إفراج يا «حلا»
مقالات مختارة | سحر الجعارة
الاربعاء ١٥ اغسطس ٢٠١٨
فى لحظة بعث جديد وقفت «نورا»، بطلة رواية «نور»، رائعة المفكر «يوسف زيدان»، فى مواجهة البحر: «رفعت يدى وخلعت عنى حجابى، دسست الطرحة فى شنطة يدى.. أنا لست هذا القماش الرخو».
لقد قررت أن تكون نفسها، أن تتحمل لدغ النحل الذى يسمونه «نظرات»، وهى ساجدة فى خشوع تصلى صلاتها، بلغة تفهمها وحدها. وفى هذه اللحظة تحديداً لا يجوز لبشر أن يتدخل ليفصل الشريان الممدود بينها وبين السماء!
كلنا «نور» فى لحظة ما، نتخذ قرارنا بارتداء الحجاب أو النقاب «بنفس مطمئنة»، حتى لو عاداه المجتمع بأكمله، حتى لو وقفنا «ضد أنفسنا» وهجرنا كل ما ألفناه وأحببناه، وراهنا على الطريق الخطأ، وانخرطنا وسط أناس لا يشبهوننا، لا يحملون نفس أفكارنا وملامحنا، لا يفهمون طموحنا ولا يحلمون بخيالنا، لنكتشف -فجأة- أننا نعيش فى عالم لا ننتمى له، وأننا أغراب حتى حين ننظر إلى المرآة!
نظرت «حلا شيحة» إلى المرآة فلم تتعرف على نفسها، وجدت المرآة مغطاة بـ«خرقة سوداء» تشبه راية التحذير من الغرق على شاطئ البحر: «أنا لست هذا القماش الرخو»، لست هذه الكآبة، «أنا فنانة»، تلك الفراشة الحرة التى تتنقل من بستان لبستان لتوزع البهجة والجمال، لا التى تقتله!
كانت لا تزال تتأمل «صورتها الحقيقية» فى المرآة، ومن خلف الأبواب يأتيها ضجيج ودموع وتأوهات، وفيديوهات استجداء واستعطاف ورجاء، وكانت المشانق تعلق لأن «فصيلاً ما» قد فقد «واجهة براقة» تم استخدامها (دون وعى منها) للترويج لوجودهم فى «كندا» تحديداً!
لكن صوت الموسيقى بداخلها كان أعلى من صراخهم وأكاذيبهم ودموعهم المفتعلة: «إن أرقى ما فى وجدانى هو (الفن)، اشتغلت وأنا عمرى 13 سنة، وأحببت تصفيق الجمهور من طفولتى. والآن أحن إلى (طبيعتى)، إلى طفولتى التى تشكلت بالرقص والرسم، أحن إلى (حلا) التى أعرفها. أنا لم أنتمِ لأى جماعة، ولم أعرف التشدد أو التطرف يوماً ما، لكننى أعرف الكثير جداً»!
كل من يتباكون على عودتى للفن «يخشون أن أفتح البالوعة (لأن كله هيروح فى الرجلين).. سأفتحها يوم أن أضمن حماية بناتى، أما جوقة الندب واللطم، فلم أسمع لهم صوتاً وهم يرون نساء سوريا والعراق يُقتلن بعد أن يُغتصبن وتُهتك أعراضهن باسم الدين»!
لقد دخلت «حلا» ذلك العالم المسكون بالأشباح وشياطين الإنس، ودون أن تدرى كانت بالنسبة لهم «الصيد السمين»، بعد أن شحّت مواردهم وخسروا مصداقيتهم، ولفظهم الشارع بعيداً.. لكن «خديجة الشاطر» كانت تدرك جيداً «قيمة الكنز» الكامن تحت الخيمة السوداء، لم تكن القصة بالنسبة لها مجرد «أمهات» يجتمعن فى مدرسة الأطفال، كانت «حلا» بالنسبة لها «سبوبة»، حتى دون أن تنطق، يكفى أنها تقدم «الرمز السياسى» لدولة الخلافة المزعومة: «النقاب». ربما فشلت فى تحويلها إلى «كادر إخوانى»، لكن كان يكفيها «صلة ما» تربطها بـ«حلا» لتؤكد أن المجتمع المصرى لم يثر على الفاشية الدينية، وأنه يفرز نماذج تتعلق بـ«زى سياسى» ليس من الشرع ولا السنة فى شىء. ولهذا بدت «خديجة» مفزوعة وكأنما فقدت «أعز ما تملك» وهى مصدومة تعاتب «حلا» قائلة: «ذبحتنى شائعة خلع حجابك بسكين بارد»!، ومجرد استخدام كلمة «شائعة» هو دعوة للعودة إلى خيام البوم السوداء، إلى ذلك العالم الذى لم تكشف «حلا» أسراره حتى الآن.. ثم تعود «خديجة» لترتدى ثوباً ملائكياً، وتهمس لها بأنها ستصلى فى جوف الليل وتدعو لها!
حين اختارت «حلا شيحة» اعتزال الفن وارتداء النقاب، قلنا إنها إنسانة حرة، وعاقلة ومسئولة عن تصرفاتها، وحتى زوجها لن يقف أمام الله ليحاسب نيابة عنها. ورغم حربنا على النقاب، لأنه زى إرهابى يتعارض مع الأمن القومى للبلاد، لم نستخدم حرفاً من اسمها فى معاداتنا للنقاب، لكن «فيلق الإيمان»، الذى يعتبرنا «فيلق الكفر»، قرر أن يشن حرباً ضروساً على «حلا»، وأن يهددها ويتوعدها ويسحب منها «صك الجنة»، وكأن عودة «حلا» لارتداء النقاب هى «أم المعارك» والفريضة الغائبة والجهاد المقدس!
لو كانت «حلا» وجدت فى «النقاب» السلام النفسى الذى هجرت العالم بحثاً عنه لما خلعته، لكنها تهشمت بداخله كقطع زجاج حادة، كانت تجرحها وحدها، لأنها تكرس ازدواجية المجتمع الذى رأت من خلف السواد محاولات تقسيمه «من خلال تصنيفه إلى الحجاب أو النقاب أو خلع الحجاب»، فقررت أن تبدأ بنفسها وتعود لهويتها الحقيقية وترفع التمييز الذى اختارته بإرادتها. سلمت «حلا» قلبها إلى الله وهى مؤمنة باختياراتها، وقررت إدارة حياتها بعقلها.. جمعت الزجاج الذى تهشم تحت النقاب، وتطابقت مع ذاتها من جديد.. أنهت الحرب التى عانتها وحدها «خلف النقاب»، وربما تواجه حرباً مؤجلة مع من ابتدعوه واستثمروه وأسروها خلفه لسنوات طويلة.. «إفراج يا حلا».
نقلا عن الوطن