إذا لم نكن نحن رسل السلام، فمن إذن؟ سافرت إلى إسرائيل ولم أندم
مقالات مختارة | إلهام مانع
الجمعة ٣ اغسطس ٢٠١٨
"ما طبيعة زَيارتكما؟"
سألتنا موظفة الجوازات وهي تضع جوازي سَفرنا الواحد تلو الأخر على جهازٍ أمامها.
تسألنا وتنظر إلينا في الوقت ذاته.
عيناها ثابِتتان. متُفحصتان.
في المطار.
مطار بن جوريون، تل أبيب.
انا وتوماس. نقف أمامها في زيارةٍ جاءت هكذا.
رددنا أنا وهو في نفس الوقت: "سياحية".
نظرت إلى جهازها. امسكت بالجوازين، اعادتهما إلينا، ثم قالت "مرحباً بكما في إسرائيل".
إحتجت عدة ثوانٍ لأستوعب عبارتها.
كدت أقول لها: "هذا كل ما في الأمر؟"
لكننا تنفسنا الصعداء وخرجنا.
كان تَوقعُنا مختلفاً.
تصورنا بسبب تأشيرات وأختام السفر العربية على جواز سفري ان المعاملة ستكون أصعب. صعبة جداً.
على الأقل هكذا جاء تحذير الوكالة السياحية السويسرية التي حجزت لنا الرحلة.
وتوماس قال لي قبلها: "ربما سَيأخذونك إلى غرفة منفصلة ويسألونك بشكل مفصل عن سبب الزيارة".
"لا تنفعلي. ردي فقط على الأسئلة".
لم يحدث ذلك.
"مرحباً بكما في إسرائيل"
هكذا.
وكان وقع العبارة على أذني كلحن جميل.
أخيراً.
سأراها.
كم منا تربى على كراهية هذه الدولة؟
نرَضعها مع حليب أمهاتنا.
كم منا تعلم أنها العدو؟
وأن العدو لا حق له في الوجود؟
كم؟
"لا مشكلة لنا مع اليهود"، يردد الكثيرون منكم، "مشكلتنا مع إسرائيل".
"وإسرائيل"، تقول الكثيرات منكن، "دولة غير شرعية، دولة مصطنعة، لا حق لها في الوجود. خلقها الاستعمار، وستزول يوماً من خارطة منطقتنا".
هذا ما نهمس به لأنفسنا.
جهرا وسراً.
لكنها لن تزول.
هي باقية.
فلعل الوقت قد حان إذن كي نبحث، نحن القوى المجتمعية الداعية للسلام على الجانبين، نبحث عن طريقٍ مشتركٍ لمستقبلنا.
معاً.
وتحديداً في هذا الوقت بالذات. وقتٌ تبدو فيه إمكانية السلام مستحيلة.
فالسلام لا يأت في أوقات الأمان والمحبة المتبادلة.
يأتي في زمان الحروب والكراهية.
---
قبل أن احكي لكما عن زيارتي في سلسلة اسبوعية، سأبدأ بطرح موقفي.
أنا لم اشك يوماً في حق إسرائيل في الوجود.
واقر بقرار التقسيم الأممي لفلسطين في عام 1948. اعتبره مشروعاً. فصل بين شعبين لم يَرغبا في العيش معاً. كلاهما يصر على سرد التاريخ من رؤيته.
وكما أن كل الدول المحيطة بإسرائيل دولا جديدة، فإن إسرائيل ايضاً دولة جديدة.
كلها دول جديدة.
لم تكن موجودة ككيانات سياسية مستقلة قبل النصف الأول من القرن العشرين.
سوريا ولبنان والأردن والعراق والسعودية… والقائمة طويلة.
ولو اخذنا العراق كمثال ستجدون ان دمج الموصل مع بغداد والبصرة كان قراراً بريطانياً ايضاً، دمجتهم رغم اختلاف الإنتماءات الطائفية والعرقية لهذه الكيانات الثلاث. ورغم ذلك فكل من يجرؤ على القول بفصل هذه الكيانات يُزجَر ويُنهر ويُتهم بالعمالة.
في الواقع إلى يومنا هذا اعتبر أن الجريمة الحقيقية فيما حدث في العراق هي في نكران حق الشعب الكوردي في دولته. فكما أن للشعبين اليهودي والفلسطيني حقاً في دوليتهما، فللكرد ايضاً حق في دولتهم.
لكن هذه قصة أخرى.
كما أني لا أكره.
لا أكره.
قلت ذلك في مقال سابق، "في ذكرى النكبة/تأسيس دولة إسرائيل: لن أكره"، ( http://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=360543 ). واكرر ماقلته حينها حتى تكون الصورة واضحة لديكما.
" أنا لا أتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منطق متحيز لجانب واحد.
أتحيز للإنسان، نعم.
أتحيز للضعيف، نعم.
لكني في كل هذا أرى صراعاً له طرفان، وأرى الطرفين معاً. ثم أرى الإنسان فيهما.
وكي أكون صادقة، لا أرى في الإسرائيليين والإسرائيليات عدواً.
لا أريد لهم ولهن الأذى.
لا أريد لهن ولهم الدمار.
أريد لهم ولهن سلاماً وأماناً، تماماً كما أتمناه للفلسطينيين والفلسطينيات.
أرى الإنسان في الإسرائيليين والإسرائيليات. تماماً كما أرى الخوف الذي يسكنهم وهن.
لكني لا أتعامى عن أراضٍ اُنتزعت وتُنَتزع، وواقع احتلال.. يقتل الإنسان الفلسطيني وكرامته، وينتهك أدميته في المناطق الفلسطينية.
تماماً كما لا اتغاضى عن التمييز الذي يتعرض له العرب الإسرائيليون، في دولة “لازال بعض الساسة فيها لم يقتنعوا بعد بأن على الدولة أن تخدم كل مواطنيها“ ، على حد تعبير رجل الأعمال الإسرائيلي ستيف فيرتهايمر.
هذا مهم.
ارى الجانبين معاً، الأثنين معاً. وانشد السلام والآمان لهما، معاً.
وكما أرى الجانبين، أتابع أيضاً النافخين في النار. لا أغمض عيني عن الكراهية التي يؤجج لها التطرف الديني اليهودي والإسلامي على حد سواء.
تلك الكراهية قائمة. متأصلة في مستوطنين ويمين شعبوي يصران معاً أن الأرض كلها لهم، اما الفلسطيني فلاوجود له. وفي ثقافة كراهية إصولية إسلامية إنتشرت، وتؤجج لها حماس في غزة، تلك التي تعلم الأطفال في دور الحضانة، كما كشف فيديو جديد، كيف يقتلون "اليهود"، و"يذبحونهم".
طفل في الرابعة، وتعلمه كيف يذبح؟ يمسك بطفل اخر ويذبحه بسكين؟ أي إنسان تخلق؟
وكلاهما يحتاج الآخر كي ترتفع رسالة الدمار التي يدعوان إليها. ينفثانها على الجانبين ناراً، تلتهم بألسنتها الإنسان فيهما.
رغم ذلك، أُكرر: أنا لا أكره.
لا أكره.
لا أكره الإسرائيليين والإسرائيليات. تماماً كما أني لا أريد دمار دولة إسرائيل.
وفي الوقت الذي ادافع فيه عن حق الفلسطينيين والفلسطينيات في إنشاء دولة توفر لهم الاستقلال والأمان والرفاه، وأرفض سياسية الاستيطان الممنهجة التي تنسف السلام من جذوره، ادرك ايضاً أن اكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان إسرائيلية .
أكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان تنبع من داخل إسرائيل نفسها.
وأن اكثرها دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين منظماتٌ إسرائيلية، على رأسها منظمة السلام الآن الإسرائيلية. نقف أمام ما تفعله في سبيل تسوية عادلة ونشعر بالخزي من جعجعتنا الصوتية."
هذا ما قلته في مقال سابق.
اردده من جديد حتى يتضح موقفي.
فهو موقف واضح.
يتحيز للإنسان، أيا كان.
ولذا لم يكن إتخاذ قرار زيارة إسرائيل صعباً.
لم يكن صعباً على الإطلاق.
الإعلان عن الزيارة كان الصعب في الموضوع.
لكني كما لا أكره، لا أكذب.
ذهبت إلي إسرائيل لأنها دولة اعترف بوجودها.
والأهم، ذهبت إليها لأني اردت ان ارى ما يحدث على أرض الواقع. بعيني.
أن ارى هذا الإنسان في بيئته.
ولم اندم.
بل خرجت بحصيلة ثرية. ستمكنني من كتابة هذه السلسلة.
سأحكيها لكما بالتفصيل.
سأحكي لكما عن المؤثر الذي جعلني اقول لتوماس:"عرفت اين سنقضي إجازتنا. تل أبيب".
سأحكي لكماعن كتاب قرأته خلال زيارتي اردت من خلاله ان افهم وجهة النظر الإسرائيلية الباحثة عن السلام، كتاب ليوسي كلاين هالفي بعنون "رسائل إلى جاري الفلسطيني". وعن زيارتي لمتحف الهولوكوست. من يدخل إليه لن يخرج كما كان من قبل.
عن الإسرائيليين اليمنيين الذين إلتقيتهم صدفة.
ثم عن يافا وحيفا والقدس وبيت لحم.
وعن حكاية دخولي إلى بيت المقدس. آلمتني.
سأحكي لكما عن قانون الدولة اليهودية، دفعت به اقلية يمينية شعبوية، وطبيعة النقاش والجدل الذي دار حوله في إسرائيل، والمعارضة القائمة له.
وعن جانب إنساني مؤثر في تعامل إسرائيل مع بعض جيرانها. ضحايا حروبنا.
والأهم، سأحكي لكما عن الإنسان في إسرائيل.
ذاك الذي يحب ويضحك ويخاف ويبكي. ذاك الذي يمكن ان يكون صديقاً.
عندما نراه. نعرف أن السلام ممكن.
فتمهلا قليلا قبل أن تلعناني.
وتمعنا قليلاً.
السعي إلى السلام لايأتي في أوقات السلام.
يأتي في أوقات الحروب.
في وقت يصبح عدوك عنواناً للكراهية.
لعل الوقت قد حان لذلك ان نرى في هذا العدو إنساناً. أن نتعرف عليه قبل أن نحكم عليه.
فإذا لم نكن نحن، نحن رسل السلام، فمن إذن؟
نقلا عن الحوار المتمدن