عرض: إسحق إبراهيم – خاص الأقباط متحدون
"تاريخ القبط تحت الحكم العربي الإسلامي هو (كتابٌ أسود)، تتخلله بضع (صفحات رمادية) فيها قليل من السطور المضيئة"، توصل الكاتب والباحث الأستاذ عادل جندي في نهاية كتابه "حكايات الإحتلال.. وتصحيح بعض المفاهيم" إلى هذه النتيجة حيث قدم دراسة قيمة وموضوعية اخترقت تابوهات صنعها المصريين لتقديس التاريخ، الكتاب صدر عام 2009 عن منتدى الشرق الأوسط للحريات الذي يديره الكاتب والمفكر مجدى خليل، ويعد الكتاب وثيقة تشهد على تاريخ الأقباط في مصر نظرًا لكثرة المعلومات التي وردت بالكتاب، والتي جاءت بأسلوب شيق يتجنب العرض التاريخي الممل إضافة إلى الإستعانة بعدد واف من المراجع المهمة والتي كتبت في نفس المرحلة الزمنية مما يزيد من المصداقية، هذا إلى جانب أن الكتاب يتناول تساؤلات راهنة ترتبط بالأقباط وميراث التمييز ضدهم.
حسنٌ فعل الكاتب في مقدمة انتاجه عندما أكد أنه لا يمكن لأحد إعادة عجلة التاريخ للوراء لكن ما نحن فيه هو نتيجة للماضي بحلوه ومره، بانتصاراته وهزائمه، كما لا يمكن اتهام الأحفاد وأخذهم بجريمة أجدادهم. وبالتالى الكتاب ليس موجه ضد أحد أو تيار أو جماعة بعينها، وإنما رسالة للمصريين بأن التاريخ ليس مجالاً للتقديس، بل يجب أن يخضع لعملية مستمرة من البحث لتدقيق الأحداث بناء على مصادر ومعلومات جديدة، وثانيًا -كما يقول عادل جندي- لإعادة تحليل المادة التاريخية من زوايا مختلفة. والهدف ليس فقط فهم الماضي من منطلق بحثي أكاديمي، بل معرفة أثره على الحاضر والمستقبل، ولا مانع من الإعتراف بأخطاء الأقدمين وجرائمهم بل والإعتذار عنها، ليس فقط لتطهير الضمير الجمعي بل -وهو الأهم- إعلان العزم على عدم التكرار خاصة أن تاريخ الأقباط تم تشويه في الكتب المدرسية وفي الجامعات ويقدم بصورة تخالف الحقيقة وتدل على قدر كبير من غياب المعرفة.
السؤال الأول الذي طرحه الكاتب: من الأقباط؟! وما يرتبط بذلك من جدل حول عروبة مصر، هل مصر عربية؟
من المعروف أن العرب بعد دخول مصر كانوا يطلقون اسم "قبط" على أهل البلاد الأصليين، آخذين في الاعتبار أن مصر كان بها في ذلك الوقت جالية يونانية، وأخرى يهودية كبيرة، أما عن عروبة القبط والمصريين أم عدمها، فالإجابة بالنفي طبعًا.
عندما يتناول غالبية المصريين تاريخ الأقباط نجدهم يرددون عبارات شهيرة منها: "تمتع المسيحيون بكافة حقوقهم في ظل الدولة الإسلامية، ولم يتعرضوا لأية أنواع من التمييز ومارسوا عبادتهم بحرية، وعندما يُقال لهم إن الجزية فرضت على الأقباط تجدهم يقولون أن الجزية كانت مبلغًا صغيرًا من المال يدفع بدل المشاركة في الحرب ثم يقولون أن الأقباط لو كانوا تعرضوا للظلم لكانوا اعترضوا أو خرجوا على الحكم الإسلامي، وهذا لم يحدث" هذه عينة من الحوار الذي يتم عند تناول تاريخ الأقباط وعلاقتهم بالمسلمين والحكام.
في هذا الكتاب يقدم عادل جندي قراءة مختلفة، فلا الأقباط تمتعوا بحريتهم الدينية فى كافة مراحل التاريخ الإسلامي، ولا الحكام طبقوا العدل، ولا العلاقة بين المسلمين والأقباط كانت "سمن على عسل" في كل الأوقات، وبالطبع حاول أجدادنا بقدر ما يملكون من قوة أن يقاموا ويعلنوا عن رفضهم للظلم وبالقوة كما حدث فى ثورات البشموريين. فالمقاومة كانت أنواعها منها السلبية وعمليات الهروب الجماعة لكن بعد فترة بدأ الأقباط في القيام بثورات متعددة شملت الوجهين القبلي والبحري، وكان أعنفها تلك التي قام بها عدة مرات أهل البشمور، وهي منطقة ساحلية شمال الدلتا. كانت أول الثورات في ٨٧هـ (٧٠٦) في الدلتا وأيضا الصعيد، وأخمدتا بالقوة. وقامت ثورة ثالثة في عهد هشام بن عبد الملك في ١٢٠هـ (٧٣٨) ثم رابعة في ١٢٢هـ (٧٤٠) علي يد يُحنّس (يؤنس، حنا) القبطي في سمنود. وتجددت بعدها الثورة في رشيد في عهد مروان آخر الخلفاء الأمويين. ثم عاد القبط للثورة أيام العباسيين في سخا في (٧٦٧)، ثم في (٧٧٣). وقد كشفت تلك الأحداث عن أن العلاقة بين معظم الحكام والبلدان التي تم احتلالها لم تكن إلا لحلبها حتى تدر الدم، والبطش بكل من يحاول الاعتراض.
فتح أم غزو؟
يقول التاريخ الرسمي عند الحكومة والشعب أنه فتح مبين بينما تقول المصادر العملية بأنه غزو، وهو ما أكده الكاتب استنادًا إلى شهادة يوحنا النقيوسي (الذي كان معاصرًا للأحداث) بأنه صورة كئيبة لأحداث الإحتلال، شهدت حوادث القتل والسلب والنهب والتخريب، ولخص الحال بقوله "ولم يكن عند عمرو رأفة بالمصريين ولم يحترم العهد الذي قطعه معهم، لأنه كان من جنس البرابرة. ونهب المسلمون ممتلكات المسيحيين الهاربين واعتبروا خدام المسيح أعداء الله"، وتساءل الغازون هل فتحت مصر صلحًا أم عنوة؟، وكان الجواب الأرجح هو: «عنوة»، بسبب وجود الأقباط في الجيوش البيزنطية دليلاً على مقاومة الأهلين للفتح، ولأن حاميتي بابليون والإسكندرية لم تطلبا وقف القتال إلا بعد الشعور بانفلات زمام الأمر. وقد قال عمرو وهو جالس يومًا بالمسجد: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر عليّ عهدٌ ولا عقد". وطوال فترات الإحتلال كان همّ سلطة الخلافة المركزية ضمان تحصيل الضرائب وإرسال المال لها. وقد كان شعار الخلفاء -كما ذكر جندي- هو ما لخصه ببلاغة الخليفة سليمان بن عبد الملك، الذي كتب يأمر متولي خراج مصر: «احلب الدر حتي ينقطع واحلب الدم حتي ينصرم». في هذا السياق لم تكن الجزية مبلغًا تافهًا بل كانت مبلغًا باهظًا لا يقدر عليه الفقراء ومعظم متوسطي الدخول وعجز الأقباط عن دفعها، ذلك بخلاف الأتاوات التي فرضها الحكام على البطاركة والتحفظ عليهم لحين قيام الشعب القبطي بجمع المال ودفعه للوالي.
تناول الكاتب أيضا علاقة الكنيسة بالعالم حيث كلما حاول البطريرك مواصلة علاقاته مع متحدي العقيدة مع الكنيسة القبطية (التابعين لها روحيًا) خارج الحدود المصرية كان هذا يثير غضب الحكام، والويل له إذا تخاطب رأسًا معهم بدون علمهم. على أن تبعية كنيسة الحبشة والنوبة، حتى أسلمتِها في القرن الخامس عشر للكنيسة القبطية كانت من أهم عوامل استقرار أحوال مصر على حدودها الجنوبية، وهو ما جعل الحكام المسلمين يتحاشون القضاء عليها تمامًا. لكن كثيرًا ما كان الولاة يبتزون الكنيسة للضغط على ملوك الحبشة من أجل نشر دعوة الإسلام وبناء المساجد في بلادهم. وكان النجاشي يضحي بعزة نفسه ويرسل الهدايا للحكام في مصر راجيًا السماح بإرسال مطران له. كما كان النجاشي يحاول أحيانًا التدخل لوقف الاضطهاد في مصر. وظلت الكنيسة محافظة على وطنيتها رافضة أي تدخل أجنبي فى شئون مصر بحجة حماية الأقباط.
والسؤال أذًا: متى تمتع الأقباط بحقوقهم الكاملة؟!
محمد علي مؤسس مصر الحديثة قاد حملة التغيير والنهضة والحداثة، ومن قيم الحداثة المساواة والعدالة وبالتالي قضى محمد علي مبدئيًا على التفرقة عندما قرر استخدام المصريين والاعتماد عليهم. ويشير الكتاب إلى أنه لم يحُل بين النصارى وبين ممارستهم لطقوسهم الدينية ولم يرفض طلبات بناء أو إصلاح الكنائس، وسهّل عمليات الحج إلى الأراضي المقدسة تحت رعاية السلطات. وكان أول حاكم مسلم منح الأقباط رتبة البكوية واتخذ له مستشارين من النصارى لكن لم يقُم محمد علي بإلغاء الجزية برغم صدور فرمان الكلخانة بإلغائها (١٨٣٩)، وإن كان قد فتح باب الإستثناء فأعفى منها العمال الأقباط بترسانة الإسكندرية والذين يؤخذون للجهادية لكونهم يؤدون مصالح الميري ومن اللزوم رعايتهم ورفاهيتهم. ويظل سعيد باشا حالة استثنائية فقد كان بعيدًا عن التعصب لأحد الأديان، ولا يفرق بينهم ولا يفضّل بعضهم على بعض فأحبته الرعية. وعمل على إزالة العواقب نحو اندماج القبط في صلب الأمة، وقرر قبولهم في الجيـش ونص الأمر العالي (يناير ١٨٥٦) على أن "أبناء أعيان الأقبـاط سوف يدعون إلى حمل السـلاح أسوة بأعيان المسـلمين وذلك مراعاة لمبدأ المساواة". وألغى سـعيد في ديسمبر ١٨٥٥ الجزيـة «رغبة من الوالي في التلطف مع الذميين المشـمولين برعايته». وفي ١٨٥٦ انتزعت القوى الأوروبيـة وعدًا شفاهيا من السـلطان عبد المجيـد، دُوِّن في الكتاب الموشح بالخط الهمايـوني (١٨ فبراير)، بشأن تنظيم إقامة البطاركة وتعمير وترميم الأبنية المخصصة للعبادة، وذلك «لحفظ الناموس فى حق جميع تبعتي الموجودين في أي دين كان بدون إستثناء. وانتهت مرحلة معاملة المصريين الأقباط كأهل ذمة، وأصبحت فى ذمة التاريخ، فلا نعتقد أن التاريخ سيعود للوراء».
واخيرًا: ما رسالة الكتاب الختامية
أكد عادل جندي أنه يلفت النظر إلى أهميـة رؤية حقائق التاريخ كما هي، والكف عن العيش في الأكاذيب والأوهام التي تنفخ الذات وتنفي الآخر، تصطنع البطولات وتخفي الجرائم. وانه دعوة «العنصر الغالب» في «السـبيكة المصرية» إلى إدراك حجم المعاناة التي مر بها «العنصر الآخر»، بدون استهانة أو استخفاف وكذلك دعوة القبط لإدراك أنهم يتحملون جزءًا كبيرًا من المسئولية عما حدث لمصر ولهم، وأن عليهم تفهم أسـباب التدهور، وعليهم المشاركة بقوة وفاعلية في محاولات إعادة بناء مصر.