«كتاب الأخلاق».. يا وزير الأخلاق
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الخميس ١٢ يوليو ٢٠١٨
كان هناك راهبٌ اعتاد، كلَّ نهار، شراء الجرائد من بائع صحف فى الحيّ. وكان البائعُ يستقبلُ الراهبَ بالسباب واللعان، وبعدما يبيعه الجريدة ويقبض ثمنها يبصق عليه! فما يكون من الراهب إلا أن يأخذ الجريدةَ ويشكر البائع، ويمضى. ذات نهار، ذهب الراهبُ لشراء الجريدة كالمعتاد، برفقة صديق ولما لعنه البائعُ كالعادة، تمتم الراهبُ بالشكر وانصرف، فذُهل الصديقُ، وقال: «لقد لعنك يا أبونا، ألم تسمعه؟!» فأجابه الراهب: «سمعته بالطبع. لا عليك، هو يفعل ذلك كل يوم. ربنا يسامحه». فاندهش الصديق، وقال: «كل يوم يشتمك يا أبونا، ولا تأخذ موقفًا! بل تأتي للشراء منه مجددًا، وكل يوم؟!». فقال الراهبُ: «نعم يا صديقي؛ فأنا أرفض أن أكون ردّة فعل. أنا أصدرُ عن نفسى، وهو يصدرُ عن نفسه».
تذكرتُ تلك الواقعة التي قرأتُها قديمًا وأنا أتابع على صفحتي كمَّ الشتائم واللعنات التي طالتني من بعض أشقائي المسيحيين، تعليقًا على مقال لي عن «الفن القبطي». حيث نشرتُ بعض لوحات من «وجوه الفيوم»، وطرحت ما تعلمته على يد نخبة من أرقى بروفيسورات العمارة والتشكيل فى هندسة عين شمس، حول مدارس الفنون التشكيلية والمعمارية. اتهموني بالداعشية وازدراء المسيحية حين قلت إن مدرسة «الفن القبطي» لا علاقة بها بديانة ما، بل هي تقنيات فنية ابتكرها الفنان المصري فى القرن الأول الميلادي! وقال لي أحدهم: سقط القناع وعرفنا أنكِ سلفية متطرفة تكرهين المسيحيين!
أدركُ جيدًّا الحساسيةَ التى تُدثّر المسيحي المصري بعد عقود من الممارسات الطائفية ضدّه منذ توغّل الفكر الوهابي فى أرض مصر فى السبعينيات الماضية، حتى قرّ فى الوعي الجمعي المسيحي، للأسف، أن حقوقه كمواطن مصرى أصيل باتت محلَّ نقاش، أو مشكوكًا فيها! وأن المسلمَ، بشكل عام، متربصٌ كارهٌ عدوانيٌّ، ومتهمٌ بازدراء المسيحية، حتى تثبت براءتُه. وإن ثبتت البراءةُ مع شخص ما، نذر حياتَه فى ساحة معترك التنوير والمطالبة بحقوق الأقباط المهدرة كما فى حالتي، من السهل جدًّا إرجاع التهمة الجاهزة، فى لحظة واحدة، إن اختلفتِ الآراءُ حول قضية ما!
والحقُّ أنني لم أنزعج من إلقاء تلك التهمة الجاهزة فى وجهي، ازدراء المسيحية. فمن يخُض معركة التنوير، فعليه قبول الفاتورة الباهظة. وقد سبق أن كنتُ قاب قوسين من باب السجن بتهمة ازدراء الإسلام! لكن انزعاجي كان من المفردات الهابطة التي أصبحت مغروسة فى معجمنا اليومي، وكأننا نتنفس لعانًا وبذاءات!
عام ١٩٣٢، كتب فكري أباظة باشا فى إحدى المجلات منتقدًا هبوط الأخلاق فى الشارع المصري آنذاك قائلا: الولد الصفيق يقف عند محطة الترام ويقترب من سيدة لا يعرفها قائلا: بونسوار يا هانم! تُرى ماذا كان بوسعه أن يقول لو كان يحيا لحظتنا الراهنة؟!
لهذا يتأكد لي كلّ يوم أن أبناءنا تلاميذ المدارس بحاجة ماسّة إلى دراسة مادة الأخلاق. وألا يُكتفَى بأن تُدرّس المادةُ نظريًّا، مثل كتاب التربية القومية الذي كان كالظلال الباهتة فى مناهجنا؛ بل تُدعم الدراسةُ النظريةُ بالتدريب العملي، عن طريق وضع الأطفال فى مواقف تجعلهم يقبضون على الجوهر العميق للتحضر والسموّ فى معاملة الآخر. الحق أن الوحش الأشرس الذى ينهش فى قلب مصر الراهنة هو غياب قيم الأخلاق عن منظومتنا اليومية. فالأخلاق هي متلازمة الحضارة والتحضر والرقي فى المجتمع السوي. الأخلاق هى فنّ مراقبة الآخر.
والمراقبة ليست باقتحام خصوصياته ودسّ الأنف فى شأنه، بل هى كما فى الأدبيات اليابانية العملُ على راحة الآخر وتكريس شعوره بالأمن والسعادة. لهذا يقول العظيم ابن عربى: التصوّف إذا لم يعمّ مكارمَ الأخلاق لا يعوَّل عليه. ولهذا قال نجيب محفوظ فى خطابه لجائزة نوبل: وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى، فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى.
هذا المقال نداء للدكتور طارق شوقى، وزير التعليم، وأنا أعلم حرصه على تطوير المنظومة التعليمية بشكل جوهرى وحقيقي. وكذلك إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي أتوجه متسائلة: ألسنا بحاجة إلى وزارة الأخلاق؟!
نقلا عن المصري اليوم