى القلوب تاركين الكبار لشأنهم وعلمهم.

بدا ذلك واضحا فى كلمات رهبان دير الأب متى المسكين المعروف باسم دير أبو مقار أثناء تصوير حلقة عن الأب متى المسكين لبرنامجى حكاية وطن ولاحظت يومها تكرار لقب المقارى بين الرهبان مثل يؤئيل المقارى وارينيوس المقارى وجبرائيل المقارى وأحمد الله أنه لم يكن بينهم أشعياء المقارى الذى اتهم بقتل رئيس الدير الأنبا أبيفانيوس.

لم يحتمل القاتل المتطرف خلافا بالكلمات فلجأ إلى الضربات.

الجريمة جنائية ولكن وراءها غالبا دوافع عقائدية اختفى فيها التسامح وأمسك فيها التشدد بماسورة طولها نصف متر كسرت جمجمة الراهب الضعيف فى مشهد مؤلم لم يكن متوقعا.

على أن ما يزيد الحادث شدة وألما أنه وقع فى دير أكثر الرهبان تفتحا فهل كانت النيران تغلى فى الصدور بينما الوجوه هادئة؟.

قبل 19 عاما بالتحديد فى صيف 1998 استقبلنى الأب متى فى استراحته بطلب منه لنتحاور بحرية دون قيود أو تنصت كما حدث من قبل مع هيكل.

ما أن جلس هيكل أمامه حتى رفع الحرج عنه وسمح له بالتدخين ولكنه لم يجامله منتقدا كتاب خريف الغضب قائلا: كان على كاتب كبير مثلك أن يوجه النصح للسادات لتلافى الصدام مع رموز الأمة الدينية والسياسية والصحفية واعتقالهم قبل شهر من اغتياله.

وأضاف: يا أستاذ هيكل السادات كان يشعر بأنك عامل رأسك برأسه فلم يطق أحدا حتى نفسه.

كان موقف الأب متى من أحداث سبتمبر 1981 مختلفا تماما.

كان السادات قد استدعاه ليجلس على العرش البابوى بعد أن نفى البابا شنودة فى صحراء وادى النطرون ولكن الأب متى رفض قائلا: إن البابا شنودة اختيار الرب لا ينزعه من كرسيه أحد أما أنتم يا سيادة الرئيس فقد صدقت على الاختيار بقرار جمهورى وسحب القرار لا يمتد إلى إرادة السماء.

لم يستثمر الراهب المثقف خلافاته مع البطريرك ويزيد من الهوة بينه وبين السادات وإنما بقدرته الرحبة على التوافق سعى جاهدا لتحقيق السلام بين الدولة والكنيسة ليكسبا معا مزيدا من التفاهم والاستقرار.

فيما بعد دعانى البابا شنودة إلى منفاه فى الدير المختار ولاحظ أنه كتب على غرفة ما المقر الباباوى قائلا: المقر الباباوى ليس الكاتدرائية المرقسية وحدها وإنما المقر الباباوى حيث يوجد البابا.

ولد يوسف إسكندر عام 1919 وتخرج فى كلية الصيدلة عام 1940 وافتتح صيدلية فى دمنهور تنازل عن مساحة منها بلا مقابل لحلاق مسلم هو الأسطى محمود أراد توسيع مكانه ثم تنازل عنها كاملة عندما قرر تكريس حياته للرب ودخل سلك الرهبنة ليصبح أول راهب يحمل شهادة جامعية واختير له اسم متى المسكين.

كانت اللحظة الفارقة على شاطئ البحر عندما وقعت عيناه على ما أشعره بخطأ ما تسلل إلى جسمه فرجع إلى بيته طالبا العفو من الله.

وفى الليلة نفسها شاهد فى منامه أنه يدخل محطة قطارات الصعيد مسرعا خشية أن يفوته القطار وعندما جاء القطار وجده فارغا إلا من شخص واحد هو السيد المسيح يومها أدرك أن الله اختار طريقه فلم يعترض على مشيئته.

كان ظهور راهب جامعى حدثا غير معتاد وظاهرة لافتة للأنظار ونقطة تحول نحو تصاعد قوة الأديرة فى السيطرة على الكنيسة.

حسب ما سمعت من الراهب جبرائيل المقارى: فإن الأب متى هو باعث حياة الرهبنة فى الجيل الحالى من الرهبان الذين تبعوه ووجدوا فيه قدوة ومثالا طيبا.

بتزايد أعداد الرهبان من حملة الشهادات العليا تضاعف النفوذ الروحى للأب متى وبالتخصصات العلمية التى يتمتعون بها جرى توسيع الأديرة وتنمية مواردها الذاتية مما دعم استقلالها عن الكنيسة الأم وهو ما سبب كثيراً من المتاعب للطرفين وإن بقت تحت السطح لا يجرؤ أحد على كشفها وإلا جرى شلحه من سلك الكهنوت.

تحولت الأديرة بمساحتها الشاسعة فى الصحراء إلى مزارع متميزة فى إنتاجها بخبرة الرهبان الجامعيين فى الهندسة الوراثية التى أخرجت محاصيل كثيفة ليس لها مثيل زادت من ثرواتها عند بيعها فى الأسواق مما جعل الأديرة أكثر ثراء أحيانا من الكنائس.

والأهم أن إنتاج الأديرة الشهى من الفاكهة واللحم أغرى رهبانا فيها بتناوله بعد أن كان طعام الأجيال السابقة خبزا مبلولا خشية تمرد الجسد من تناول الدسم وبوجود صفحات لرهبان على الفيسبوك تحول بعضهم إلى نجوم لدى مريديهم مما أفقده التقشف وأعاده إلى الدنيا التى هجرها طيعا وربما لتلك الأسباب تدخل البابا تواضروس بقواعد جديدة تعيد للرهبنة زهدها.

لم يكن الأب متى المسكين يتصور أن ما قدمه للرهبنة من تغيرات حميدة يمكن أن يستغلها البعض بما يؤلم كل من ينتمى إليها.

بدأ حياة الرهبنة فى دير الأنبا صموئيل جنوب مصر وظل هناك عامان ساءت فيها صحته بسبب ملوحة المياه وبعد سنوات قضاها فى دير السريان داخل صحراء وادى النطرون اختير وكيلا للبطريركية فى الإسكندرية وقبل الترشحات لكرسى الباباوية تغير القانون ليشترط البقاء فى الرهبنة 15 عاما فخرج من السباق قبل أن يبدأ.

وما أن جاء الأنبا كيرلس السادس حتى أجبره على ترك بيت التكريس فى حلوان خلال ساعات فغادر الأب متى القاهرة مصطحبا 12 راهبا وتوجهوا إلى وادى الريان (الفيوم) وظلوا فى إحدى مغاراته حسب الكاتب الصحفى أسامة سلامة المتخصص فى شئون الأقباط فإن الأب متى تعرض لمشاكل كثيرة فى الكنيسة إلى حد أن هناك من فكر فى اغتياله بالسم ولكنه لم يتذكر من حاول ذلك.

وما أن تأكد البابا كيرلس من صدق نوايا الأب متى حتى أعاده إلى دير القديس مكاريوس وما أن أحس البابا كيرلس بقرب النهاية حتى طلب من الأب متى أن يحله أى يحرره من الذنب وجاء الرد: أنا راهب بسيط وألح البابا حتى كان ما كان وشهد على هذه الواقعة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس دير أبو مقار وقتها.

رشح الأب متى المسكين لكرسى الباباوية للمرة الثانية بعد وفاة البابا كيرلس ولكن تقارير الأمن التى رفعها ممدوح سالم وزير الداخلية للرئيس السادات ادعت أنه يجنح ناحية الشيوعية ولم يكن ذلك صحيحا والصحيح أن الوزير أعتقد أن التعامل مع الأب شنودة سيكون أسهل من التعامل مع الأب متى ولم يكن ذلك صحيحا أيضا.

منذ اللحظة الأولى لرسمه بطريركا وضع البابا شنودة الكنيسة فى ندية مع الدولة وهو ما سمعته منه مباشرة خلال حواره الأول الذى أجريته معه على صفحات «روزاليوسف» فى شتاء عام 1971 وتحدث فيه عن شعبه من الأقباط واستعداده لحل مشاكلهم الدنيوية قبل الدينية وفى ظل تصاعد التيارات الدينية المدعومة من السادات للتخلص من خصومه الناصريين واليساريين بدأت أحداث الفتنة الطائفية وبرفض البابا لمعاهدة السلام التى وقعها السادات مع إسرائيل وبتظاهرات الجاليات والمنظمات القبطية فى المهجر ضد السادات خلال زياراته إلى الولايات المتحدة وصل الخلاف بين الرئيس والبابا إلى طريق مسدود بلا رجعة فيه إلا بالموت الذى سبق به الرئيس البابا إلى العالم الآخر.

والحقيقة أن البابا شنودة شخصية مثقفة وقوية ومؤثرة نجحت فى توظيف سلطته الروحية فى مواجهات سياسية فلو منع بقرار من الأمن بمنع درسه الأسبوعى أصدر قرارا بعدم الاحتفال بعيد القيامة فى الكنيسة ورفض استقبال كبار المسئولين للتهنئة به.

ووصل موقفه إلى ذروته عندما اعتبر قراراته احتجاجا على اضطهاد الأقباط فى مصر وكانت الجملة الأولى من نوعها وبعدها جرى تحديد إقامته بقرار من قرارات سبتمبر 1981.

على خلاف البابا شنودة كان الأب متى يرى أن سلطة الكنيسة على الأقباط لا تتجاوز الجانب الروحى إلى ما عداه من جوانب دنيوية تتولاها الدولة باعتبارهم مواطنين يحملون جنسيتها وتطبق عليهم قوانينها مثل غيرهم من المسلمين والملحدين.

سمعت من الراهب أرينيؤوس المقارى فى دير الأب متى: إن الرهبنة انعزال عن العالم تماما ولو تدخلت الكنيسة فى الشئون العلمانية يحدث نوعا من التعصب.

العلمانية تعنى أن تختص الكنيسة بشئون رعاياها الدينية وتختص الدولة بشئونهم الدنيوية طبقا لقاعدة: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

ولكن لم تمنع خلافات الراهب مع البابا من تحذير الرئيس من مخاطر عزل البابا أو التحفظ عليه أو إدارة شئون الكنيسة بلجنة خماسية اختارها الراهب وإن رفض الانضمام إليها.

سمعت من الراهب جبرائيل المقارى أنه عاش مع الأب متى نحو 35 عاما لم يسمع منه حديثا مسيئا فى الخلاف بينه وبين البابا فلم يكن يجادل فيما يراه مشيئة الرب وكان يصمت صمت السيد المسيح ولا يحب الظهور ويعيش حياة الرهبنة فى عزلتها بجانب انفتاحه على الآخرين بما يفيدهم.

ما إن انتهى من كتابه «إسرائيل فى رأى المسيحية» حتى قدمه إلى هيكل ليكتب مقدمة تتصدره ولكن هيكل كان حذرا فلم يكتب المقدمة حتى لا يفهم البابا شنودة موقفه خطأ.

ولكن للإنصاف فإن البابا زار دير أبو مقار قبل وفاة الأب متى بنحو سنتين وربما أكثر ليجد استقبالا حافلا من الأب متى ورهبان الدير وعندما مرض الأب متى زاره البابا فى المستشفى مما يعنى أن الراهب والبابا تجاوزا ما بينهما من خلافات وإن بقيت تلك الخلافات كامنة تحت السطح خرجت فيما بعد باتهامات هرطقة على صفحات السوشيال ميديا ووصلت إلى قسوتها بقتل رئيس دير أبو مقار.

كان واضحا أن البابا تواضروس يعرف الحدود الروحانية للكنيسة وانحاز إلى الدولة فى الإطاحة بحكم الإخوان كما أنه ساهم بقدرته الهائلة على التسامح فى إزالة الاحتقانات الطائفية مستوعبا استهداف التنظيمات الإرهابية للأقباط وكنائسهم لتقسيم البلاد ودفعها إلى مصير نالته دول عربية أخرى ومن جانبها دعمت الدولة وجوده ومواقفه بزيارات الرئيس إليه فى مقره للتهنئة بالأعياد فى سابقة لم تحدث من قبل وتراجع شبح الفتنة ربما لأول مرة منذ ما يقترب من نصف القرن.

ولكن التطرف الذى لا يزال بعض الرهبان يحملونه بتأثير مما كان فرض نفسه على التيار المتسامح والداعى لتقارب المذاهب المسيحية والتخفيف من حدة المشاكل الاجتماعية مثل الطلاق فكان ما كان.

هنا لابد من الاعتراف بوجود تطرف فى المسيحية تفرض على الكنيسة مناقشته مع أصحابه للتخفيف منه تمهيدا لعودتهم إلى الصواب.
نقلا عن الفجر

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع