مصر وثورتان شعبيتان في العصر الحديث
فاروق عطية
الاثنين ٦ اغسطس ٢٠١٨
فاروق عطية
يظن الكثيرون أننا شعب مستكين قانع بحياته لا يقاوم الظلم ولا يثور، وهذا فهم خاطئ لطبيعة المصريين. كلنا نعلم أن الطبيعة الجغرافية للسكان تشكل الكثير من طبائعهم، والمصريون منذ فجر التاريخ وحتى من بدايات العصر الحجري حينما هبطوا من الجبال لقسوة الطبيعة، وانتشروا على ضفاف النيل يمارسون الزراعة وتدجين الحيوان وقد حبتهم الطبيعة بأرض زراعية سهلة الزراعة ونيل متدفق يبعث النماء والاستقرار فانعكس ذلك على سلوكهم الهادئ الوديع بالروية والحكمة. فهم شعب مسالم طيب ودود صبور جدا ولكنه حين يتعرض للظلم يثور ثورة عارمة وينطبق عليه القول" يكفيك شر ثورة الحليم إذا غضب". فبالرغم من طبيعة المصريين الهادئة الرتيبة وركونهم للسلم ومقاومة الظلم بالنكتة، لكنهم كما حدثنا التاريخ قاموا بالعديد من الثورات ضد من جار على حقوقهم منذ أيام الفراعنة حتى بدايات العصر الحديث.
وفى هذا المقال أعرض لثورتين شعبيتين متماثلتين في الشكل والمضمون في عصرنا الحديث. كما أنوه أن ما حدث في 23 يوليو 1952 لم يكن ثورة علي الإطلاق، بل مجرد انقلاب عسكري قام به مجموعة من الضباط لخلغ الملك فاروق ووضع إبنه الأمير أحمد فراد بدلا منه. ولم يكن لديهم أي فكر ثوري أو حتي رؤية ثورية لحكم البلاد.
الحدث الأول: عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تصرف الانجليز على انهم المهيمنون على مصر وهم الذين يقررون مصيرها وأعلنوا " الحماية " عليها في ديسمبر 1914، وخلعوا الخديوي عباس حلمى التانئ وأجلسوا مكانه السلطان حسين كامل، كما حاولوا فصل السودان عن مصر، وشطّوا في استبدادهم فمنعوا الاجتماعات و فرضوا الاحكام العرفية و عطلوا الجمعية التشريعية وفرضوا الرقابة على الصحف وتحكموا في كل صغيره وكبيره في مصر. في خلال أربع سنوات هي عمر الحرب العالمية الأولي لاقت الجماهير الفقيرة الكثير من الظلم والاستغلال. في الريف كانت تصادَر ممتلكات الفلاحين من ماشية
ومحاصيل بحجة المساهمة في تكاليف الحرب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، كما حرصت السلطات العسكرية على إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل التي تتناسب مع متطلبات الحرب، وبيعها بأسعار بخسة. وتم تجنيد مئات الآلاف من الفلاحين بشكل قسري للمشاركة في الحرب فيما سمي بـ "فرقة العمل المصرية" التي استُخدِمت في الأعمال المعاونة وراء خطوط القتال في سيناء وفلسطين والعراق وفرنسا وبلجيكا وغيرها. ونتيجة لذلك نقصت السلع الأساسية بشكل حاد، وتدهورت الأوضاع المعيشية لكل من سكان الريف والمدن، وشهدت مدينتي القاهرة والإسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين تطورت أحيانا إلى ممارسات عنيفة تمثلت في النهب والتخريب. ولم تفلح إجراءات الحكومة لمواجهة الغلاء، مثل توزيع كميات من الخبز على سكان المدن أو محاولة ترحيل العمال العاطلين إلى قراهم للتخفيف من حدة الأزمة، كذلك تعرض العمال ونقاباتهم لهجوم بسبب إعلان الأحكام العرفية وإصدار القوانين التي تحرم
التجمهر والإضراب. وفى عام 1918م عندما انتهت الحرب العالمية الأولي بفوز الحلفاء وردد العالم مبادئ ويلسون الأربعة عشرة على اعتبار أنها ستنصف الشعوب المقهورة استناداً إلى مبدأ حق تقرير المصير، بعد الهدنة خطرت للزعيم سعد زغلول فكرة تأليف الوفد المصري للدفاع عن قضية مصر حيث دعا أصحابه إلى مسجد وصيف للتحدث فيما ينبغي عمله للبحث في المسألة المصرية، وتم تشكل الوفد المصري الذي ضم سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد وسينوت حنا وآخرين، وأطلقوا على أنفسهم "الوفد المصري". وذهب زعماء مصر يرأسهم سعد زغلول إلي المندوب السامي البريطاني ونجيت للحصول منه على الموافقة للسفر إلى باريس لعرض قضية استقلال مصر على مؤتمر الصلح هناك، ولكن ونجيت رفض وأدعي أن سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي لا يمثلون الشعب المصري.
وحتى تكون لسعد زغلول صفة الوكالة عن الشعب في المطالبة بحقوقه، بدأت حملة توقيعات على عرائض بتوكيل سعد وأصحابه وكانت صيغتها كالتالي: "نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول ورفاقه في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى. وأشعلت حركة توقيع التوكيلات المشاعر الوطنية وأصبح الشعب في مواجهة سلطات الاحتلال التي نشطت في قمع حركة توقيع التوكيلات. وزاد الاضطراب بعد قبول استقالة وزارة حسين رشدي الذي استقال احتجاجاً علي عدم السماح للوفد بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، وعدم السماح أيضاً لحسين رشدي ووزير المعارف عدلي يكن بالذهاب إلي لندن لمناقشة آمال مصر في الاستقلال مع الحكومة البريطانية. وكان قبول استقالة وزارة حسين رشدي الوطنية من السلطان فؤاد إذانا بالقطيعة بين السلطان فؤاد والوفد بزعامة سعد زغلول، وقد أرسل الوفد خطاباً قاسياً للسلطان فؤاد فيه كثير من التأنيب على قبول استقالة حسين رشدي وكان الأولي بالسلطان فؤاد أن يقف بجانب الوزارة المتمسكة بحق مصر في عرض قضيتها وآمالها في الاستقلال. كان هذا الخطاب الموجع هو ورقة الطلاق بين السلطان فؤاد والوفد، فانتهز الإنجليز الفرصة وقاموا في 8 مارس 1919 باعتقال سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي وساقتهم إلى ثكنات قصر النيل ومنها إلى بورسعيد ثم نفتهم إلى جزيرة مالطة. ما كاد نبأ اعتقال ونفي سعد يسري بين الشعب حتى اندلع لهيب الثورة يوم 9 مارس في القاهرة والمدن الكبرى ثم القري، ولم يعد هناك مكان إلا ويضج
بالثورة الوطنية. وخرجت جميع طوائف الشعب في هذه الثورة، فقد كانت ثورة شعبية شارك فيها العمال والطلبة والفلاحين. حتى المرأة خرجت في مظاهرات فهزت المجتمع بجرأتها ووطنيتها. وأنقض الفلاحون على خطوط السكك الحديدية والبرق فقطعوها، وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديد، اصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك، وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة. استدعت الخارجية البريطانية ونجيت، وحل محله لورد اللنبي الذي استعمل الفرق البريطانية للسيطرة على الثورة، وحدثت صدامات بين الثوار والقوات الإنجليزية، وقتل عدد غير قليل من المصريين في هذه الصدامات. وأفرج الإنجليز عن سعد زغلول وزملائه وعادوا من المنفي إلي مصر. وسمحت إنجلترا للوفد المصري برئاسة سعد زغلول بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، ليعرض عليه قضية استقلال مصر. لم يستجب أعضاء مؤتمر الصلح بباريس لمطالب الوفد المصري فعاد المصريون إلي الثورة وازداد حماسهم، وقاطع الشعب البضائع الإنجليزية، فألقي الإنجليز القبض علي سعد زغلول مرة أخرى، ونفوه مرة أخرى إلي جزيرة سيشل في المحيط الهندي، فازدادت الثورة اشتعالا، وحاولت إنجلترا القضاء على الثورة بالقوة، ولكنها فشلت
. اضطرت إنجلترا بسبب اشتعال الثورة إعطاء مصر بعض حقوقها فكان اصدار تصريح 28 فبراير 1922 الذي نص على (أ) الغاء الحماية البريطانية عن مصر (ب) اعلان مصر دولة مستقلة. بعدها صدر أول دستور مصري سنة 1923 وتشكيل أول وزارة برئاسة سعد زغلول 1924 (الذي أفرج عن المسجونين السياسيين). وكانت تلك أحداث ثورة مصرية عظيمة غيرت مجري تاريخ مصر واللبنة الأولي لإستقلال مصر عن بريطانيا في القرن العشرين "ثورة 1919"
الحدث الثاني: عاشت مصر فى ظل حكم ليبرالي برلماني حتى قيام حركة الضباط في 23 يوليو 1923, بعدها تحولت مصر من الحكم الملكي الليبرالي إلى الحُكم الجمهور الديكتاتوري الذى كمم الأفواه وقضى على حرية التعبير والأحزاب وعاشت مصر في ظل حُكم الفرد وجماعة منتفعيه تحت مسميات الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي فحزب مصر نهاية بالحزن الوطني، مما أدى لوقوع مصر في العديد من المشاكل الدولية والحروب والهزائم التي كانت أكبر من قدرات مصر الاقتصادية، فاضطرت الي استهلاك نسبة لا بأس بها من رصيدها الذهبي ولجأت إلي الاستدانة. في نفس الوقت اضطرّت إلي وقف كل عمليات التجديد والصيانة لمرافقها الأساسية طوال هذه السنوات حتى انهارت هذه المرافق تماما، وعرف اهل مصر أزمات نقص المياه وامتلاء الشوارع والميادين بمياه الصرف الصحي، وأزمات مماثلة في الكهرباء والاسكان والتعليم والعلاج وغيرها. تحولت مصر من دولة من دول العالم الثاني بل كانت على مشرف العالم الأول الي دولة علي مشارف العالم الرابع، كما تحولت القاهرة من عاصمة تضارع عواصم العالم المتقدم كلندن وباريس نظافة وجمالا إلى مدينة متهالكة موبوءة بالتلوث ومليئة بالزبالة والقاذورات، ناهيك عن محاولة التوريث التي كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير. ثم لاحت في الأفق
بوادر الفوضى الخلاقة وخلق سايكس بيكو جديدة بغية تقسيم المقسم إلى دويلات صغيرة أو ما أطلق عليه الشرق الأوسط الجديد لتسوده إسرائيل. وبدأت الشرارة من تونس إلى مصر بتخطيط أمريكي مُحكَم وتمويل قطري وتعهد اخوانى بتلبية مطالب أمريكا في التقسيم والحفاظ على دولة إسرائيل القوية، ووقعنا في مصيدة الخريف العربي أو ما أطلق عليه هوجة 25 يناير. وبالغش والخداع والتضليل وتمويل أمريكي قطري وصل مرسى إلى كرسي الرياسة، وبدلا من أن يكون رئيسا لكل المصريين ومُحترِما للدستور والقانون كما تعهّد، حنث بكل الوعود وصار رئيسا لأهله وعشيرته وخالف القانون والدستور وأهان الشرطة والجيش والقضاء وأذل شعب مصر، وبدأت بوادر تقسيم مصر والتخلّي عن أجزائها في سيناء والجنوب "حلايب وشلاتين" وقبض الثمن مقدما، واستمر غير عابئ في أخونة جميع مفاصل الدولة، وانقسمت مصر إلى مؤيدين ومعارضين وكفرة ومؤمنين.
استلهم شباب مصر الواعد ما حدث في ثورة 1919 وبدأوا في جمع التوقيعات للتمرد على حكم مرسى والإخوان مؤيدين من كل فئات شعب مصر المخلص الراغب في الخلاص. وفى غضون أيام قليلة تمكنوا من جمع أكثر من 22 مليون توقيع، وأعلنوا يوم 30 يونيو وهو أول أيام استيلاء مرسى على سدة الحكم ليكون يوم الخلاص من الاستعمار الإخواني البغيض الذي فاق الاستعمار البريطاني صلفا واستبدادا. وفى غضون أيام نجحت الثورة بتكاتف الشعب مع الشرطة والجيش، وتم عزل المعتوه وتحديد إقامته تمهيدا للحساب. وكانت تلك الأحداث ثورة عظيمة غيرت مجرى التاريخ واللبنة الأولى للخلاص من الإخوان في القرن الواحد والعشرين "ثورة 2013".
نعمنا بمنجزات الثورة الأولي ديموقراطية ودسنور علماني راقي لمدة ثلاثون عاما تحت حكم الملكية التي قضت عليها حركة الضباط الأشرار في 23 يوليو 1952 ورزحنا تحت حكم ديكتاتوري متسلط مدعوما بفاشية دينية متحجرة اكثر من ستين عاما من القهر وتكميم الأفواه.
والثورة الثانية للأسف امتطتها الديكتاتورية العسكرية المدعومة بالسلفية الصحراوية الوهابية ولم ننعم بمنجزاتها قط، ومازال يحدونا الأمل في التحول الديموقراطي والحياة الديموقراطية السوية التي يستحقها شعب مصر العظيم حتي يتمكن من إعادة أمجاد أجداده الفراعين والله المعين.