الأقباط متحدون - يَوْمِيَّاتُ رِحْلَةِ الرَّحَّالَةِ إِيجِيرِيَّا
  • ٠٦:١٦
  • الاثنين , ٩ يوليو ٢٠١٨
English version

يَوْمِيَّاتُ رِحْلَةِ الرَّحَّالَةِ إِيجِيرِيَّا

القمص. أثناسيوس فهمي جورج

تأملات كنسية

٢٨: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ٩ يوليو ٢٠١٨

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
القمص اثناسيوس فهمي جورج
 
أهمية كتابة أدب الرحلات في الكنيسة الأولى أتت لتكشف عن طبيعة ثروات نفوسنا، وعبقرية الزمان والمكان التي حوّلت مواقع الرحلات؛ وكأنها مدن حصينة أكثر ضمانة من الأسوار السميكة، حتى ولو كانت من الماس. صخور شامخة تنطق بالعظمة؛ وجبال مرتفعة محمية بحصون وفيرة بالأخبار والأعمال التي صنعت التاريخ، وأعطت له معنًى؛ وكمَدَائن نموذجية مفتوحة على المدينة السماوية العليا. أبطال قصصها صاروا زملاء الملائكة المختارين لأعمال الأبدية، وكان نورهم كنور الشمس سبعة أضعاف.
 
أشهر ما كُتب في كتابات أدب الرحلات ، كان عن الحاجة ”المقدسة“ الناسكة ”إيجيريا“ أو ”إيثيريا“ أو ”إيهيريا“ أو ”تشيريا“ التي سجلت حضورها للمواقع المقدسة، وزياراتها وصلواتها وذكرياتها (كودكس) البيبلية الإنجيلية، ناقلة لأحوال رحلتها؛ وكأنها يوتيوب مدهش ومكتوب؛ عن مواضع شهيرة بلغت شهرتها البقاع كلها. تسجيلاً ووصفًا أثريًا وكتابيًا وتاريخيًا وطبوغرافيًا وطقسيًا وليتورجيًا، جعلها وثيقة هامة عن ينابيع الحياة المسيحية اليومية في : مواضعها وصلواتها وقراءاتها وسهراتها وشروحاتها وألحانها ومواعظها وطقوسها المختارة؛ وتوافُقها مع موضع مناسباتها، واحتفالاتها الليتورجية المألوفة، في رتبها الزمنية الليتورجية؛ حيث أن مُدة هذه الزيارة استغرقت قرابة ثلاث سنوات كاملة. رأت فيها أمجادًا لا تستحق زيارتها - حسب روايتها - ؛ وتقابلت فيها مع

رهبان أسمتهم بالمعترفين؛ بسبب جهادهم الدائم للاعتراف الحسن بالإيمان؛ وقت الاضطهاد الأريوسي.
وصفت موائد الأغابي، وجماليات أوانيها ومصابيحها وقناديلها وشموعها وستورها.. وكيف كانت دروس مدرسة الموعوظين في تثقيفها وتسليمها لقانون الإيمان. فما أروع ما ذكرته؛ مشيرة إلى وجود خدمة الترجمة للدروس والطقوس؛ حتى يتسنى للزائرين والموعظين فَهْم ما يتم تلقينه وتسليمه، بلغات عدة

أهمها : اليونانية واللاتينية والسريانية، من خلال كهنة متخصصين في أعمال الترجمة.
إنها رحلة أدبية شيقة؛ وصفت مسيرة تتبع لحركة الوحي الإلهي؛ عبر تذكارات زمنية ومكانية لمواضع التقديس؛ من أجل الاقتداء والمعاينة ونوال البركة. رحلة مثيرة للإعجاب والشجاعة الغيورة الملتهبة بنار الرغبة الدؤوبة؛ للتقرب إلى النعم السماوية، التي سعت إليها الطوباوية (إيجيريا) بإمكانيات واستعداد قلب جرﻱء، تحت قيادة الرب ، حتى وصلت إلى الأماكن المقدسة التي صنعت التاريخ الإلهي، منجذبة لمواقع تجسد وآلالام وقيامة وصعود الرب وحلول روحه القدوس.. وأيضًا قامت بزيارة أماكن الوحي والنبوة؛ ومحطات عيش أنبياء العتيقة.. كذلك سجلت في رحلتها بركة أجساد القديسين والشهداء الذين بلا حصر، باحثة عن الفضائل التي كانت سببًا في تكريمهم.
 
رصدت أيضًا في رحلتها كيف كانت زياراتها لجميع الأماكن العطرة التي أشارت إليها الأسفار المقدسة؛ مهما كانت نائية ووعرة، إذ لم يعوقها ضعف أنوثتها.. وقد زارت بإشتياق حار الأديرة والكنائس البهية التي لمجامع شركة الرهبان وصوامع (مَغَاير) المتوحدين، واصفة صلواتهم وغذاءهم الروحاني؛ وبساطتهم وحكمتهم وضيافتهم الحلوة، وكيف تكرموا عليها بهداياهم الأولوجية التي اعتادوا إعطاءها للزوار.
 
لقد صارت هذه الزيارة مقطوعة أدبية؛ تضم أزكى وأعظم الأماكن الروحانية التي لمراحل خروج بني إسرائيل من مصر ومواضع مرورهم؛ حسب تتابع الأسفار المقدسة، ومزايا كل موضع وَطِئَتْه قدماها، حيث جمال الله المفعم بالأفراح النبوية، وبأرواح الآباء التي رفعتها بمعرفة؛ وجعلتها تطير في مسيرة سيرها دون كلل، مسنودة على يد الرب؛ حتى بلغت قممًا شاهقة لجبال التجربة والتطوبيات والتجلي والصعود.
 
كذلك لم تكتفِ مدونة إيجيريا بذكر أوصاف مكانية وزمنية، لكنها سجلت أوصاف الحياة الكنسية الليتورجية في القرون الأربعة الأولى، حيث رصدت معاينتها لمدة ثلاث سنوات للطقوس المتبعة في كنيسة أورشليم.. فجاء تسجيلها كتسجيل أدبي بغرض روحي، ساهم في تحقيق وتوثيق حقائق الإيمان المذكورة في العهدين، وبرهانًا عمليًا على صحة أحداث الكتاب المقدس. توصيفًا للأماكن والأحداث والأخبار القيمة عن أحوال المسيحية ونموها؛ ونشاطات حياة الرهبنة في ذلك الزمان.. فعندما كانت تتوقف في إحدى محطات الأحداث الكتابية مع مرافقيها؛ كانوا يصلون معًا ويقرأون فصل الكتاب الذﻱ تكلم عما حدث في ذلك الموضع ، ويحتفلون بالليتورجيا في كنيسة هذا المكان.
 
لذلك أصبحت هذه الرحلة وثيقة أولية لشكل الليتورجيا العام؛ ووصف روعة مناسباتها ومواكبها الطقسية. فجاءت كتابتها أسمَى من مجرد كونها ذكريات، لكنها تسجيل مفعم بالمفاهيم والمدلولات اللاهوتية، التي تُبرز إكمال خطة الله ومقاصده الكلية للفداء والخلاص؛ كحقيقة يقينية ملموسة، وكواقع مقدس ممتد لعمله من أجلنا، من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور.
 
لقد صارت هذه الرحلة دليلاً لأدب الرحلات في المسيحية الأولى. رصدت قصة ارتحال ملكوتي لا يتجزأ عن رحلة الوحي في العتيقة والعهد الجديد، عندما تسقط عنه كثافة المادة، ليكشف حُسن جمال العالم المفتدَى كما خلقه الله حسب مسرة مشيئته، جمالاً متحركًا على الأرض، وجنةً يانعة للقدوس؛ ورحيق عطر تدبير خطة الخلاص الثمين.