الأقباط متحدون - بناء الإنسان
  • ١١:١٥
  • الأحد , ٥ اغسطس ٢٠١٨
English version

بناء الإنسان

مقالات مختارة | القمص أنجيلوس جرجس

٥٦: ١٠ ص +02:00 EET

الأحد ٥ اغسطس ٢٠١٨

القمص أنجيلوس جرجس
القمص أنجيلوس جرجس
سأل القاضى قاتل الرئيس المصرى الأسبق أنور السادات فى أثناء محاكمته لماذا قتلت السادات؟ فرد عليه: لأنه علماني. فقال له القاضي: وماذا يعنى علماني؟، فقال: لا أعرف.
 
وفى حادثة محاولة اغتيال الأديب المصرى نجيب محفوظ سأل القاضى الجاني: لماذا طعنته؟ أجاب الإرهابي: لأنه كتب رواية أولاد حارتنا. فقال له القاضي: وهل قرأت هذه الرواية؟ فقال: لا.
 
وفى محاكمة الإرهابى قاتل الكاتب والمفكر فرج فودة سأله القاضي: لماذا قتلته؟ فقال له: لأنه كافر، ورد عليه القاضي: وكيف عرفت أنه كافر؟ فقال: من كتبه، فعاد وسأله: من أى كتاب عرفت أنه كافر؟ فقال له: أنا لم أقرأ كتبه، فقال القاضي: لماذا؟ فقال: لأنى لا أقرأ ولا أكتب، وإنما قالوا لى هذا ثم كلفوه بقتل الشهيد فرج فودة. كل هذا يجعلنا ندرك أن هناك أساسيات أخرى لبناء الإنسان وتربيته غير التعليم المدرسى والنظامي. وحسناً أن بدأت الحكومة فى تغيير منظومة التعليم وليكون الأساس فيها هو البحث والفهم وليس التلقين. ولكن تجربة السنوات الماضية والرؤية الاجتماعية للمجتمع تُخبرنا بأن المدرسة والتعليم يأخذان نسبة ليست كبيرة من بناء الإنسان المصري، خاصة أن هدف التعليم كان سباقاً للحصول على الدرجات وهذا حتى يدخل الطالب جامعة تضمن له عملا فى سوق الأعمال.
 
إذن التعليم فى النهاية كان ـ وليته ما يكون ـ أداة فقط للوجود فى سوق العمل، وخرجت من معادلة بناء الإنسان بناء العقل والشخصية. بل ما يزيد المشكلة تفاقما أن يكون القائمون على العملية التعليمية غير مؤهلين للتربية فى طريقتهم أو سلوكهم. فمثلاً حين يكون المعلم همه كله أن يحفظ الطالب، كيف يمكن أن يبنى العقل؟ أو حينما يكون المعلم متطرفا ويدعو لكراهية المجتمع والآخر ويستقطب الطلبة إلى التيار المتطرف، كيف يكون هذا مؤتمنا على بناء الإنسان؟ بل حينما تكون المدارس الخاصة ليس لها رسالة تربوية بل كل همها هو جمع الأموال بأى طريقة، فكيف يبنى الإنسان؟. تجربة سنغافورة كانت فى الستينيات من القرن الماضى فى حالة جهل وفقر ومرض وفساد وجرائم، والمجتمع قادته مرتشون والفساد فى كل المجالات إلى أن جاء مؤسس نهضة سنغافورة «لى كوان يو» وجمع المعلمين ومنحهم ميزات كبيرة وقال لهم: أنا أبنى لكم أجهزة الدولة وأنتم تبنون لى الإنسان.
 
ومن ضمن أفكاره أن التطرف يتغذى بانعدام الثقة والاغتراب المتولد بين أولئك الأقل نجاحاً فى ظل العولمة، واستطاع بمشروع مجتمعى متكامل أن يتحول بلده إلى بلد عظيم اقتصادياً وسياسياَ. ومن أقواله: اصنعوا الإنسان قبل أى شيء، أمنوا المرافق والخدمات ثم اجعلوه يستخدمها بطريقة حضارية ونظيفة، وأعيروا التفاصيل الحياتية اليومية كل الاهتمام.
 
وهذا ما يجب أن يكون إذا أردنا أن نبنى إنسانا حقيقيا أن نهتم بالتفاصيل الحياتية اليومية. لقد جعل لى كوان يو سنغافورة خضراء بتشجيعه على نشر محال الزهور حتى ينشر الجمال.
 
فلا يمكن أن نبنى إنساناً جديداً فقط بتغيير نظام التعليم لكن يجب أن يكون هناك منظومة كاملة لكل الدولة لهذا البناء. فماذا يفيد لو أننا غيرنا طريقة التعليم لكن مناهج التاريخ مزورة أو لا تنمى الانتماء لحضارة مصر؟ وماذا يفيدنا لو فعلنا هذا ولم تتغير الثقافة المجتمعية؟ فالعنف والبلطجة والتطرف نتاج ثقافة مجتمع، نتاج الظلمة بدل النور، والقبح بدل الجمال. فحين يكون الإعلام لا يقدم نماذج يتبناها الطفل والشاب كنموذج حياتى ويقدم البلطجى كنموذج فينتج عن هذا شخص غير سوي، وحين يسعى الإعلام للإثارة أكثر من التنوير، والبحث عن الفضائح أكثر من البناء الإيجابى كيف يبنى الإنسان؟ وحين لا نجد دوراً مؤثراً للثقافة الجماهيرية سيغيب الوعى والتنوير فى البناء الإنساني، الذى يجب أن يكون أيضاً بناء الثقافة والفن والذوق الراقي. لقد اهتممنا ببناء المدارس لكن هل اهتممنا بأن يكون فى كل مدرسة مسرح وحجرة موسيقى وملعب وأنشطة ثقافية وندوات لمفكرين لهم أعمال يطوفون بها كل المحافظات لتنمية الثقافة الجماهيرية.
 
ولماذا لا تتحول المدارس المنتشرة فى القطر المصرى إلى مراكز ثقافية وفنية بعد نهاية اليوم الدراسي؟ فلماذا لا نستفيد بالمدرسة ووجودها لتتحول إلى إشعاع ثقافى وفنى ليس فقط للطلبة والتلاميذ بل للأهالى أيضاً. فالمدرسة تغلق أبوابها ظهراً فلماذا لا تفتح مساء للأنشطة التنويرية التى تؤثر فى توجيه المجتمع؟ وهذا لا يحتاج إلا لتفاعل واقعى وحقيقى بين وزارتى الثقافة و التعليم. وكيف يتم بناء الإنسانية دون توافق بين التعليم الدينى والرقى الإنساني؟ فكيف يمكن أن يبنى إنسان وهو يتلقى تعليما متطرفا يحث على كراهية الآخر وعدم قبوله أو كراهية المجتمع، لأنه كافر وأن الآخر الذى لا ينتمى إلى نفس المنهج الدينى كافر أيضاً؟
 
وكيف يتم بناء الانسان وهو منعدم السلام الداخلي، فالأسرة والوالدين حين يهددونه بالضرب، وفى المدرسة حين يدخل المعلم ومعه عصا يتخرج الفتى وهو مقهور على كل المستويات. فإذا أردنا أن نبنى إنساناً حقيقياً يجب أن ننشر ثقافة الحب بدلاً من ثقافة الرعب، وكيف نعلمه الجمال وهو يرى القبح فى كل شيء، الشوارع مملوءة بالقاذورات، والميادين بلا جمال، والجدران عليها إعلانات وكتابات سخيفة.
 
ففى مجتمع أجدادنا أصحاب الحضارة العظيمة كان كل شيء محيط بالإنسان المصرى فيه فن وجمال حتى التماثيل المنحوتة جميلة ومبتسمة. وكانت الموسيقى والأغانى والاحتفالات فى الشوارع بشكل يكاد يكون يومياً فقد عرفوا ما يقرب من ألف عيد حتى قال الشاعر الرومانى أرفيد عن أجدادنا القدماء: إننا أهل أعياد. تخيل مجتمعا يشعر بأن كل يوم عيد، وكانت البيوت فى مصر القديمة تنظف ويوقد فيها البخور ويتزاور الأهل والأصدقاء فى العيد، ويحتفل الفرعون مع الشعب فى احتفالات عامة فى الأعياد الكبري. أخيراً حسناً أن نهتم بالتعليم لكن ليس بالتعليم وحده يبنى الإنسان.
 
نقلا عن جريدة الاهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع