الأقباط متحدون - بيريسترويكا كنسية (7) - لاَ مُقَدَّسْ إلاَّ اللَّه
  • ١٧:٠٣
  • الاربعاء , ١٥ اغسطس ٢٠١٨
English version

بيريسترويكا كنسية (7) - لاَ مُقَدَّسْ إلاَّ اللَّه

ماهر عزيز بدروس

مساحة رأي

٤٧: ١٠ ص +02:00 EET

الاربعاء ١٥ اغسطس ٢٠١٨

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

    دعماً للجهد البابوى نحو النهضة
    الحاجة ماسة إلى
    بيريسترويكا كنسية (7)

    لاَ مُقَـــدَّسْ إلاَّ اللَّـــه

    دكتور مهندس/ ماهر عزيز
    استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ


    يلتبس وصف القداسة ويختلط فى الاستخدام الحالى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية حتى لقد يطلق على حالات ربما تكون غارقة فى النجاسة ويتعامل معها الشعب المغيب العائش فى الخرافة بوصفها مقدسة.

    فهنالك من واقع السذاجة التى درجت عليها الغالبية -على سبيل المثال- باعتقاد جازم أن مجتمع الرهبنة هو مجتمع مقدس.. صار يتحكم فى تصوراتنا الخيالية المفعمة بالغيبية والظواهراتية اعتقاد صارم بقداسة للديرية قد تبلغ حد الألوهة.. رغم ما يؤكده الواقع من أن الديرية ما هى إلا عالم مصغر حافل بكل خطايا البشر.. وكل مزاياهم أيضاً.. عالمٍ حقيقى كالعالم خارج أسوار الدير سواءً بسواء.. غارق فى الطبيعة البشرية.. ملتصق بها أبداً وليس منزهاً عنها..

    عالم بشرى قُح.. وليس عالماً سماوياً كما بلغت البلاهة بالناس ليعتقدوا..

    عالم من بشر قد تبعدهم أقل الهنَّات عن السواء..

    وقد تجعلهم أقل الخطايا كالعائشين ضد الحياة، وضد الموت أيضاً..

    لكن مجتمع الرهبنة هو مجتمع خاص لا يَصَحُّ أبداً إلا لقلة قليلة جداً يتعين أن يكونوا بحسب قول يسوع قد " خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"(مت 19 - 12).

    وهؤلاء قلة نادرة جداً.. أقل من عشرين فى المليون، وإذا لم يكونوا هكذا مثل كثيرين خدعوا أنفسهم وذهبوا لحياة الديرية عن غير تأهُّل فقد دلَّسوا وأفسدوا الديرية تحت ستار القداسة المزعوم ووهم التبتل الصريع؟

    (على أية حال مقالى عن عالم الرهبنة فى الطريق بعد هذا المقال).

    لكن حتى المؤهلين المختارين يبقوا مكرمين أو مكرسين أو أمناء دون أن تنسب لهم القداسة التى للـه..

    لأن الحقيقة الوحيدة الصادقة وسط كل غشٍ وأى هُرَاء .. هى أن: لا إله إلا اللـه.. وحده القدوس المقدس..
    ولا مقدس إلا اللـه..

    وألقاب القداسة ينبغى أن تكون وقفاً على اللـه – جَلّ جلاله – فلا يشاركه بشر فيها أياً كان ..

    فنسبة القداسة إلى البشر هو نوع من الإيهام والخداع الذى درجت عليه الكنائس عبر العصور.. والكنيسة القبطية الأرثوذكسية على وجه الخصوص..

    ويتخذ هذا الإيهام والخداع صور شتى..

    بدءاً من الأسماء.. حيث تُنزع الأسماء الميلادية وتُمْنَح بديلاً عنها أسماء كتابية أو أسماء لآباء أوائل بَعُدَ بهم التاريخ عنا فلم نعد ندرك منهم إلا هالات القداسة.. بينما فى قصص حياتهم - لو عَرَفنا- لحظات من الخزى بقدر ما فيها لحظات من المجد.. ككل بشر على وجه الأرض.. لكن البعد التاريخى يُسْقِط لحظات الخزى فتصير نسياً منسياً.. ولايتبقى من السيرة الذاتية للاشخاص القدامى سوى لحظات المجد التى تستمرئ العقلية الأسطورية القبطية إحاطتها بهالات القداسة الخداعية.. فيحتلّوا فى الوعى القبطى مكانة اللـه القدوس!!!

    وانتقالاً إلى الزَّى.. تُبْقِى الكنيسة على ملبس صار يشاركها فيه تاريخياً معظم المشتغلين بالدين فى الأديان الأخرى كلها – كأنما اتفق الجميع على نزع السمو الإيهامى الخداعى لأنفسهم على سائر البشر – فى فعل مستمر لإضفاء القداسة المزعومة عليهم، وتمييزهم على البشر أجمعين، إمعاناً فى الإيهام بالقداسة فى عقول البسطاء وغير البسطاء المغيبة الساذجة.

    أما الشكل والمظهر فلابد أن يختلف عما درج عليه البقية الباقية من البشر.. فتطلق اللحية إطلاقاً مثيراً.. وفى السلك الرهبانى يطلق شعر الرأس أيضاً.. لتجثم الصورة الخداعية للقداسة المزعومة على عقول المغيبين، ويستمر سلب القداسة التى للـه وحده.

    فإذا ما تركنا الاسم والزَّى والشكل والمظهر تبقى العقيدة الخرافية الأسطورية تتحكم فى عقول الناس وأفئدتهم بأن تدس فيها على الدوام سمو الوظيفة الدينية على سائر الوظائف البشرية الأخرى فى الحياة.

    وهذه المسألة على وجه الخصوص تم الضرب عليها بشدة عبر العصور حتى صار مجرد انتقال الشخص الطبيعى إلى سلك المشتغلين بالدين امتيازاً فائقاً ينقله كيفياً ونوعياً فى عقول المغيبين من أسرى الأسطورة القَدَاَسَيِة المخادعة إلى درجة أعلى من البشر العاديين الطبيعيين.

    وأقول المشتغلين بالدين.. لأن رجال الدين إذ يُنتزعوا من العامة ويتقلدوا الوظيفة الدينية لا يجعلهم ذلك أصحاب رسالة كما قصدهم يسوع إلا فى ندرة منهم.. بل يصيروا فقط موظفين دينين.. يؤدون للناس الطقوس التعبدية .. لكنها لأنها طقوس ترتبط برفع القلب إلى اللـه رفعهم الناس إلى مكانة أسمى من ذواتهم وخلعوا عليهم القداسة المزعومة.. بميل بشرى طبيعى للإعلاء من شأن كل ما يرتبط بالسماء.. غافلين فى الأساس عن أن الوظيفة الدينية لا تغير أبداً من طبيعتهم البشرية.. فَتَبْقَى مجرد وظيفة كسائر الوظائف البشرية فى الأرض، لا يند عنها سوى أصحاب الرسالة الحقيقيين.. وهم بطبيعتهم قلة فى البشر، يخرجون فى معترك الحياة ذاتها أكثر كثيراً جداً ممن يخرجون من بين المشتغلين بالدين.

    فأصحاب الرسالة هم بشر أشداء مطبوعون على الرؤيا والإرادة والفضيلة، والنماذج التى تظهر منهم فى التاريخ تجعلهم رواداً للقيادة والسمو الإنسانى سواء كانوا فى معترك الحياة أو فى مجال الخدمة الدينية.. لكن تلك الرسالة – حتى فى أعلى صورها – لا تنزع عنهم طبيعتهم البشرية لتخلع عليهم صفات القداسة..

    فأرسطو كان صاحب رسالة ولكنه ليس بقديس..
    وأثناسيوس كان صاحب رسالة لكنه ليس بقديس..
    ونيوتن كان صاحب رسالة لكنه ليس بقديس..
    وذهبى الفم كان صاحب رسالة لكنه ليس بقديس..
    وحبيب جرجس كان صاحب رسالة لكنه ليس بقديس..
    وطه حسين كان صاحب رسالة لكنه ليس بقديس..
    لأن القداسة وقف على اللـه وحده جَلّ جلاله.

    ولا مقدس إلا اللـه.

    والأمثلة الكتابية كثيرة..

    فالأشخاص الذين دأبنا أن نطلق عليهم قديسين فى الكتاب المقدس كانت لهم أيضاً عيوب قاتلة.. وظلّوا بشراً تحت الخطية ككل بشر:


     فنوح البار سَكِرَ

     وإبراهيم المؤمن أُخِذَ عليه أن إيمانه اهتز وضعف فغامر بزوجته أمام فرعون فى سبيل سلامته..

     وموسى خرج عن طوره فكسر فى حادثة غضب شهيرة لوحى الشريعة اللذين تسلمهما من يد اللـه..

     وداود انتهك الوصايا الخمس فى لوح الشريعة الثانى.. فارتكب الزنى، والقتل، والسرقة، وشهادة الزور، والاشتهاء، فى حادثة عصيان أخلاقى واحدة هى حادثة بتشبع..

     وتشوهت شجاعة إرميا المتوحد بالشفقة على النفس..

     ويوحنا المعمدان الذى وصفه يسوع بأنه أعظم المولودين من النساء غلبه الشك..

     وكان تهور بطرس وتَكَبُّره عباءة يخفى تحتها شعوره بالخوف وانعدام الأمن..

    فإذا كان أبطال الكتاب المقدس هؤلاء قد غلبتهم طبيعتهم البشرية هكذا..

    فكيف يأتى واحد ليزعم قداسة جُزافية توكيدية للبشر فى الإكليروس، أو البشر فى الأديرة، بينما " الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ (يلقب بالقداسة) لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ " (رو 3 : 12).

    فماذا يكون تقديرنا لهم إذن:

    لابد أنهم مكرمون لدورهم ووظيفتهم.. لكنهم ليسوا أبداً قديسين.

    فلا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    هم مكرمون كالرؤساء فى الوظائف القيادية.. والأب فى الأسرة.. والمعلم فى الفصل.. وأستاذ الجامعة فى المدرج الجامعى.. وقائد الجيش فى جيشه..

    مكرمون وليسوا قديسين..

    فلا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    والتاريخ الكنسى يشهد على سقوط خرافة القداسة هذه سقوطاً مروعاً.. رغم كل ما يفعلونه بهذا التاريخ ليستنبطوا منه القداسة المزعومة:

     فالرهبان الذين قبلوا رشاوى عمرو بن العاص.. ووشوا بالكنيسة وساهموا فى كسرها وتخريبها.. كانوا فى نظر الناس قديسين، بينما هم فى الحقيقة بلا ضمير كذابين مرتشين خائنين!!!

     والإكليروس والرهبان الذين دسوا السم فى الطعام لأحد الباباوات حين أرادوا أن يتخلصوا منه، شاع على الناس أنهم قديسين.. بينما كانوا فى الواقع بشر مجرمين!!!

     والراهب الذى وشى بالبابا لدى الحكام المتسلطين القساة ليأخذ مكانه غشاً واحتيالاً.. عامله الناس بوصفه قديساً، وهو لص يتخفى فى الثوب الخديع!!!

    والأمثلة كثيرة جداً بلا حصر.. ولا عدد..

    وبعد هذا كله يأتى قوم ليستمروا فى خلع القداسة على البشر مستلبين إياها من اللـه عز وجل؟

    الحق أن البشر جميعاً لا يمكن أن نصفهم بالقداسة أبداً ..

    لأن .. لا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    ولكن هل معنى ذلك أن أمثلة الكرامة منعدمة على طول التاريخ الكتابى والكنسى كله؟

    بالطبع لا ..

    فأمثلة الكرامة أيضاً كثيرة جداً بلا حصر.. ولا عدد..

     الآباء الكبار الذين قدموا طاعتهم للـه وكانوا قادة روحيين وزمانيين مدهشين كإبراهيم، ويعقوب، وإسحق، وإيليا، ونحميا، وموسى: لهم رصيد الكرامة والمجد والقدوة.. لكن ذلك لا يجعلهم يسلبون اللـه القداسة.

     والتلاميذ الذين ساروا فى خطى يسوع وحملوا رسالته للعالم أجمع كبطرس، ولوقا، ومرقس، ومتى، ويوحنا، وبولس: لهم رصيد الكرامة والمجد والقدوة.. لكن ذلك لا يجعلهم يسلبون اللـه القداسة.

     والرهبان الذين نذروا أنفسهم لخدمة يسوع مثل مكاريوس الكبير، وأنطونيوس، وباخوميوس، وبولا، وغيرهم: لهم رصيد الكرامة والمجد والقدوة.. لكن ذلك لا يجعلهم يسلبون اللـه القداسة.

     والنماذج المبهرة للقيادة الروحية التى ظهرت فى الكنيسة بعمومها الشامل فى كل الأرض، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية على وجه الخصوص، كجيروم، وتريزه، وأثناسيوس، ومنسى يوحنا، والأنبا ابرام، والبابا كيرلس، وغيرهم كثيرين: لهم رصيد الكرامة والمجد والقدوة.. لكن ذلك لا يجعلهم يسلبون اللـه القداسة.

    فلا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    لقد أحب الفريسيون الألقاب المميزة مثل السيد.. لكن هذا كان إساءة إلى اللـه الذى تخصه وحده ألقاب السيادة.. فضلاً عن أنها تمزق وحدة البشر فتفرق الشعب إلى سادة وعبيد.. وحاشا أن يكون ذلك فينا..

    وأحب الإكليروس والرهبان فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الألقاب الروحية مثل القديس.. لكن هذا إساءة إلى اللـه الذى تخصه وحده ألفاظ القداسة.. فضلاً عن أنها تمزق الكنيسة الواحدة فتفرق الشعب المُغَيَّب الغارق فى الخرافة إلى مقدسين ونجسين.. فيتصاغر النجسون جداً حتى ليصبح القديسون آلهة.. بينما الجميع زاغوا وفسدوا وتنجسوا.. " لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3 : 12)..

    فلا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    وإذا احتج أحد بالآية: "َتَكُونُونَ لِي قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ" (لا 20 - 26).. زاعماً أن الكتاب المقدس نفسه قد أطلق على الناس العاديين لقب قديسين.. عليه أن يدرك أن كلمة "قديسين" التى خلعها الكتاب المقدس على الناس أو بعض الأفراد أو كثير من رجال اللـه ليست أبداً بالمعنى الذى يخلب عقول الأقباط الأرثوذكس ويسلبهم وعيهم حين يستخدمون كلمة "قديس" أو "قديسين"، ففى تعبيره: " تَكُونُونَ لِي قِدِّيسِينَ" يقصد به "تكونون لى أطهاراً وأنقياء" لتكونوا لائقين للرب.

    وعلى نحوها أيضاً آيات عديدة مثل: "فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ (أى أطهاراً وأنقياء)، لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ"(لا 20 - 7)، و "جَمِيعُ قِدِّيسِيهِ (أى جميع الذين حفظوا أنفسهم بالنقاوة والطهر) فِي يَدِكَ،

    وَهُمْ جَالِسُونَ عِنْدَ قَدَمِكَ يَتَقَبَّلُونَ مِنْ أَقْوَالِكَ" (تث 33 - 3)، و"لأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُونَ فِي الْجَمَاعَةِ لَمْ يَتَقَدَّسُوا"
    (2 أخ 30 : 17) (أى لم يتطهروا ويتنقوا).

    وهذه الآية يتعزز بها ذات المعنى فى قوله: "وَقُلْتُ لِلاَّوِيِّينَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَيَأْتُوا وَيَحْرُسُوا الأَبْوَابَ لأَجْلِ تَقْدِيسِ يَوْمِ السَّبْتِ" (نح 13 - 22).

    وفى قوله: "هُوَذَا قِدِّيسُوهُ لاَ يَأْتَمِنُهُمْ، وَالسَّمَاوَاتُ غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِعَيْنَيْهِ"(أى 15 - 15)، يتضح جلياً أن "قديسوه" هنا مقصود بها "أتقياؤه" أو "أنقياؤه" أو "الذين تطهروا لأجله" وليس مقصوداً بها أبداً القداسة الأسطورية التى فى خيال الأرثوذكس المغيبين.

    وتـأتى "مقدس" بمعنى "مكرس" فى الآية: "...لاَ تَصْنَعُوا لأَنْفُسِكُمْ. يَكُونُ عِنْدَكَ مُقَدَّسًا
    (أى مكرساً) لِلرَّبِّ" (خر 30 - 37)، و"وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ (أى المُكَرَّس والمباح) وَبَيْنَ النَّجِسِ وَالطَّاهِرِ"(لا 10 : 10).

    وتأتى "مقدسون" بمعنى "صالحون" و"فاضلون" فى الآية: "كَلِّمْ كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
    وَقُلْ لَهُمْ: تَكُونُونَ قِدِّيسِينَ (أى صالحين ومتمسكين بالوصايا المؤدية إلى الفضيلة) لأَنِّي قُدُّوسٌ الرَّبُّ إِلهُكُمْ"(لا 19 : 2). فمن غير المعقول بالطبع أن أفراد "كل جماعة بنى إسرائيل" قد تحولوا إلى قديسين بالمعنى الأسطورى الذى يسيطر على قلوب وعقول الأقباط المغيبين.. بل جميعهم أفراد يتعين أن يكونوا حاملين "الصلاح" فى أنفسهم و"طائعين الوصايا" ليليقوا بأن يكونوا عُبَّاد اللـه.

    وتأتى "القداسة" بمعنى "معكوس النجاسة" وبمعنى "الطهارة الشخصية" فى الآية: " إِنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ. وَلاَ تُنَجِّسُوا أَنْفُسَكُمْ " (لا 11 : 44)، فقديسون هنا هى مرادف مباشر لغير النجسين..

    ويتعزز ذلك بالآية: " وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ" أى الصالحين المقبولين فى الملكوت وليس القديسين بمعنى أصحاب المعجزات والكرامات الأعلون المفارقون للبشر الذين قداستهم كاللـه (حاشا)، ويبدو ذلك جلياً فى الآية: " الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَالأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ" (مز 16 : 3) التى تؤكد القديسين بمعنى "الأفاضل" أو "الصالحين".

    وتأتى لفظة "القديسين" أيضاً بمعنى "المكرمين" كما فى الآية: " كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ (أى المكرمين) الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ"(لو 1 : 70).

    ويتأكد المعنى ذاته فى الآية: "إِنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ (أى مكرمين
    أى مملؤين نعمة)، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ" (أى لكى تليقوا بى)، كما يتعزز كذلك بالآية: "فتحسبه مقدساً (أى مكرماً) لأنه يقرب خبز إلهك"(لا 21 : 8).

    وكثيراً ما وردت "القديسين" فى العهد الجديد بمعنى "المؤمنين" كما فى الآية: " وَحَدَثَ أَنَّ بُطْرُسَ وَهُوَ يَجْتَازُ بِالْجَمِيعِ، نَزَلَ أَيْضًا إِلَى الْقِدِّيسِينَ (أى المؤمنين) السَّاكِنِينَ فِي لُدَّةَ"(أع 9 : 32)، وكما فى الآية: "إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ، أَحِبَّاءَ اللهِ، مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ (أى مؤمنين): نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللـهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" ، والآية:" مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَاتِ الْقِدِّيسِينَ (أى "المؤمنين" أو "المكرمين")" (رو 12 : 13).

    وتأتى أيضاً كلمة "قديسين" بمعنى "المُخَلَّصِين" كما فى الآية: " لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ (أى المُخَلَّصِين)"

    وتتأكد لفظة "قديسين" بوصفهم "أمناء" فى الآية: "... بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ (أى الأمناء) مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (2 بط : 21).. فالقديسون هنا هم الأمناء الذين لأمانتهم فى النقل السليم ساقهم الروح القدس إلى النبوة.

    وهكذا.. ليس فى هذه المعانى كلها ذلك المعنى الأسطورى الخطير الذى يسيطر على عقول وأفئدة الأقباط الأرثوذكس المغيبين ويجعل القداسة مرادفاً لقداسة اللـه فيفارق بين أصحابها وسائر البشر رافعاً أولئك المدعوين قديسين إلى المرتبة الأعلى التى يُسْحَقُ البشر بمقتضاها إلى جوارهم فيتبركون بهم
    من دون اللـه.. حتى لتسعى أستاذة جامعية كبيرة إلى شرب الماء مخلوطاً بتراب مقابر القديسين لتتخلص من مرضها العضال اعتقاداً جازما فى قداستهم التى يتصاغر كل البشر إلى جوارها.. لكنها رغم كل ما شربته من تراب هذه المقابر حتى الآن لا تزال تتعذب بمرضها العضال، وهى لم تدرك بعد حتى الآن أن " لا مقدس
    إلا اللـه "!!!

    يتعين على الكنيسة إذن أن تضع الآن أول الأحجار فى بنية الخلاص من الوثنية الحديثة التى رفعت البشر الخطاة إلى مرتبة القداسة التى للـه.. فتكف تماماً عن نسبة القداسة لأى بشر.. وتغير من خطابها اليومى فتلغى إلى غير رجعة ألقاب "قديس" و "قداسته" منسوباً لبشر مهما كان..

    إن لفظ "قداسة فلان" يتعين أن يختفى فوراً.. فلم نسمع أبداً أنهم يلقبون –مثلاً- بابا الفاتيكان "بقداسته".. ويتعين أن يُطْرَح بديلاً عنه فى الاستخدام اليومى "جنابه".

    لا تعودوا تنسبوا القداسة لأى بشر.. لا تدعوا أحداً .. بابا أو أسقف أو كاهن أو راهب بلفظ قديس..

    أسقطوا الكلمة من كل كتب التاريخ.. واقضوا عليها تماماً فى ضمير وأفئدة الناس..

    فليكونوا إذن مكرمين فقط لا قديسين.. لأن كل تكريم مبالغ فيه هو تكريم زائف مغتصب من اللـه يُعْطَى لتكريس قداسة موهومة تسلب عقول البسطاء وتُغَيِّب وعيهم..

    لا يجوز –مثلاً- فى جريمة يقترفها راهب داخل أحد الأديرة الكبرى أن تٌفَسَّر أو تُبَرَّر الجريمة بأن هنالك "يهوذا" فى كل مجتمع، والشيطان يتربص بالكنيسة.. حفاظاً على القداسة المزعومة من الإنهيار!!!

    هذه التفسيرات والتبريرات الخرافية الغيبية ما هى إلا تكريس للأوضاع القائمة نتيجته الإدراك المختل للأسباب الحقيقية للجريمة.. والتعامى المطلق عن الإصلاح الجذرى المنشود.

    وبعد العجز عن الاستمرار فى إنكار أن راهب بدير من الأديرة يرتكب جريمة شنعاء.. راحت الأبواق المسعورة تروج لتوبته واختطافه العظيم للملكوت.. فى مهرجان شعوذى للتغييب والترهيب وقلب الحقائق لتستمر شعوذة اعتقال العقل المُغَيَّب للقطيع فى تصورات القداسة المخبولة.. وهم أول من يدركون أن لا مقدس إلا اللـه.

    فلتسقط إلى الأبد تعبيرات القداسة الكاذبة التى تُسْبَغ على بشر رهبان أو بشر إكليروس لأنها استمرار لتغييب الوعى وامتلاكه.. وتسطيح عقل البسطاء واستلابه.. لأجل تعظيم حفنة من البشر.. مجرد بشر.. لكنهم حين يحتازون القداسة الكاذبة يُصَيِّرُهم الناس آلهة من دون اللـه.. ويتمسحون فيهم لنوال بركات الخداع والغش.. ويلقون تحت أقدامهم بالملايين من النقود والعطايا التى صاروا للأسف يحتجزونها لأنفسهم دون المسحوقين المعوزين من شعب اللـه.. الذين من المفترض أنهم أئتمنوا على رعايتهم ليعيدوا عليهم توزيع ما يصل لأيديهم بحسب الاحتياج.

    القداسة الكاذبة التى يسبغها الشعب المُغَيَّب العائش فى الخرافة تمنحهم سلطاناً رهيباً يعثرهم عثرة فادحة فيخطئون سبيل السماء..

    فلتسقط إلى غير رجعة هذه القداسة الكاذبة.. وليتراجعوا إلى حياة الزهد التى جُعِلت لرسالتهم أو ليتركوها فوراً.. لأجل الحفاظ على كرامة الديرية والكنيسة.. التى انسكبت الآن سكيباً بسبب انغماسهم فى العالم، المفترض أنهم انخلعوا عن مفاسده وإغراءاته.

    فلا مقدس إلا اللـه..

    لا مقدس إلا اللـه.

    أعيدوا الوعى السليب للشعب المُغَيَّب الغارق فى الخرافة.. وليكن البدء بمحو صفة القداسة للبشر مهما كانوا.. بدءاً بالتاريخ كله وانتهاءً إلى حياتنا المعاشة.

    احفظوا القداسة وحدها للـه العلى العظيم القدوس الذى له وحده ألفاظ القداسة.

    فـ " لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ لَيْسَ غَيْرَكَ، وَلَيْسَ صَخْرَةٌ مِثْلَ إِلهِنَا" (1 صم 2 : 2).

    وليكن ذلك أول ترياق يعطى لجسد الكنيسة المريض.. فالمرض قد استفحل حتى انفجر فى الجسد الهزيل.. والعلاج الشامل يتعين أن يكون أوسع من مجرد بضعة مسكنات.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع