أسئلةُ «جوجان» الصعبة
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الاثنين ٣٠ يوليو ٢٠١٨
من أين جئنا. من نكون. إلى أين نحن ذاهبون.
أسئلةٌ بسيطة. طفوليةٌ جدّاً. غُفْلٌ حتى من علامة الاستفهام: (؟). هكذا أراد لها من أطلقها فى وجه العالم! هو ليس طفلا. لكنه فنانٌ. والفنانُ طفلٌ لا يهرَم. لكنّ الأطفالَ حين يسألون كلَّ يوم أسئلةً كتلك، ونحارُ فى الإجابة، يضعون علامةَ الاستفهام فى صوتهم وفى عيونهم.
الزمان: آخر ليلة فى القرن ١٩. المكان: جزيرة «تاهيتى» الساحرة فى جنوب المحيط الهادى. الحدث: قرّر رجلٌ فرنسى فى منتصف العمر اسمه بول جوجان Paul Gauguin أن ينتحر. لماذا؟ الحياةُ لم تعد تروقُ له بشروطها التى يرفضها! وخطَّطَ قبل موته أن يرسمَ لوحتَه الأخيرة ليعلنَ رفضَه للعالم المتحضر الذى هجر الطبيعة والفطرة الأولى. أرادَ أن تمثّل لوحته تلك حالَ عناق أبدىّ بينه وبين الحياة الفاتنة البسيطة التى تطوّقها التقاليد والطقوس والفطرة الطبيعية البكر فى جنوب المحيط الهادى. كان جوجان قد هجر أوروبا الصاخبة وجاء إلى الجزيرة تحدوه رغبة التعلّم من مواطنيها الفطريين. لعبة مصالحة الطبيعة ومعانقتها والقدرة على الاستغناء عن الرفاه وخصام المدنية والحضارة. ثم صارت تلك الأسئلة توقيعَه الخاص على لوحاته القادمة، بعدما أخفق عن الانتحار. وبهذه الكُنية التى وضعها لنفسه عبر أسئلته الثلاثة، عرّف جوجان نفسه بوصفه الإنسان الذى فقد مكانه وزمانه فى هذا العالم. قال إن الحداثة شوّهت الطبيعةَ الإنسانية وحرمتها من هُويتها. هجرَ الباريسيات الساحرات ذوات الكعوب الرفيعة العالية، إلى فتياتٍ يتكلمن بلغة الزهور. يشبكن زهرةً خلف الأذن اليسرى؛ حين يبحثن عن حبيب، فإذا وجدنه انتقلت الزهرةُ إلى وراء الأذن اليمنى. ترك مدينةَ النور والبارات والمتاحف والحضارة والفنون إلى حيث جبالٍ، قممُها حممُ براكين ونار.
كان غاضباً من فرنسا، وطنه؛ لأنها هجرت الفطرة وخاصمت الطبيعة وأسلمت نفسها للمدنية والتحضّر والصخب. ولمّا أيقن أن محبوبته باريس لم تُنصت إلى لوحاته الكثيرة التى كان يدعوها من خلالها إلى العودة للماضى بعفويته ونقائه، بل راحت توغل أكثر فأكثر فى الحداثة والتمدّن، قرر أن يُلقى فى وجهها رسالته الأخيرة شديدةَ اللهجة. ويمضى بغير عودة ويغادر هذا العالم فى رحلةٍ دون إياب. صحيحٌ أن محاولة انتحاره أخفقت، لكن لوحته لم تخفق فى إلهام الفلاسفة، وأسئلته الثلاثة خالدة لم يمحها التاريخ. تقفُ لوحته الآن فى متحف بوسطن للفنون الجميلة بوصفها الأشهر بين أعماله.
تُصور اللوحةُ، المرسومة بالزيت على التوال، مشهداً من جزيرة تاهيتى الساحرة، بنسائها الخُلاسيات، منخرطات فى أعمالهن البدائية بملابس بسيطة وجدائل لم تلوثها أبخرة الماكينات. وفى أعلى يسار اللوحة حفر ثلاثَ عباراتٍ عصيّة:
VENONS NOUS ’OU’D
QUE SOMMES NOUS
ALLONS NOUS ’OU
وقتها، لم يُلتفت إلى تلك الكلمات إلا كجزء من عمل فنىٍّ شهير، وليس كوصيةٍ أخيرة من فنان مجنون، وفيلسوف، جاء إلى الحياة عام ١٨٤٨. أما فى الركن العلوى الأيمن، فوضع توقيعه وتاريخ اليوم الذى أنهى فيه اللوحة: P. Gauguin 1897. وبعدما أخفق فى إنهاء حياته فى ذلك اليوم، غادر العالم بعد ستة أعوام فى ١٩٠٣.
فى رواية «الشحاذ» لنجيب محفوظ يقول عمر الحمزاوى: «كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس؟ ولم نعد نتساءل». فتجيبه زوجتُه: «بديعٌ أن نتخلص من سؤال!».
لا شك أن معرفة إجابات الأسئلة شىءٌ جميل ومريح فى كثير من الأحيان. ولكن ثمة أسئلةً لو عرفنا إجاباتها فقدت الحياةُ دهشتَها، وكفَّ الشعراءُ عن الغناء، وتوقف الفلاسفةُ عن النظر إلى السماء، وامتنع الأطفالُ عن الركض وراء الفراشات. أسئلة جوجان تقفُ على رأس تلك الأسئلةِ التى يجب أن تظلَّ أسئلةً مبهمةً ومُلغزةً وبكماء. هى أسئلةُ الأطفال التى تُعجِز الكبار. وكلُّنا، حالَ الكلام عن الكون، أطفالٌ. وتلك إجابتى عن السؤال الأوسط: (من نكون)، ولستُ أعرف إجابةَ السؤالين الآخرين، ولا أنا شغوفةٌ بمعرفتها. أعرفُ فقط أنه يلزمُ أن نظلَّ أطفالاً نسألُ ونرجو ألا نعرفَ. حتى نعيشَ ونُدهشَ ونبدعَ ونحبّ. ولئن كانت مقولة على ابن أبى طالب: «الإنسانُ عدوُّ ما يجهل» صحيحةً فى مستوى، ففى مستوى آخر، نحن نشغف بما نجهل. ولا نكفُّ عن السعى إليه ومحاولة فك شفرته. فأنتَ إن عرفتَ شيئا مججته. لذا يلزم أن تظلّ الحياةُ لغزاً كى نحبّها. لكيلا نفقدَ شغفَنا بها.
نقلا عن المصري اليوم