السجال حول ثورة يوليو 1952: الصراع على روح جمال عبد الناصر (1/2)
مقالات مختارة | نبيل عبد الفتاح
الثلاثاء ٣١ يوليو ٢٠١٨
الخطابات السياسية حول ثورة يوليو 1952 اتسمت غالبًا بالحدة، والعنف اللفظى وفى استخدام التعميمات الإيجابية أو السلبية فى تقييم هذا الحدث الكبير، فى كتابات بعض الصحف، والانطباعات المرسلة، التى اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعى، وبدت هذا العام فى شكل سجالى، وفى صياغات مترعة بالتوتر
الانفعالى، وكأننا إزاء حدث لا يزال ساخنا بكل تفاعلاته وتناقضاته وصراعاته. خطابات انطباعية وتبدو عفوية، ويغيم عن غالبها الروح والعقل التاريخى، والمنهج فى تقديم الخطاب حول الثورة، ونظامها السياسى، وتشكيلات نظام النخبة السياسية ومصادره فى التجنيد السياسى، ونظام السياسة الخارجية، وسياساتها الاجتماعية، ونظامها القانونى ومواقفها من الحقوق والحريات العامة، والمجال العام السياسى. خطابات أحادية البُعد والتوجه، وتفتقر فى غالبها لبنية متماسكة،
وقليل الخطاب التاريخ الملتزم بالمقاربة المنهجية الواضحة، واللغة الموضوعية وروح النزاهة فى التقييم والرصد، وتحليل الوقائع المركزية والسياسات وهو جوهر العملية التأريخية. إن حالة العنف اللفظى، وفورة الانفعالات المنفلتة فى تقييم ثورة يوليو، وشخصية ودور قائدها البارز جمال عبد الناصر، ليست جديدة فى ساحات الجدل والسجال السياسى فى مصر والمنطقة العربية، إنما ظلت خليطًا من الأهواء والتحيزات غير الموضوعية، والأحكام المرسلة والمطلقة فى بعض الأحيان. إن ازدياد حدة السجالات هذا العام تعود فى تقديرنا إلى عديد من الأسباب، وعلى رأسها ما يلى: 1- مشاركة نشطاء مواقع التفاعل الاجتماعى، على نحو كبير فى إبداء الانطباعات والآراء الموجزة فى الثورة وشخصية جمال عبد الناصر، فى الفيسبوك، أو فى خطاب التغريدات على تويتر، حيث يفرض الحيز المتاح
حدودًا على الناشط فى إبداء وجهة نظره الموجزة، ومن ثم دفع غالب المشاركين فى السجال حول الثورة إلى نمط من الإثارة فى الصياغات، والنزوع الساخر لجذب الانتباه إلى آرائهم اللاذعة، والقاسية التى تنطوى فى غالبها على عدم الموضوعية فى تناول الثورة وشخصياتها البارزة. 2- القيود والضوابط المفروضة على المجال العام السياسى، دفعت بعض النشطاء إلى توظيف الواقع الافتراضى، فى إبداء آرائهم فى الحدث المؤسس لشرعية النظام السياسى، وإلى مقارنة بعضهم الآخر بين انتفاضة يناير 2011، وبين 23 يوليو 1952. 3- محاولة بعض المشاركين فى السجالات حول جمال عبد الناصر، والثورة تناول مسألة شرعية
النظام والنخبة السياسية الحاكمة بالالتفات عن الواقع الموضوعى إلى نموذجها المؤسس فى القيادة أو النظام، ومن ثم نقل الخلافات والصراعات السياسية والإيديولوجية إلى الماضى، هروبًا من مواجهة الحاضر السياسى ومحمولاته. إن نظرة على مجمل السجال السياسى حول ناصر والثورة، هى جزء من ظاهرة ممتدة فى ظل نظام يوليو 1952 ومراحله المختلفة، وهو ترحيل الخلافات السياسية إلى التاريخ ووقائعه ورموزه وعملياته، لإطلاق بعضهم آرائه فى الواقع الحى والفاعلين الأساسيين فى إطاره، وهى ظاهرة فرعية من ظاهرة أكبر هى الولع بالماضى لدى بعض الاتجاهات السياسية والإسلامية المصرية. هذا الاتجاه المتحيز والإيديولوجى فى استخدام التاريخ كجزء من أسلحة التعامل مع الواقع السياسى، نجده لدى بعض الجماعات الإسلامية السياسية، التى تنزع إلى الاجتزاء التاريخى، وإطلاق التعميمات والأحكام المطلقة السلبية والإيجابية على التاريخ المصرى الحديث والمعاصر. بعض الجماعات الإسلامية، تنظر
إلى الدولة الحديثة، وكأنها جزء من الظاهرة الاستعمارية -الكولونيالية- وذلك لإسقاط كل الأحكام السلبية على الأدوار الإجرامية والاستغلالية للاستعمار البريطانى، ونهبه للموارد المصرية، وتناسى أن مشروع الدولة القومية مصرى الرؤية والمشروع والبناء والمسار التاريخى، بل وأدى إلى تطور الروح والحركة الوطنية الدستورية المعادية للاستعمار البريطانى، التى أدت إلى تبلور القومية المصرية. هذه النزعة نحو الاجتزاء التاريخى نجدها فى استخدام بعض المراحل والأحداث والوقائع التاريخية، فى التاريخ الإسلامى، واستخدامها فى تبرير وشرعنة بعض مقولاتهم الإيديولوجية والسياسية الراهنة إزاء بعض الأطروحات المضادة لمشروعهم السياسى الدينى فى التأويل والتبرير. نزعة تختزل التاريخ فى واقعة وحدث ومقولات منتزعة من سياقاتها وظروفها
وشروطها وفاعليها نمط من الرؤية اللا تاريخية والانتقائية فى النظر إلى الأحداث التاريخية، هى أقرب إلى بناء سرديات منتقاة حول بعض المراحل والأحداث التاريخية.
من هنا تبدو القراءات المتداولة عن التاريخ الإسلامى فى معظمها سرديات أحادية ومتحيزة، وبعضها من منظور الجماعات الإسلامية السياسية، هو أقرب إلى التمجيد والاستثمار السياسى فى صراعات الحاضر. من هنا يبدو النقد العنيف الذى يوجد لأية مقاربات تاريخية موضوعية ونقدية لبعض هذه المراحل التاريخية الإسلامية وشخوصها، وبعض الاستثناءات عن هذا الاتجاه، تبدو جديدة. ثورة يوليو، وشخصية جمال عبد الناصر وتقييم دوره التاريخى ليست سوى استمرارية للنزعة الأحادية واللا منهجية فى دراسة تاريخنا السياسى والاجتماعى، وهو ما يؤدى إلى الإنتاج المستمر للصراعات حول التاريخ
ووقائعه فى الصراع السياسى المعاصر. الملاحظات السابقة تدور حول الخطاب الأيديولوجى المتحيز فى المقاربة التاريخية، ولا يشتمل على الدراسات التاريخية المنهجية والموضوعية لبعض المؤرخين الثقاة، الذين يتعاملون مع التاريخ ووقائعه، وفق المناهج التاريخية، وليس الانطباعات المرسلة، أو الآراء الانطباعية، التى تسود غالبية الكتابات على الواقع الاجتماعى الافتراضى أو فى بعض الصحف السيارة، على نحو ما قرأنا خلال هذه السنة فى ذكرى ثورة يوليو. السؤال الذى نطرحه فى ضوء المطالعة التحليلية لعديد الخطابات والآراء التى طرحت فى شأن تقييم ثورة يوليو، وجمال عبد الناصر، ما هو تصنيف هذه الآراء، وإلى أى الاتجاهات السياسية والأيديولوجية تنتمى، وذلك على الرغم من غلبة الانطباعات وبعض الآراء الموتورة التى لا تملك سوى اللغة الحادة
والعنيفة الأقرب إلى الانفعالات والمشاعر القاسية، منها إلى لغة الحوار والجدل الموضوعى الجاد الذى يستهدف وجه الحقيقة النسبية، من خلال تقويم السياسات، والنظام الاجتماعى، والوقائع المركزية التى أثرت فى مسار الثورة. قليلة هى المقاربات التى اعتصمت بالمنهج التاريخى، ودرست الطابع التسلطى للنظام، أو سياساته الإقليمية والدولية، أو سياسته الدينية، غابت التحليلات الموضوعية للاستمرارية والانقطاع فى مراحل تطور نظام يوليو التسلطى بين الناصرية والساداتية وحكم مبارك. لم يتناول فى السجال الدائر بعض الباحثين نظام الشرعية السياسية ومصادره ومكوناته وجروحه وأزماته. كيف تناولت الاتجاهات السياسية، تجربة نظام يوليو وإنجازاتها وإخفاقاتها، ومعها شخصية قائدها الوطنى البارز جمال عبد ناصر؟
نقلا عن التحرير