عندما يحتفل الكتّاب والشعراء بشارلي شابلن: ملك السينما
فن | المستقبل
الثلاثاء ٧ اغسطس ٢٠١٨
ذكرى
تستمر الإصدارات لكتب تناولت شخصية وحياة الفنان الراحل الكبير شارلي شابلن بمناسبة مئوية ولادته التي تصادف هذا العام. وفي حين تجرأ الكاتب الفرنسي فريديريك بايغبيدر على خطوة جريئة مع أونّا أونيل وكانت الصديقة الأخيرة للنجم فأعطته المعلومات وزوّدته مادة دسمة لكتاب صدر أخيراً، نزل في الأسواق أيضاً كتاب «شارلو: قصة أسطورية» لدانيال باندا وجوزيه مور، وأيضاً «عالم الأضواء» لدافيد روبنسون، ورواية غير معروفة وغير منشورة سابقاً لشابلن بعنوان «خطوات مضيئة». أما السينمائي كزافييه بوفوّا فهو قد كرم شابلن على طريقته بفيلم «ضريبة الشهرة» مع بونوا بولفوردي ورشدي زيم. أما في الكتاب المذكور أعلاه: «شارلو: قصة أسطورة» فقد جاء المؤلفان بأسماء كبيرة صنعت أنطولوجيا مؤثرة تحدثت عن الرجل: لويس أراغون، بول إيلوار، هنري ميشّو، والتر بنجامان، برتولد بريشت، فرانسيس بونج، ألبرت كوهان، هانا آرندت وغيرهم... كلهم تحدثوا عن شارلو وكلٌ على طريقته. وننقل هنا كلمات أبرز هؤلاء.
[رينيه كروفيل
«بونجور شارلو» 1924
عام 1924، خصّت المجلة الأدبية البلجيكية «الأسطوانة الخضراء» شارلو بعدد مميّز كتب فيه أبرز الشعراء والكتّاب والفنانين في تلك المرحلة من بينهم الشاعر السوريالي رينيه كروفيل (1900-1935)، وجاء في كلمته:
«حين ولدت، أو بالأحرى، ذلك لن يغيّر الأمور، حين تنبّهنا إلى وجودك، كنا بحاجة ماسّة إليك، ولكننا ضحكنا أولاً من أزيائك المسلية ثم نظرنا إلى وجهك لكن أصفياء العقول فهموا بسرعة قسوة الموقف: إنه الحزن، قبل أي شيء آخر، الذي يسلينا. شارلو، مع حنينك إلى الجنّة المستحيلة وعصاك في يدك وأنت تستيقظ كل صباح لتمضي مسرعاً وحديد سريرك يذكرك بالقصف الذي اعتقدت بأنك أفلتّ منه في المساء.
شارلو يهرب؟ كلا. شارلو لا يهرب، ولا يمكنه أن يهرب. إنها القصة عينها التي تتكرر، يا صديقي المسكين. أنت أسير النساء والمشاهد الطبيعية وأزيائك وكآبتك وشفقتك وموهبتك وفنك في جعل الآخرين يضحكون. هل هو فن الإضحاك؟ بالتأكيد أنت تريد أن تُضحك الآخرين وأنت ذكي. تريد أن تكون على حقّ مع الأشخاص والأشياء وكل ما أنت عبد له ومن أجل أن تكون أكيداً من فكرة إضحاك الآخرين على هؤلاء ،تجعلهم أولاً يضحكون عليك: من أجل هذا يتحدث الكثيرون عن روح النكتة القوية لديك. وقد نذكر هنا لوتريامون وجارّي ورامبو. تعال معهم وستكون العجلة الرابعة في العربة التي قد تقلكم معاً.
ـ أنت تقول إننا غير عادلين؟
لست على خطأ، ولكن أنظر، فالعصر هذا يحب كثيراً الأفكار الواضحة، لذا قد يرحّب بالأفراد. فحسّ الفكاهة لديك تماماً كما كل قطعة من ثيابك في دور شارلو تجعل صورتك أجمل. وإذا انتزعت كل أزيائك في الدور، وإذا تعرّيت قبل التمثيل فهل سيعرفك أحد؟ هل يعرفك أحد من دون هذه الأدوات الإضافية؟ لن يعرفك أحد، ولكن أنا سأقول لشارلو الحقيقي الذي لا زلت أجهله حتى اليوم: بونجور، شارلو!».
[ لوركا (1928)
(الألم الفظيع الذي شعر به شارلي شابلن عند وفاة والدته أوحى بهذا التأمل السوريالي الرائع للشاعر الإسباني لوركا...).
(...) ثمة فارق شاسع بين كل الناس وشارلو. كل الرجال يهزأون من السمك الأحمر وشارلو يبكي من أجله. ولا في أي حالة جمالية، استعمل الدمع كما استعمله هو وبهذا الصفاء. شارلو صنع قضية من دموعه. وكأن لها مصدرها الخاص الذي لا علاقة مباشرة له مع الموضوع المرافق للمشهد. إنها دموع مدوّرة. دموع قائمة بذاتها. ثم قد نعطي الضحكة للسمكات الحمراء لأن الضحك غنيّ وكريم وفائض ولا يطلب مجهوداً. فهو وبعد أن وهب ضحكاته إلى المرأة، ثم إلى السماء وإلى أجواء الربيع السعيدة بقيت لديه ضحكات يهبها إلى الأفيال الضخمة والسمكات الحمراء، تلك السمكات الهانئة والبعيدة. الدموع تختلف عن الضحك وهي شيء آخر. نحن نربطها بالحب وأيضاً بالموت الذي يقول لنا «إلى اللقاء». والذي يبكي هو مثل سراج. لذا الناس تبخل بدموعها، من أجل هذا السبب. شارلو، على عكس هذا، يعطي دموعه أيضاً إلى السمكات الحمراء، فيعطي بذلك للدموع كل معاني الحكمة والعدالة التي لا تعدل أبداً. من أجل هذا، تبدو كل أفعاله وحركاته وكأن لها معانيها الخاصة بها والجديدة. فهو يهب إلى الميت شاربيه الصغيرين الجميلين والعالميين. إلى الجوع، يهدي هدوءه وإلى العاصفة الهوجاء حركة كتفيه المتواصلة ذهاباً وإياباً متحدياً بها، ولكن إلى السمكات، تلك السمكات التعسة والعبثية الحمراء، فهو يعطي دموعه من دون حساب، دموعه التي تتشكل في عيونه وتسيل(...).
[ سارتر (1924)
ـ إنه هو بحق ملك السينما. الباقون مجرد ممثلين. هم يقومون بعملهم بشكل جيد لكنهم يجهدون في سبيل تحقيق ذلك. وقد نلتقي بهم في حياتهم الشخصية لنتعرف إليهم. أما شارلو فلا يمكن أن نلتقي به إلاّ من خلال أفلامه. هذا هو العنصر المهم لديه. وهو يعيش من خلاله: ينام في العراء، يستيقظ وأمامه شرطي، يتقاتل مع لص أو محتال، يتبنّى ولداً صغيراً فقد أمه(...) يولد مع كل فيلم ويموت معه. لقد ابتدع شخصيته شارلو المتنقّل(...) ابتدع فيلماً: إنه الفيلم حول التعاسة الحقيقية. وأنا قد أقارنه بما أنجز في الروايات التي تصوّر حياة المتشردين والمظلومين. في هذه الأفلام كما في هذه الروايات يختبر الأبطال الجوع الحقيقي والبؤس الحقيقي... قد يموتون من الجوع لكنهم في حياتهم اليومية يبدون نشطين وقد يقومون بأعمال لا يقوى عليها الآخرون... غير أنهم أبطال متواضعون لا يتفاخرون بأنفسهم مع أنهم وحدهم أفضل أبناء العالم(...).
[ جان أيبستن (1921)
عمل السينمائي جان إيبستن (1897-1953) طوال حياته المهنية على وضع نظريات للسينما كما عمل على تطبيقها أيضاً في مؤلفاته الفلسفية والشعرية، وهنا قصيدة كتبها ووضع فيها بورتريه خاص لشارلو:
دموع!
«يأس في ابتسامة
تتمرأى
من خلالها النكتة
نهاية رمادية حزينة وناعمة
لمأساة تصل إلى حد الشنق
حنين يتكدّس
من حركة إلى حركة
حنين محدد وأكيد
وكل متر يحمل
خيبة
فنطلب الرحمة
والضحكة...
ضحكة مهرج
عبقري...».
[ فرانز كافكا (1924)
ـ حين ظهرت في براغ، بعد الحرب العالمية الأولى، الافلام الاميركية الضخمة وكانت في بداياتها وإلى جانبها الافلام القصيرة الهزلية لشارلي شابلن، تلقيت من لودفيغ فانكليك وكان سينمائياً شاباً متحمساً واليوم أصبح صحافياً ناقداً للسينما، مجموعة مجلات اميركية متخصصة بالسينما وبعض الصور الدعائية والاعلانية لأفلام شابلن. وحين عرضت هذه الصور على كافكا، ابتسم وكانت ابتسامته محببة. سألته: «وهل تعرف شابلن؟»، «من بعيد»، أجابني ثم اضاف: «شاهدت فيلماً وأكثر من أعماله». ثم راح يتأمل بجدية وانتباه الصور التي وضعتها أمامه وقال: «إنه رجل حيوي بقوة ويعطي كل قوته ونشاطه لعمله. وفي عينيه تلتمع شعلة اليأس حيال مصير الفقراء والتعساء الذي لن يتغير، ومع هذا فهو لا ييأس ولا يتوقف،يمتلك قوة متوحشة وينطلق بها ليواجه العالم. ويقوم بذلك على طريقته التي ليست سوى له. وعلى الرغم من وجهه الابيض والتناقض ما بينه وبين سواد عينيه الداكن فهو ليس على طريقة «بيارو» العاطفي كما انه ليس ناقداً حاقداً. شابلن تقني بارع. انه رجل عالم الآليات، هذا العالم الذي لا يعرف ان يواجهه الناس العاديون لا بعواطفهم ولا بعقولهم والافكار المقدمة لهم لفهمها. فالناس هنا بالذات ليس لديهم مخيلة.
فبدأ شابلن العمل انطلاقاً من هذه النقطة بالذات. وتماماً كما يعمل طبيب الاسنان في مختبره ليصنع أسناناً اصطناعية، فشابلن يصنع مخيلة اصطناعية وهذه هي افلامه. أو بالأحرى، هذه هي السينما، بشكل عام.
ـ الصديق الذي أعطاني هذه الصور قال لي إن ثمة سلسلة لأفلام شابلن الهزلية ستكون في بورصة السينما قريباً. ألا تريد الذهاب معي؟ قد يصطحبنا فانكليك إلى هناك بكل طيبة خاطر.
ـ كلا، شكراً. لا أفضل هذا، قال كافكا وهو يهز رأسه. فالتسلية بالنسبة لي هي قضية جدية أكثر مما تعتقد. وقد أجد نفسي هناك وبكل سهولة مثل مهرج أزيل التبرج عن وجهه كلياً.
[ فيليب سوبو
(...) ها هو يرحل. لأنه على شارلو ان يرحل دائماً. انها موهبة لديه. لا شيء قد يمنعه عن ذلك لأنه يعرف انه دائماً هناك شيء جديد ينتظره في مكان آخر. هو يكتشف العالم (...) وذات يوم أحس بأن ثمة شارباً صغيراً ينمو تحت انفه. وحين نظر إلى نفسه في مياه الساقية، انفجر ضاحكاً. (يومه الأول في المدينة:) وحين استيقظ في الصباح، نظر إلى اليمين ثم إلى الشمال ووجد عدداً كبيراً من الرجال الذين يسرعون إلى أمكنة معينة (...) وعلى الرغم من مخاوفه، خرج عن الطريق ليجد شيئاً يأكله. فوجد اقنعة قذرة كثيرة، ثياباً بالية، أحذية عتيقة ومثقوبة ووسط كل هذا بعض الفتات من الخبز وبعض القشور من الخضار وعلب أكل فارغة.
جلس شارلو إلى جانب كل هذا وراح يبحث بانتباه. فوجد قبعة بدت له جميلة بل رائعة. وضعها على رأسه وظن نفسه لوهلة أهم من كل الرجال من حوله. ثم أخذ حذاءً وانتعله وأحبه أيضاً ثم أكل من فتات الخبز (...) ثم توقف أمام مرآة تزين أحد المحلات التجارية ونظر إلى نفسه، فوجد وجهه أصفر اللون ويزينه الشارب الاسود الصغير. أمسك بجاكيتته وحاول تحسين وضعها فوق كتفيه، كما عمل على رفع بنطاله قليلاً ورتب ربطة عنقه.
لكنه شعر بأن ثمة ما ينقصه. فرفع يديه الفارغتين. وأمام المرآة، إلى جانبه، كان هناك رجل انيق قد توقف مثله ليتأمل ثيابه الأنيقة وكانت في يده عصا جميلة ورغب شارلو في واحدة له: «سأكون على أفضل ما يمكن إذا وجدت العصا».
[ قصيدة ماياكوفسكي (1923)
أوروبا.
مدينة.
العينان تبحثان فوق
السطوح
عينان تشع منهما نقاط
ملونة
فوق الأعمدة
على الطرقات
وفي الآلاف من النغمات
شارلي!!!
شابلن!!!
رجل متواضع أهين
في لوس انجلس
وفي الجانب الآخر من المحيط
يجعل عجلة السينما تدور.
وكل الذين
يملكون شفاهاً
يضحكون ولا يتوقفون
حتى السعال...
(...) والذقون الجيلاتينية
ترتجف بخفة
السينما
المعلقة على الضحكة
من مليون متفرج.
اصمتي اوروبا،
بلهاء بالكامل!
ويا أيها السادة
خبئوا أفواهكم
لستم انتم من تضحكون
أنا أعرف
لستم أنتم
بل هو شارلو
من يضحك عليكم. (...)
وربما هذا الشارب
هو كل ما بقي من
أوروبا، من وجهها.
[ رولان بات (1957)
ـ في فيلم «الأزمنة العصرية» يتطرق شارلو دائماً إلى موضوع البروليتاريا لكنه لا يحسم الأمر سياسياً. وما يقدمه لنا، انما هو الرجل من طبقة البرولتياريا الأعمى والمحدد بحسب طبيعته وحاجاته الطبيعية بين ايدي معلميه في العمل والشرطة. بالنسبة لشارلو، رجل البرولتياريا هو ايضاً رجل جائع: وهو يجسد فكرة الجوع دائماً في افلامه بأسلوب ملحمي مؤثر: ساندويشات ضخمة ومبالغ بها، أنهر من الحليب، فاكهة يرميها الناس وهي نصف مأكولة وبالمقابل أغذية ضئيلة وباهتة لاعداد كبيرة من الناس.. ولكن تحديداً لأن شارلو يعرض صورة فجة وواقعية صرفة عن البروليتارية وخارجة عن مفهوم الثورة، تبدو قوة تاثير اعماله كبيرة. ولم يكن حتى في عصره وجود لأعمال «إشتراكية» أخرى أوصلت الصورة الحقيقية عن واقع العامل المزري بهذه القوة والعنف. وحده بريشت توصل إلى ابراز ضرورة احساس الانسان البرولتياري بواجب الاقتراب من نور الثورة (...) ولكن شارلو، وبما يتطابق مع فكرة بريشت، الا انه يظهر عماه أمام الجمهور ليبدو الجمهور أمام الأعمى وعرضه الفني: فأن نرى شخصاً لا يرى، فهي افضل طريقة لنرى جيداً وبقوة ما لا يراه هو: وهكذا ففي مشهد المهرج الأعمى، على الأولاد، ان يرشدوا المهرج إلى ما لا قدرة له على رؤيته (...)
تقديم وترجمة: كوليت مرشليان