الراهــــب السائـــــــــــح !!
أندرو اشعياء
١٣:
١٠
ص +02:00 EET
الأحد ٥ اغسطس ٢٠١٨
بقلم: أندرو أشعياء
خرج إلي الصحراء وبدأت قدماه تضربان فى رمال البرية. سائراً وحده متوغلاً فى القفار وكأنه يتوغل فى محبة الله. شاخصاً فى الأفق البعيد مصليًا بالكلام وبالصمت. وكأنه يمتص من سكون الصمت الذى حوله سكونًا وصمتًا فى أعماقه. حتى أنسحب كل الضوضاء من داخله. لتحل أنغام تسابيح الملائكة عينها، سامعًا صداها فى أعماقه ..
وصل حيث حديقة الدير ووسط المروج الناضرة وعند جداول المياه تهاوى الشيخ على المصطبة الحجرية المواجهة للكنيسة. حيث أن وقت الغروب هو أحب أوقات اليوم إليه، فحين كان أصغر سنًّا كان يحب التمشّي في الجبل في هذا الوقت، أمّا الآن فسنه الكبيرة جعلته يكتفي بتأمل شمس الغروب كل يوم من على هذه المصطبة الحجرية. تعوّد أن يتلو تحليل صلاة الغروب كل يوم في هذا المكان شاكرًا الله على اليوم الذي انقضى. وفي ذلك اليوم كان المنظر جميلاً وخلابًا أكثر من المعتاد، وذكّرته شمس الغروب بعمره الماضي إلى غروبه. خمسون عامًا انقضت عليه داخل أسوار هذا الدير، لا يدري كيف مرّت!
تذكر أول يوم وطئت فيه قدماه الدير، لم يكن يعرف فيه أحدًا، سأل عن أب الدير فدلّوه عليه، طلب منه أن يترهّب. مازال يذكر تلك النظرة الفاحصة التي رمقه بها، دقائق الصمت التي عبرت ثقيلة قبل أن يتكلم، صوته الذي سأله في تحدٍ: "لماذا تريد أن تترهّب؟"، قطرات العرق التي بلّت جبينه وهو لا يعرف للسؤال إجابة! يذكر أنه أجاب بعد برهة في عناد طفولي: "كده"!!! لم يعرف أبدًا لم اختار هذه الطريق؟ لكنه لم يرَ نفسه أي شيء غير أن يكون راهبًا.
في طفولته كان أبوه يصحبه إلى سوق القرية الأسبوعي، يذكر ذلك الرجل الرثّ الثياب، المضيء الوجه الذي يقبع في طرف السوق وبجواره حمار نحيل، كان الغريب يبيع مشغولات من الخوص، يذكر أنه أبدًا لم يجب سائلاً عن ثمن بضاعته، كان لديه جواب متكرر لكل سائل: "اللي تدفعه يا عم". لم يره أبدا يعد نقوده! يذكر أنه سمع حديثاً بين أمه وجارة لها استنتج منه أن هذا الغريب "سائح"، وأن حماره النحيل كان ملكًا لأبيه، وهبه عن طيب خاطر لذلك الراهب المسكين.
داعب الشيخ لحيته وكأنما ليستحثّ شريط ذكرياته على الاستمرار.... تذكر أنه قرر مع بعض رفاقه أن يراقبوا "أبونا السائح"... شعروا بالملل لطول الانتظار دون أن يحدث ما هو مثير فانصرفوا للّعب، بعد مدة وجدوه قد اختفى!!! ضحك الشيخ وهو يتذكر شعور الخوف الذي داهمه هو ورفاقه، كيف يا ترى اختفى السائح؟ أحقًا ينتقل بين مكان وآخر في لمح البصر؟... بحثوا عنه في أرجاء السوق ولكن دون جدوى!!!
في الأسبوع التالي قرّر ألاّ يغيب السائح عن بصره، وفي سذاجة طفولية افترش الأرض مقابله، وأخذ يحملق فيه وفي حماره.
يذكر كيف ناداه السائح بعد نحو ساعة، وكيف سأله عما يريد، يذكر انه أجاب السؤال بسؤال: "أين تذهب بعد السوق؟ كيف تختفي دون أن يشعر بك أحد؟ أحقًا تطير من مكان لآخر؟..."، يذكر كيف ضحك السائح من سيل أسئلته المنهمر، ثم كيف قرّبه منه وربت على كتفه، أخبره أنه راهب! ضل الطريق عن ديره منذ زمن طويل، يحيا في الصحراء على أطراف البلدة، يقضي وقته بين الصلاة والقراءة وعمل الخوص. فتح الصغير فاه دهشة مما سمع، وعاد ليسأل بإلحاح:
- كيف يمكنك أن تحيا هكذا؟
- بنعمة الله.
- ألا تتكلم مع أحد؟
- حديثي مع الله!
- ألن تعود للدير؟
- كل الأرض ديري...
- يا لها من حياة !!!
هكذا اُختُتم الحديث، ثم ساد سكون قطعه السائح: "آن أوان الرجوع من حيث أتيت!"
سارا سويًا نحو بائع الخبز حيث اشترى السائح قليلاً منه وبعض العليق لحماره، ثم نفحه القروش التي تبقت معه ليشتري بها بعض الحلوى. جرى منطلقًا نحو بائع الحلوى، ونسي أن يودع الراهب!! التقطت أذناه صوته وهو يحث الحمار: "هيا بنا يا مبارك."
في الأسبوع التالي لم يظهر الراهب، بل لم يره أحد مطلقًا بعد ذلك. تحادث أهل القرية أن هذا دأب السواح، فهم لا يستقرون في مكان، بل دائمو الترحال.
ظل شهورًا ينتظره ويفتش عنه في السوق دون جدوى... تيقن أنه لن يراه ثانية، ويومئذ قرر أنه لابد له أن يصير هو الآخر راهبًا.
وفيما هو يفكر في هذا إنتابته قشعريرة فنهض متثاقلاً على عصاه عائدًا، فلم تعد عظامه الواهنة تحتمل برودة الليل ..
الكلمات المتعلقة