الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أول زعيم قبطي ينادى بالعدالة الاجتماعية في عصره قائد كنسي سياسى ومصلح اجتماعي
إيهاب رشدي
١٧:
٠٩
ص +02:00 EET
الأحد ١٥ يوليو ٢٠١٨
كتب - ايهاب رشدى
يسجل لنا التاريخ مشاهد من حياة أشخاص عاشوا بأرواح عظيمة كانت تقشعر من الظلم ، وتنشد العدل والمساواة بين الناس ، وذلك قبل ان يضع البشر قوانين ومواثيق تكفل الحقوق للانسان . هؤلاء لم يقووا على كتم كلمة الحق فكانوا ينطقون بها فى وجه الحاكم الظالم وفى وجه الأغنياء قساة القلوب الذين اعتبروا الفقراء والمساكين ليسوا إلا أدوات فى أيديهم تحقق لهم متع الحياة .
ومن هؤلاء العظماء رجل قبطى نشأ و عاش فى صعيد مصر خلال القرنين الرابع والخامس الميلادى هو الانبا شنودة رئيس المتوحدين أحد أعمدة الكنيسة القبطية والذى لازال دارسو التراث القبطى فى كل العالم يقلبون فى صفحات حياته ويبحثون فيما خلفه من كتابات وتعاليم سامية تركها ارثا للانسانية كلها .
حمل الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ، روح إيليا النبى الذى وقف أمام آخاب الملك فى جرأة ووبخه على انقياده لإمراته عابدة البعل ، كما حمل روح يوحنا المعمدان الذى لم يهب هيرودس الملك وقال له ما خشى الجميع من النطق به " لا يحل لك ان تأخذ امرأة اخيك زوجة لك "
حمل الانبا شنودة فى وجدانه قلبا نابضا بالعطف وعينا رحيمة بالمسكين ، فرغم كونه راهبا نذر حياته للسيد المسيح إلا أن ذلك لم يجعله يغض بصره عن المظالم التى كان يتعرض لها المصريين فى ذلك العصر فحمل أوجاعهم فى قلبه وصار مصلحا اجتماعيا باعماله التى سبقت عظاته .
يروى عنه الدكتور صموئيل معوض الباحث بقسم القبطيات بجامعة مونستر بألمانيا وصاحب أكبر كتاب كُتب بالعربية عن رئيس المتوحدين صدر فى عام 2009 بعنوان " الانبا شنودة رئيس المتوحدين - الجزء الاول ( سيرته . عظاته . قوانينه ) " أن القبائل النوبية قد اعتدت فى عصره على بعض القرى بالقرب من اخميم ونهبوها ثم ساقوا سكانها اسرى وسبايا فما كان من الانبا شنودة إلا ان ذهب اليهم وتفاوض مع رئيسهم ان يطلق سراح الأسرى على ان يحتفظ بما نهبه من اموال ثم اصطحب الاسرى لديره فاعتنى بهم وقدم لهم المأكل والملبس والدواء حتى استقر حالهم وكانوا نحو 20 الف شخص قام الدير بتدبير احتياجاتهم لمدة 3 اشهر ، قام خلالها الرهبان بخدمتهم واستأجر الدير 7 أطباء لمداواة جروحهم وفى هذه المدة توفى منهم 94 تم دفنهم فى مقابر الدير وولد لهم 52 طفلا .
وهكذا كان فكر العمل الاجتماعى واصلاح المجتمع متأصلا فى خدمة الانبا شنودة حتى انه فى احدى المرات ذهب لزيارة فقير غير قادر على اعالة أولاده ، فأعطاه بعض بذور نبات القرع ليزرعه ، فنمى الزرع وباعه الرجل ليزرع غيره ، وصار مصدرا لكسب قوته .
تقول عنه المؤرخة المصرية " إيريس حبيب المصرى" التى كتبت قصة الكنيسة القبطية فى سبعة مجلدات أن رئيس المتوحدين قد علم المصريين ان لا يرضوا بالظلم ولا يستكينوا له كما علمهم الشجاعة فى المطالبة بالعدل والانصاف وبهذه الوسيلة العملية نجح شنودة فى ان يبدد مخاوف مواطنيه وبالتالى بدد تخاذلهم ويأسهم وملأ قلوبهم ثقة واعتزاز بأنفسهم وبقوميتهم .
كما وصفته بأنه كان يتمتع بنزعة قومية عنيفة جعلت منه زعيما سياسيا إلى جانب زعامته الروحية و جعلت عددا كبيرا من المؤرخين الغربيين يعدونه المحرر للفكر المصرى من الربقة البيزنطية والممثل الحق للعبقرية الفرعونية .
كان شنودة واعيا برسالته فى ذلك العصر الذى عاش فيه ، متفردا فى صفاته التى جمع فيها بين الرهبنة الملزمة بالعزلة عن العالم وبين انخراطه فى المجتمع المصرى حتى انه اشتهر بين المؤرخين بأنه بطل قومى فى زمانه ، يدافع عن الفقراء ضد ظلم الأغنياء .
وقد أطلق عليه القمص تادرس يعقوب فى كتابه " قاموس آباء الكنيسة وقديسيها " بأنه قائد كنسي سياسي ضد الاستعمار البيزنطي و مُصلح اجتماعي روحي ، حيث كان يرقب الأحداث والتقلبات السياسية بدقة واهتمام، مدركًا أن التلميذ المخلص للمسيح هو من يوصل رسالته إلى غيره من بني الإنسان. وحين جال ببصره حوله رأى بني قومه يرزحون تحت أثقال عبودية الحكام البيزنطيين الذين كانوا يمتصون دماء الشعب الكادح ويسلبون عرق جباههم، صمم على أن يكرّس حياته لتحريرهم. وقرن تعليمه بالعمل، فكان يُطعم الجائع، ويكسو العريان، ويداوي المريض، ويأوي الغريب. وفوق هذا كله فقد كان يذهب بنفسه مع المظلوم من المصريين إلى ساحة القضاء ليترافع عنه شخصيًا، فالعبادة عند القديس شنودة ارتبطت بالحياة الاجتماعية. فالدين هو حب عملي .
عاش الانبا شنودة 118 سنة وكان ديره ( الدير الابيض ) فى سوهاج مركزا للاشعاع الحضارى والتعليم فى عصره ، ويقول عنه دكتور صموئيل معوض أن شنودة هو اول راهب يعيش مشاكل مجتمعه بصورة واضحة ويحاول اصلاحه فتجده صارما فى مواجهة الانحراف وعاصفا ضد الظلم والتجبر ، حنونا على الفقراء .
كان المجتمع قتذاك اقطاعيا لا يعترف إلا بسطوة المال وجاه السلطة وكان العدل هو المبدا الاساسى عند الانبا شنودة لاقامة مجتمع متزن ، فكثيرا ما يردد فى عظاته كلمة العدل ويعمل على تحقيقه ومن اقواله فى ذلك " مبارك هو الله انه علينا ان نحكم بالعدل ان استطعنا بدلا من أن نكون منافقين وان نعين المظلوم إن كان لنا سلطان "
فى احدى عظاته قال موجها كلامه للاغنياء : " وانتم ايها الاغنياء الجالسون ههنا ، ألا ترون دموع الفقراء تسيل على وجناتهم ؟ ها انكم تبكون من فرط تأثركم ، أنتم تروننى أنا أيضا كيف أننى حزين القلب من أجلهم والآن اعتنوا بهم فى محبتكم للبشر واحملوا همهم فى كل بر وحكم عادل واحفظوا انفسكم ان تظلموهم كمن يحفظ حدقة عينه لكى تطوبكم الكلمة المكتوبة " طوبى للذى ينظر إلى الفقير والمسكين فى يوم الشر ينجيه الرب . "
ومن فرط كراهيته للظلم السائد فى المجتمع فى ذلك الوقت اعتبر القديس أن الظلم أشر من الزنى وقال فى ذلك " هل يوجد أشر من الانسان الذى يدنس جسده ويلوثه مع امرأة ليست له أو مع بهيمة أو يدنسه بأى وسيلة قذرة اخرى ولكن الأشر منه هو من يظلم إنسانا " .