هل حقا فنوننا القديمة باتت " صدقة جارية "؟!
مدحت بشاي
الأحد ٢٩ يوليو ٢٠١٨
مدحت بشاي
فنون التعرية ليست فحسب المعنية بتعرية جسد المؤدى لفنون عصر النهضة الغنائية الخايبة، ولكنها تعرية فنوننا فى أغلب المعروض منها من حلو الأحاسيس التى تداعب برقة ورهافة الوجدان المصري والإنساني ، وتَعرى معظمها من القيم الجمالية التى كانت تهدهد على قلوب الأحباء وتولع نار العشاق وتبلسم جراح اللى اتخان واتلوع بملاعيب التقل والهجر والصد.. وكمان اتعرت من أغانى للوطن بعد لما خرج هضبة زماننا وقال: "هو فى حد يغنى للسد العالى" فغنى لمواليد برج الحوت!
لقد تعرت شوارعنا من قيم الجمال المعمارى، وبإضافة اللافتات الإعلانية القبيحة الفوضوية على محلاتنا التى لا تتناسب فى ألوانها وخاماتها وتصميماتها مع الشوارع المسكينة.. وتعرت مياديننا التاريخية ــ أعظم ما ورثناه من أجداد أزمنة الحضارة ــ من وجود تماثيل جديدة بروعة إبداعات «محمود مختار»، فكانت إهانة أصحاب التماثيل بعد تعريتهم من أروع سماتهم بعد تقزيم البعض ، وتحويل البعض الأخر إلى أشكال حرامية الغسيل أو صبيان الغازية!
منذ زمن ليس بالبعيد قال الموسيقار محمد كامل الخلعى: " لقد أجمعت الأمم من جميع الطبقات على حب الألحان، ولكن ذلك حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم لأنك تجد لكل أمة من الناس ألحانًا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها ولا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم مثل غناء الروم والفرس والأتراك والعرب والأكراد والأرمن وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والأخلاق والعادات إلا بالتعود على سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب فى أى لحن كان"...
أستعيد قراءة هذه الكلمات التعريفية التى تنم عن تفهم صادق لفنون وموسيقى الشعوب.. وهى رؤية لا تدعو كما يتصور البعض إلى الجمود والتوقف عن الإبداع بدعوى الحرص على الأصالة، وإنما العكس هو ما قصده " الخلعى" عندما ربط جماليات ألحان ونغمات الأمم بطبيعة شعوبها وخصوصياتهم، فالأمم عندما تهب عليها رياح التغيير بفعل تطور حضارى تصنعه شعوبها فى عصور نهضتها أو فى استجابة لمتغيرات كونية وعالمية تفرض نفسها، فإن أصحاب الحضارات الأصيلة التى يتوافر لها هذا السحر الخاص والتفرد الأخّاذ للثقافة والتاريخ يربطون فى النهاية بين إبداعاتهم وحال شعوبهم بتواصل حميم.
فى صيف عام 1973 قامت أم كلثوم بتسجيل الأغنية الأخيرة لها " حكم علينا الهوى"، واستغرق التسجيل اثنتى عشرة ساعة، وقد سجلت العمل وهى جالسة لأول مرة لظروف صحية، وهى المرة الأولى التى تقوم بتسجيل أغنية لن تتمكن من تقديمها لجمهورها على المسرح.. إنها أم كلثوم وحالة الإصرار على التواصل العبقرى مع شعب تعرف قدره بتفهم أخّاذ لقيمة تراثه وحضارته وجوانب خصوصيته حتى النفس الأخير من عمرها والشطر الأخير من آخر أغانيها.
لقد لفت انتباهى تصريح مؤلم، ولكنه رائع للموسيقار الكبير حلمى بكر هذا الأسبوع فى توصيف الحالة الغنائية، قال: "إن ما قدمته أم كلثوم وما أبدعه محمد عبدالوهاب وما شدا به حليم وما غنته وردة أراه صدقة جارية".. وبالفعل نحن نعيش فى معظم الأحوال على خيرات تلك الصدقة، فإذا أحببنا أن ندلل أطفالنا نغنى لهم مع الرائع محمد فوزى " ماما زمانها جايه "، ولما نحتفل بعيد الميلاد نغنى مع حليم "عقبالك يوم ميلادك" ولما يحل الربيع نغنى مع الأطرش "أدى الربيع عاد من تانى" أو مع السندريللا الشقية سعاد حسنى وعمنا جاهين " الدنيا ربيع" ويوم لما نحتفل بالأم فلا نجد أروع من " ست الحبايب " لفايزة أحمد، ولما تيجى أعيادنا نغنى " يا ليلة العيد" مع ثومة العظيمة.. هل تم إبداع ما هو أعظم وما يمكن أن نراه بديلاً يا جماهير برج الحوت؟!