التطرف والاعتدال في الإسلام
مقالات مختارة | بقلم: محمد المحمود
الاثنين ٢٣ يوليو ٢٠١٨
الإسلام ـ كأي دين، وكأي أيديولوجيا إطلاقية ـ يتأسس على نصوص أولية مقدسة، أو شبه مقدسة، كما يتأسس على تجربة تاريخية تأخذ طابع المثال/ الأنموذج في المخيال العام للأتباع. والنصوص المقدسة من جهة، والتجربة التاريخية المُنَمْذَجَة من جهة أخرى، ليست في النهاية (أي كما تتجلى في وعي المتلقي) إلا منظومة من العلامات المنفتحة على فضاء تأويلي واسع، يسمح لكثيرين ـ وفق ظروف محددة، ومعطيات متنوعة ـ بصياغة رؤيتهم الخاصة التي يعتقدون أنها تتطابق مع الدلالة الأولى/ الصادقة أو الأصدق/ المتعالية لمنظومة العلامات المستهدفة بالتأويل.
من يمتلك "الحقيقة المطلقة" الكامنة في النصوص؛ كما في التجربة الأولى المُؤسِّسة/ المقدسة؟ هذا هو سؤال الافتراق في أي دين وفي أية أيديولوجيا. ثمة افتراض صريح أو ضمني يؤكد وجود حقيقة مطلقة/ نهاية/ مكتملة، وأن على الجميع البحث عنها، والتطابق معها، كشرط لمصداقية الإتباع؛ ومن ثم كشرط لتحقيق الخلاص. وتكون النتيجة التي يتوقعها كل أحد ـ حتى من تعذر عليه الوفاء بشرط البحث والوفاء بشرط إرادة الخلاص ـ أن تكثر دعاوى الوقوع على تلك الحقيقة المطلقة المنتصبة في صلب الادعاء الأصولي. وهو الادعاء الذي يفترض ـ بالضرورة ـ نفي كل تجارب/ محاولات الآخرين.
إذا أصرت جماعة ما على طرح "الجهاد" كما هو في المدونات التراثية، فهذه يمكن اعتبارها حركة تطرف
منذ فجر التاريخ الإسلامي؛ كان الصراع ـ ومن ثم الافتراق ـ على من هو الممثل الشرعي لحقيقة الإسلام. بدهي أن كل النسخ هي في النهاية تأويلية، وكلها تدعي التطابق التام مع مراد الله في الدين. كل فرقة تدعي أنها "الفرقة الناجية" وأن الآخرين ـ بالضرورة ـ هم من 72 فرقة أخرى، كلها في النار/ هالكة/ غير ناجية. إنها فرق المعارضة، في وقت كانت فيه المشروعية السياسية مرتبطة بالمشروعية الدينية؛ والعكس صحيح إلى حد كبير.
وبالتالي، لم يكن غريبا أن تحدد بعض روايات هذا الحديث هوية "الفرقة الناجية" من بين 72 هالكة، بأنها "الجماعة"، وأن يكون راوي الحديث هو الوالي: معاوية بن أبي سفيان الذي إذ لم يجد لنفسه مشروعية يحكم بموجبها، لا في النصوص المقدسة، ولا في التجربة المقدسة. لهذا بحث عنها في مجريات التاريخ الواقعي الذي كان يسهم في صناعته، أي في "الجماعة" كحدث تاريخي اضطراري، كواقعة يريد أن يتخذ منها مشروعية دينية، ومن ثم سياسية، تنافس مشروعية رموز التجربة المقدسة (من قرابة وصحابة) أولئك الذين كانوا ينازعونه صراحة أو ضمنا على الموقع السياسي/ ولاية الأمة؛ من خلال منازعتهم له على الحقيقة الدينية التي لا يملك أدنى مقومات المنافسة في مضمارها. لقد كان ينطلق من التاريخ/ الواقعة السياسية ليفرض حقيقة دينية تشرْعن موقعه السياسي، في الوقت الذي كان فيه خصومه ينطلقون من حقيقة دينية (قرابة وسابقة) ليفرضوا واقعا تاريخيا/ سياسيا يمنح حقيقتهم الدينية مزيدا من المصداقية بشهادة الواقع العيني؛ حتى تضمن لنفسها أن تتمدد في المكان في الزمان.
استمر هذا الجدل الديني/ التاريخي، في كل تفاعلاته الجدلية؛ حتى أفرز مئات المذاهب والفرق والطوائف والجماعات المنتسبة للإسلام. وكانت كل هذه التنويعات تدعي المطابقة من حقيقة الإسلام الأول؛ إما صراحة؛ بالتطابق مع حرفية النصوص، والتماهي مع تفاصيل وقائع التجربة الأولى، وإما ضمنا؛ بالتطابق مع المضامين غير المباشرة للنصوص، ومع مقاصدية التجربة الأولى. وحتى عندما كان الواقع يفرض شروطه؛ كان هذا المنحى التأويلي أو ذاك (كلاهما تأويلي؛ فحتى النصوصيون الحرفيون هم مُتأوِّلَة في النهاية) هو ما يؤطر الخيارات؛ من حيث هو يشرعنها.
طبعا، كل هذه التجارب ليست على مستوى واحد، لا في مراعاة الشرط الواقعي، ولا في مراعاة الحشد النصوصي، ولا في اعتماد العقل كجزء أصيل وحاسم في معادلة إنتاج الدلالة، ولا في مراعاة الأبعاد الإنسانية... إلخ. خلال هذه التجربة الطويلة الممتدة على مدى أربعة عشر قرنا، كان "التدين" كحالة مرافقة للدين ذاته يفرز حالاته القصوى على يد أولئك الذين تصوروا أن حقيقته تتجلى في البلوغ بمفرداته ـ غلوا ـ إلى حدودها القصوى؛ حيث الطرف الأقصى/ التطرف الذي أنتج "المُحكِّمة الأولى/ الخوارج"، تلك الحركة الراديكالية التي اتخذ بإزائها الطرف السني، كما الطرف الشيعي، موقعه كممثل للاعتدال.
إذن، كان هناك الخوارج/ المُحكِّمة من جهة، وكان هناك الناؤون بأنفسهم ـ بدرجات مختلفة ـ عن مجمل التجربة الدينية والتباساتها من جهة أخرى. وبين هؤلاء وهولاء يوجد الخط الاعتدالي الذي توسط بينهما من سنة وشيعة؛ فكفل لنفسه الشيوع والاستمرار؛ لقدرته على الملاءمة بين الاشتراطات الدينية والطبائع العامة لأكبر قدر من الناس، ولقدرته على التفاعل مع المنعطفات التاريخية الحرجة بمرونة كبيرة جعلته يستفيد منها في مراكمة مكاسبة وضمان استمراريتها؛ فضلا عن تثبيت نفسه كحقيقة متجذرة بعمق التاريخ؛ ومن ثم كحقيقة قادرة على الصمود والبقاء في المستقبل كأمل موثوق لملايين المحرومين البائسين.
لكن، مشكلة السنة/ التراث السني، كما هي مشكلة الشيعة/ التراث الشيعي، أي مشكلة ممثلي الاعتدال، تكمن في عدم وعي الأتباع بحقيقة أن الظرف التاريخي الراهن (الذي ابتدأ حديثا باكتشاف الغرب) يختلف جذريا على كل مسارات التاريخ السابق. ما كان يصنف في خانة الاعتدال طوال أكثر من اثني عشر قرنا، لن يكون ممثلا للاعتدال في عصر جديد خضع فيه الوعي الإنساني كله لمتغيرات جذرية، متغيرات طالت كل ما يتعلق بالحراك الإنساني، وأهمها ما يتعلق بالإنسان الفرد من حيث هو إنسان، وما يتعلق بعلاقة الإنسان بالإنسان، وما يتعلق بالعلاقات بين الجماعات/ الأمم/ الدول... إلخ. وفي سياق هذه المتغيرات الجذرية، يصبح الاعتدال الموروث تطرفا صارخا، ويكفي الإصرار عليه ـ كما هو بكليته؛ ودونما انفتاحات تأويلية ـ ليتحول إلى إرهاب صريح يندرج في صِدام دام مع كل العالم، بل ومع معظم مكونات الذات.
ما كان في الماضي فتحا وتمددا، ومشروعا وفق منطق ذاك العصر، أصبح اليوم عدوانا مدانا
منذ بدايات الانفتاح على العصر الحديث المتمثل بالغرب الحديث قبل قرنين، والإصلاحيون يحاولون اجتراح الحلول لكثير من مفردات الموروث الإسلامي؛ بغية الخروج بـ"إسلام معتدل" قادر على التعايش مع العالم بسلام. كانت المحاولات كثيرة، ومتفاوتة في عمقها، وفي جرأتها، وفي قدرتها على المواءمة بين المنطلقات الأساسية التي تشكل هوية الإسلام من جهة، واشتراطات المعاصرة من جهة أخرى. حاول ذلك الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا في فترة ما، وبدأت إسهامات بعض المفكرين في هذا المجال، كالعقاد، وخالد محمد خالد... إلخ.
لكن، كانت الأصولية السلفية الانكفائية بالمرصاد لكل هذه المحاولات، إذ تم تشويهها بأكثر من أسلوب، وعلى أكثر من صعيد. فقد أطلق عراب الأصولية الإسلامية/ سيد قطب على النسخ الحديثة من التأويل الإسلامي مسمى: "الإسلام الأمريكاني"، وأكد رموز "السلفية السرورية" على أن ما يسمى بـ"الإسلام المعتدل" ليس أكثر من "إسلام أميركي"؛ لأنه ـ كما يقولون صراحة ـ إسلام بلا جهاد. أي أنهم لا يتصورون "الإسلام الحق" إلا اسلام الحروب والقتال والصراع المستمر مع العالم الذي يقسمونه ـ في سياق تصور تراثي خالص ـ إلى فُسْطاطين: دار الحرب ودار الإسلام.
الحديث عن الجهاد (الحروب المقدسة المفتوحة) ليس حديثا عابرا في خطاب الأصوليات الإسلامية، بل هو جزء أساسي؛ إذ لا يكون ثمة إسلام حقيقي/ إسلام صادق يضمن الخلاص؛ إن لم يكن ثمة تأكيد على الجهاد. لا تستطيع الحركات الأصولية أن تخرج من شرنقتها التاريخية لتدرك أن الجهاد ـ كما يتوهمونه ـ كان طوال تاريخنا بمثابة حراك مسلح لحماية حدود مفتوحة/ دائمة التغير، وأن الجيوش الحديثة المنضبطة بالإرادات العليا للدول المعترف بها وفق حدود جغرافية محددة، تكفي لحماية الدول، وبالتالي تلغي أية حاجة للمفهوم القديم للجهاد. ما كان في الماضي فتحا وتمددا، ومشروعا وفق منطق ذاك العصر، أصبح اليوم عدوانا مدانا لا يبقل التبرير بحال.
يمكن اعتبار "الجهاد" مفردة اختبار أولي لكشف أعلى درجات التطرف في الخطابات الدعوية، المسيسة وغير المسيسة. إذا أصرت جماعة ما/ تيار ما/ حزب ما/ على طرح "الجهاد" كما هو في المدونات التراثية، وتقسيم العالم إلى عالم إسلام وعالم كفر؛ فهذه يمكن اعتبارها حركات تطرف/ إرهاب صريحة ابتداء؛ ولا تستحق أن ينظر لما وراء ذلك من مفردات خطابها. وإن تجاوزت ذلك، فيمكن الدخول معها في حوار حول مستويات الاعتدال.
إن كل السلفيات الأصولية تدرك أن الخطوة الأولى/ الخطوة البدهية لـ"الإسلام المعتدل" تكمن في نزع فتيل العنف بإعادة تأويل "الجهاد" على نحو جذري يضمن تغييرا نوعيا في الأدوات والوظائف والغايات. لهذا، تجدها تحارب بشراسة كل المحاولات الإصلاحية التي تتطلع لخلق "الإسلام المعتدل" الضامن لمستقبل تصالحي مع الذات ومع العالم.
نقلا عن الحرة