ميشيل حنا الحاج
ملاحظة: هذا ليس مقالا مستقلا، بل هو فصل من فصول كتابي القادم بعنوان: "الاتحاد الشرق أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي".
السبب الأهم لوجوب التوجه نحو الاتحاد الشرق أوسطي، هو كون العالم كله يتوجه نحو الاتحادات الاقتصادية على الأقل، وبعضها بلغ مرحلة الاتحادات السياسية، مع حفاظ كل دولة على كيانها السياسي الخاص بها، لكن مع الانخراط لاحقا وتدريجيا في الدولة الاتحادية.
والاتحاد الأوروبي هو أحد أهم الأمثلة على هذا النوع الأخير من الاتحادات التي بلغت مرحلة الاتحاد السياسي، علما أن الدول المنضوية تحته، والتي نتطلع نحو اتحاد شرق أوسطي على غرارها، كانت بينها خلافات طائفية عديدة وعميقة أدت الى نزاعات متعددة، كما كانت بينها خلافات قومية في غاية الشدة والتفاوت. ونتيجة هذه الخلافات وتلك، وقعت بينها في الماضي البعيد، وكذلك الماضي القريب، العديد من الحروب الدامية والتي حصدت في احداها، وهي الحرب العالمية الثانية، آخر تلك الحروب، الملايين من الضحايا.
وباجراء مقارنة بسيطة، يلاحظ أن الحروب التي وقعت بين الدول التي يفترض انضمامها للاتحاد الشرق أوسطي المقترح والمطروح على نطاق البحث، لا تشكل بعددها أو بضحاياها، نقطة في بحر من عدد ضحايا الحروب التي سادت ووقعت بين الدول الثمانية والعشرين (ستصبح 27 دولة بعد انسحاب بريطانيا اذا اكتملت عملية انسحابها) التي انضوت تحت جناح الاتحاد الاوروبي. وسأورد في الفصول القادمة، مزيدا من التفصيل عن الحروب التي وقعت بين دول الاتحاد الشرق أوسطي المقترح، وتلك التي جرت بين دول الاتحاد الأوروبي قبل تحقق ذاك الاتحاد الذي ضمها أخيرا.
أما بالنسبة للاتحادات الاقتصادية التي لم تتطور بعد الى اتحادات سياسية، فهناك الكثير منها. واذا كان الاتحاد الاوروبي من أمثلة الاتحادات السياسية، فان من أمثلة الاتحادات الاقتصادية بل ومن أبرزها ، الاتحاد الاقتصادي المسمى BRIC، والذي يضم البرازيل وروسيا والصين وجنوب افريقيا، والذي تأسس منذ عام 2006 .
وهناك اتحاد اميركا الشمالية NAFTA الذي يضم كندا والولايات المتحدة والمكسيك... وهو الاتحاد الذي يهدد الآن الرئيس ترامب بالتخلي عن الالتزام به، لكونه لا يفيد الولايات المتحدة اقتصاديا. فاميركا أولا ثم اولا، وينبغي أن تبقى أولا. ونتيجة هذا المفهوم العقيم كما يراه العديدون من قادة العالم، حتى من قبل قادة حلفاء الولايات المتحدة... يرونه مفهوما عقيما، وقد أدى حتى الآن الى نشوب ما يقترب من حرب تجارية بين دولهم ودولة الولايات المتحدة، وهي حرب أدت الى قيام كل منهما برفع الضرائب والرسوم الجمركية على الدولة المقابلة، وتقدر ما تحققه بعض هذه التعديلات الجمركية، بمليارات الدولارات.
وهناك اتحاد اقتصادي أوسع نطاقا تبلور منذ عام 1975 وسمي ياتفاق بانكوك، وهي المدينة التي وقعت فيها على ذاك الاتفاق، الاطراف المشاركة فيه. وطور ذاك الاتفاق في عام 2005 ، بحيث اصبحت الدول المشاركة في الاتفاق الموسع، هي الصين وبنغلادش والهند وكوريا الجنوبية وسيريلانكا.
وهناك الكثير من الاتفاقات والاتحادات الاقتصادية الأخرى، منها اتحاد ضم استراليا ونيوزيلاندا، كما يوجد اتحاد اسمه American central intigration system ، يضم ثماني دول منها السلفادور وغواتيمالا ودول أخرى في اميركا اللاتينية. وهذا كله يعزز توجه الدول المتجاورة والمتناغمة نوعا فيما بينها، لتأسيس الاتحادات الاقتصادية والتعاونية التي تضمها، باعتبارها خطوة نحو الاقتراب لاحقا من الاتحاد السياسي أو التنسيق السياسي في أدنى الحالات.
وهذا ما ينبغي ان تتجه اليه الآن دول الشرق الأوسط الحالية والقادمة لاحقا، باعتبار تلك الخطوة المباركة، ستستاعد على حل كل مشاكلهم بما فيها تهديدات اسرائيل لبعض الدول العربية في المنطقة، اضافة الى مشكلة التعنت الاسرائيلي (كما سأشرح في فصول قادمة)، التي قد يمكن ضمها للاتحاد لاحقاد، اذا عقلت وتخلت عن أطكماعها، وأعطت للشعب الفلسطيني حقوقه.
وأحد العوامل الأخرى التي باتت تشجع على الاستعجال في تأسيس الاتحاد الشرق أوسطي، هي وجود الرئيس ترامب في مقعد الرئاسة الأميركية. فهو رئيس متخبط في قراراته المثيرة دائما للجدل حتى من قبل حلفائه كما سبق وذكرت.
وعلى ضوء سلوك الرئيس ترامب الذي بات يتجه نحو الهيمنة والسيطرة على دول العالم باعلانه المتكرر أن اميركا اولا، وأن الولايات المتحدة لن تنفق اموالها على حماية الآخرين، بل على الدول المحمية رغم كونها محمية بطلب أميركي، وبرغبة اميركية مفروضة على تلك الدول... أي هي حماية لمصلحة أميركية... فرغم تلك الحماية للمصالح الأميركية، يطالب ترامب تلك الدول، بأن تدفع للولايات المتحدة كلفة حمايتها، والتي هي على أرض الواقع حماية لمصلحة أميركية، فكأننا قد عدنا الى عصر الجزية، تنفيذا لكون أميركا أولا، والتي يكرسها ترامب بكونها الراعي الأقوى لدول العالم، وتوجب بالتالي ان تطيعها الدول الأخرى طاعة عمياء، وتدفع ما يترتب عليها من جزية حسب رؤية الرئيس الأميركي المثير للجدل.
وكان المثال الواضح على ذلك ، أنه اذا انسحبت أميركا من الاتفاق الدولي النووي مع ايران، (وقد اعلنت فعلا انسحابها منه)، توجب على الدول الأخرى الموقعة عليه ومنها فرنسا والمانيا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي التي باركته، أن تحذو حذو الولايات المتحدة، وتنسحب هي أيضا من ذاك الاتفاق تنفيذا للطاعة العمياء التي بات ترامب يتوقعها من دول العالم. لكن هذه الدول رفضت الانصياع للرغبة الاميركية، لمجرد كونهم متحالفين معها... لكن ليسوا مجرد تابعين لها. وهكذا رفضت تلك الدول الاستجابة لمطلب ترامب، واصروا على الاحتفاظ بعلاقتهم الاقتصادية مع ايران، لكونهم دولا مستقلة وغير تابعين لهذا الرئيس الذي أثار العديد من الجدل حول معظم، ان لم يكن كل قرارارته، التي أثارت معظمها جدلا طويلا على الصعيد العالمي. بل وأمر الرئيس ترامب مؤخرا تلك الدول الحليفة، بأن تتوقف عن شراء النفط من ايران اعتبارا من نهاية الشهر العاشر من عام 2018، ورفضت تلك الدول تباعا، الانصياع لأمر الرئيس الأميركي، لكونها دولا مستقلة وليست مضطرة للانصياع لأوامره.
لكن الأمر لم يتوقف لدى دول اوروبا الغربية، اذ انه قد امتد، كما يلاحط البعض، ليطال دولا كبرى كالصين والهند مثلا. فقد لاحظ مراقبون حصول زيارات متكررة للصين وخلال أسبوع واحد، من قبل رئيس وزراء الهند لها. وبعدها، تلاها وعد من الرئيس الصيني بزيارة قريبة للهند. ثم جاءت زيارة رئيس وزراء الهند لروسيا الاتحادية واجتماعه مطولا مع الرئيس بوتين، ربما ليشرح له ما يجري طبخه بين الهند والصين، ردا على عنجهية الرئيس ترامب واصراره على أن اميركا اولا. وهناك احتمال لكون مرد دعوة ترامب للرئيس بوتين للالتقاء به في منتصف شهر تموز (يوليو) 2018 في هيليسنكي، اذ أنه يريد أن يستطلع من بوتين،على ضوء لقائه بالرئيس الهندي، ماذا تخبىء الصين والهند من اتفاقات سرية، خلال لقاءاتهم الحديثة المتكررة، كرد على التعنت الأميركي المتعلق بقضايا الرسوم الجمركية المرتفعة التي فرضها الرئيس ترامب على بضائع الدولتين: الهند والصين، وخصوصا الصين حتى الآن، مع كون بعضها قد طال الهند أيضا.
فما يجري سرا بين الهند والصين حتى الآن، مع الاعتراف بعدم وجود معلومات مؤكدة حوله، فكلها تدور في فلك التكهنات والاحتمالات... قد يشكل مسعى لابلاغ الولايات المتحدة ولو تلميحا وتحذيرا، بأن أميركا ليست أولا، وأنها باتت على الارجح درجة ثانيا، بل وربما ثالثا، وقد تصبح رابعا في وقت قريب اذا ما نجح ما تسعى اليه كل من الهند والصين، في تشكيل تحالف China – INDO بينهما، مما سيجعلهما معا القوة الأعظم في العالم، وهذا يؤكد أهمية التوجه نحو الاتحاد، والسعي للتنسيق بين الدول.
....فهذا الرجل الذي ملت حكومة الهند من سلوكه بعد أن ألغى فجأة في العام الماضي، وفور توليه مقعد الرئاسة، معاهدة اقتصادية شملت الولايات المتحدة والهند وعدة دول في شرق آسيا. كما مل الصينيون من تهديداته المتواصلة والتي جاملوه في بعضها بتخفيضهم الرسوم على استيراد السيارات الاميركية من 25 الى 15 بالمائة، ولكن ترامب بات يطالب بالأكثر فالأكثر. ومما طالب به مؤخرا، اعادة النظر في كل الاتفاقات المبرمة بين بكين وواشنطن، مما أدى الى تململ واضح في بكين، أنتج دعوة رئيس وزراء الهند للقيام بتلك الزيارات المتكررة للصين خلال فترة قصيرة ، وبعدها لروسيا... وموضوعها مناقشة الوحدة الاقتصادية، والتنسيق بين الصين والهند، ربما تمهيدا لاعلان التحالف الجديد المحتمل تحت شعار INAHC- INDO
.... فالاتحاد الاقتصادي بين الصين والهند في مراحله الاولى، اذا تم تمهيدا لتحوله لاحقا الى تنسيق سياسي، سيصبح هو الكيان الأقوى في العالم. اذ سوف يضم ثلاث مليارات من السكان، قياسا بثلاثمائة مليون فقط في الولايات المتحدة، عشرة ملايين منهم مهاجرين غير شرعيين، ويسعى ترامب لاخراجهم من البلاد عوضا عن فتح الحدود كليا أمام المهاجرين، سعيا لزيادة عدد السكان في الدولة الآخذة في التآكل في قوتها الاقتصادية، وفي حجم السكان العددي فيها، وذلك سعيا من ترامب للحفاظ على حقوق السكان الأميركيين الأصليين، وبغية الحيلولة دون منافسة المهاجرين والقادمين الجدد لهم على فرص العمل.
ولكن ما المقصود بالسكان الأصليين؟ هل المقصود بهم الهنود الحمر الذين هم على أرض الحقيقة والواقع السكان الأصليين في الولايات المتحدة والذين باتوا الآن محصورين ضمن ما يسمى ببعض المميات الطبيعية التي يؤذنلهم فيها بممارسية مهن معينة ومنها انشاء نواد للقمار ؟ لا بكل تأكيد. فعلى أرض الحقيقة والتطبيق العملي، فان المقصود بهم هو أول الغزاة البيض المتدفقين على الولايات المتحدة ، والقادمين منذ القرنين الخامس والسادس عشر من انجلترا وخصوصا من ايرلندا. وكانت بداية رسو سفنهم على شواطىء "بلايموث" الواقعة على المحيط الأطلسي، فيما بات يعرف لاحقا بولاية "ماساشوستس Massachusettes، والتي باتت الآن عاصمتها بوسطن الشهيرة بآثارها وبتاريخها العريق، وبوجود جامعة هارفارد في هذه المدينة التاريخية العريقة.
فنموذج الاتحاد الاقتصادي الهندي الصيني اذا ما تحقق، سيصبح هو الأقوى عالميا، خصوصا وأن الصين وحدها، كانت تنافس اميركا في القوة الاقتصادية والسكانية، ومثلها الهند. وهذا يفسر النتيجة الواضحة المترتبة على اتحاد قوتين عالميتين اقتصاديا، فهي اندحار القوة الاميركية الى ثانيا أو ثالثا وربما رابعا. ويقدر بعض المراقبين، أن مخاوف الولايات المتحدة من الصين، تقف وراء سحبها دعوتها للصين مؤخرا، للمشاركة في مناورات بحرية سنوية تشارك فيها 27 دولة، وتجري في مياه المحيط الهادىء. وادعت الولايات المتحدة بأن سحب تلك الدعوة، مرده محاولات الصين المتواصلة لعسكرة بحر الصين الجنوبي الذي لا يعتبر بحرا صينيا، بل بحرا تطل عليه عدة دول.
***********************
فالمستقبل اذن قد يحمل مفاجاآت ومفاجاآت خصوصا اذا بقي الرئيس ترامب في موقع القيادة رغم تخبطه فيها. فسلوكه المستفز والمستضعف للدول الكبيرة قبل الصغيرة، اضافة الى اعلان انسحابه من اتفاقية دولية بعد أخرى، ومنها اتفاقية المناخ الدولية، وآخرها اتفاقية خمسة زائد واحد، يضطر تلك الدول للتمحور في اتحادات لمواجهة جبروت ترامب. ودول الشرق الأوسط هي أكثر دول المنطقة حاجة للاتحاد، ليس خوفا من ترامب فحسب، فهذه مرحلة قد تمر، ولكن نتيجة حاجة ضرورية وملحة رغم كل الخلافات بين بعضها البعض، كالخلاف بين السعودية وايران، فهي الخلافات الوحيدة التي قد تكون جدية وقادرة على اعاقة الوصول الى هذه النتيجة المرتقبة.
فلا توجد مؤشرات على أن دولا كمصر أو سوريا أو الأردن ولبنان، بل وحتى العراق التي دخلت في حرب ضد ايران قبل بضعة عقود، ستعارض نشوء اتحاد كهذا. ومثلها دول الشمال الافريقي، فلن يعارض أيا منها اتحادا شرق اوسطي. فالمعارضة الوحيدة قد تأتي من بعض دول الخليج... من بعضها فحسب، أي من الدول المتأثرة بالهيمنة السعودية. ويرجح الكثيرون بأن ايران سوف ترحب به بحرارة لوجود مصالخ لها في التفاهم مع دول الجوار وخصوصا السعودية. ومثلها تركيا التي لم تستطع كسب العضوية في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي سيصبح انضمامها الى الاتحاد الشرق اوسطي امرا مرحبا به في حرارة، بل ومرغوبا فيه لأنه في أدنى الحالات، سيعوضها عن خسارة الانضمام للاتحاد الاوروبي.
*******************
والواقع أن هناك تزاحما حول من يضع الخطوط الأولية، أو اللبنة الأولى للاتحاد الشرق أوسطي المنتظر تبلوره لاحقا، شاء من شاء وأبى من أبى، علما أن التأخير في الشروع في تأسيسه وانشائه، سيزيد من تعقيد عملية تأسيسه، نظرا لتوقع ظهور تلك الدول ألأخرى سابقة الذكر وذات القوميات الأخرى وربما ذات الانتماءات الطائفية المختلفة، مما قد يزيد في تعقيد الأمور، ووضع مزيد من العراقيل في طريق تأسيس الاتحاد الشرق أوسطي المنشود، خصوصا وأن المشروع الأميركي لشرق أوسط جديد، قد لا يتوقف فحسب لدى اجراء استفتاءات للشعوب ذات القومية المختلفة أو الانتماء الطائفي المختلف فحسب، فهو يسعى أيضا لبلورتها عبر ايجاد تنسيق ما، او دور ما للاسرائيليين في ايصال تلك القوميات أو الطوائف الى شاطىء الاستقلال، كما يحدث الآن مع الأكراد، محولين اياهم الى حلفاء لأميركا، بل ولاسرائيل أيضا.
وقد تبلور السعي الأميركي لحماية الأكراد كخطوة أولية نحو الاستقلال، في الخطوات الأميركية التي تمثلت في الدفاع عن اربيل، عاصمة اقليم كردستان العراق، لدى محاولة داعش محاصرتها في عام 2014 اثر اجتياحها للمحافظات العراقية الثلاث (الموصل وصلاح الدين وكركوك)، وهي المحافظات التي سجلت الأقمار الصناعية الأميركية تحرك قوافل داعش – الدولة الاسلامية... نحوها، تحت أعين وبصر أقمار التجسس الأميركية، دون أن تفعل شيئا لايقاف زحفها نحو تلك المحافظات، بل ولم تقم حتى بانذار حكومة العراق المركزية لتفعل شيئا ما لمواجهتها واحباط عملية غزوها تلك، وكأني بها كانت تمهد متعمدة آنئذ لتقوية ذراع التواجد الداعشي في المنطقة، كخطوة لتبرير تغذية ألأكراد بالسلاح والخبراء، لمواجهة الخطر الداعشي الذي بات قريبا من مواقع الأكراد. وتبلورت الخطوة الثانية في حماية الولايات المتحدة للأكراد، بحمايتها لكوباني (عين العرب) الواقعة في سوريا، مما أدى للحيلولة دون قيام الدواعش باقتحامها.
ومن ناحية أخرى تجلى التناغم بشكل واضح بين اكراد اربيل والاسرائيليين، في مرحلة التمهيد لاجراء الاستفتاء حول استقلال اقليم كردستان العراق عام 2017، حيث رفعت اعلام اسرائيل في اربيل ومناطق كردية خرى، كما تبلور للمراقب تنسيق واضح بين تل ابيب والاكراد، بل وبمشاركة اسرائيليين جاءوا الى اربيل لمساعدة الأكراد في تنسيق عمليات الاستفتاء سعيا لانجاح ذاك الاستفتاء الساعي للاستقلال، مما يكشف عن الرغبة الاسرائيلية في تحويل كردستان المستقبل، الى حليفة قادمة لاسرائيل، رغم اهدار كل مصالح الأكراد مع دول الجوار العربية التي عاشت بين ظهرانيهم لسنوات طوال.
فمخطط الشرق الأوسط الجديد بثوبه الجديد، لا يسعى فحسب لايصال الأقليات الى دول مستقلة عبر الاستفتاءات على تقرير المصير، بل عبر ايصالها أيضا الى دول مستقلة متحالفة مع اسرئيل، لتوسيع رقعة التحالفات المؤيدة للولايات المتحدة، الحامية الفعلية لمصادر النفط الذي تملكه حاليا دول متحالفة مع الولايات المتحدة ... لكن مع خشية الأميركيين من وجود احتمالات بأن تنقلب يوما ما تلك الدول الحليفة الحالية، الى دول عدوة لها، (كما حدث في الانقلاب على النظام الملكي في العراق عام 1958، وفي مصر عام 1952ـ ثم في اليمن عام 1962 وبعدها في تونس في سنوات لاحقة)... فهذه التقلبات في الأنظمة السياسية، يدفع الولايات المتحدة الى ايجاد دول أخرى حديثة الولادة في المنطقة، لتكرسها كدول يمكن الاعتماد عليها أكثر من مجرد الاعتماد على الدول الحالية.
ويتوسع الطموح الأميركي، للتطلع نحو ايجاد تحالفات اسرائيلية مع تلك الدول حديثة الظهور، تمهيدا للمبادرة لانشاء الاتحاد الشرق اوسطي معها، لكنه اتحاد متسم بنفوذ اسرائيلي واضح، ويقطع الطريق أو يؤخر ظهور الاتحاد الشرق اوسطي بصيغته الصحيحة والحقيقية، أي اتحاد يضم الدول الأساسية والقديمة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا بات من الضروري مبادرة دول المنطقة الحالية للشروع بتأسيس الاتحاد الشرق اوسطي الشرعي، لقطع الطريق على الاتحاد الشرق اوسطي ذو الصبغة الاسرائيلية الذي سيتبلور تنفيذا لمشروع الشرق أوسط الجديد بثوبه الجديد، ولكن مع وجوب ابقاء باب انضمام اسرائيل لاحقا للاتحاد الشرق أوسطي الشرعي، مفتوحا خصوصا، كما سبق وذكرت، اذا عقلت اسرائيل وأعطت الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
والواقع ان الاتحاد الشرق اوسطي، بدءا بالخطوة الأولى وهي اتحاد اقتصادي، سيقود الى حل المعضلة الفلسطينية، لأنه اذا ما تشكل الاتحاد الشرق أوسطي من الدول الأربعة وعشرين المتواجدة حاليا في المنطقة والمكونة من 22 دولة عربية عضوة في الجامعة العربية (التي لم تعد تشكل كيانا جديا وسليما، بل كيانا ضعيفا ومريضا)... يضاف اليها ايران وتركيا، سيضطر الدول الأخرى التي ستنشاء لاحقا وتدريجيا كالدولة الكردية والأمازيغية ودولتي القبائل والبربر والبوليساريو، وغيرها من الدول التي تشكل قومية أو هوية مختلفة عن محورها العربي... سيضطرها للالتحاق في هذا الاتحاد. فاذا ما تحقق ذلك الاتحاد وبقيت اسرائيل خارجة عنه، فانها ستشعر عندئذ بخطئها في عزل نفسها عن كل تلك الدول، وهو عزل ناتج عن مطامعها في الهيمنة والسيطرة على المنطقة الساعية لتشكيل اتحاد شرق اوسطي يدور في فلكها... الفلك الاسرائيلي ...كما تخطط اسرائيل مع بعض الاكراد، (وربما مع بعض المنتمين لقوميات اخرى)، مما قد يضطرها لمراجعة موقفها المتعنت، والمشاركة في الاتحاد الشرق أوسطي الحقيقي والأصيل، خصوصا اذا بادرت دول المنطقة لتأسيسه قبل فوات الأوان. وهذا سبب آخر يشكل بحد ذاته، مبررا لا ستعجال تأسيس الاتحاد الشرق أوسطي حالا لكونه الوقت المناسب لذلك.
فنتيجة نشوء الاتحاد الشرق اوسطيء قبل استقلال تلك الدول القادمة لاحقا، أي تشكيله من الدول القائمة حاليا، وبالتالي تنامي وتزايد قوة ذاك الاتحاد وفعاليته قبل ظهور الدول الجديدة التي تحاول كلا من اسرائل واميركا احتواءها... ستجد اسرائيل نفسها متواجدة في وسط اتحاد لا يكن الود لها، وبالتالي تصبح مضطرة للتخلي عن الكثير من أحلامها ومنها حلم من النيل الى الفرات، بل والتخلي عن أصغر احلامها، وهو ابتلاع ما تبقى من فلسطين... أي الضفة الغربية وباقي الاراضي الفلسطينية(خصوصا وأن سكان القدس من الفلسطينيين قد بلغ رغم كل عمليات التهويد واضطهاد السكان الأصليين... بلغ الآن اربعين بالمائة، عندما كان يقتصر على 20 في المائة عام 1967 لدى احتلال القدس، وهو مرشح للزيادة والتفوق على اعداد سكانها من الاسرائيليين بعد بضعة أعوام، كما يتوقع أحد الدكاترة المدرسين في جامعة بير زيت)، مما سيتناقص، بل ويتناقض تدريجيا مع الحلم الاسرائيلي، ويفرض عليها بالتالي السعي لتفادي عزلتها عن ذاك الاتحاد القائم، مع السعي الحثيث عندئذ للانضمام له في مسعى أقله، محاولة تحقيق مكاسب اقتصادية من ورائه في أدنى الحالات.
وأنا أعتقد أن التلكوء في بناء الاتحاد الشرق اوسطي، يضر بكافة القضايا في المنطقة ومنها تلك التي تقف حائلا دون نشوئه، ومنها الخلاف السعودي الايراني سواء كان طائفيا أو قوميا، مع ظهور خلافات جديدة مفاجئة بين السعودية وتركيا (التي كانت الى حين متحالفة مع تركيا ضد سوريا)، لكنها باتت الآن عدوا للسعودية وعلى خلاف معها بعد تحالفها الغامض مع روسيا الاتحادية ومع قطر، علما أن القوميات الأخرى التي ستنشأ في المنطقة خلال الربع قرن القادم، تمثل قوميات جديدة، قد لا تكن ودا كبيرا للمملكة السعودية التي تحاول الهيمنة على موقع القيادة نتيجة امتلاكها مخزونا نفطيا كبيرا، لكنه مخزون قد لا يدوم طويلا، أو يخسر بعض أهميته نتيجة الاعتماد الأميركي المتزايد على نفطها الصخري. وبذا قد تتعرى السعودية تدريجيا وفي نهاية الأمر،مما كان يستر عورتها، أي من النفط الذي قد لا تمتد الحاجة اليه زمنيا لمدة أبعد من ربع قرن قادم، أو ثلاثين عاما في أبعد احتمال.
فالتأخير في الشروع بالتوجه نحو الاتحاد الشرق أوسطي، سيضر دول المنطقة، وقد تكون اكثر الدول معاناة من الضرر الذي سيلحق بها، هي المملكة السعودية التي تعرقل التوجه نحو ذاك الاتحاد، بل وتتشبث بالتشجيع على حرب ضد ايران... الدولة التي يفترض بأن يكون لها دور هام في اتحاد كهذا، علما أن تشبث السعودية بموقع القيادة وخصوصا في الاتحاد المنتظر، على غرار الاتحاد الاوروبي، سوف يكون تشبثا غير مبرر، لكون الرئاسة في اتحاد كهذا، ستكون دورية متداولة سنويا بين الدول الاعضاء في الاتحاد، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يتناولها بالتناوب لمدة عام رئيس واحد من رؤساء تلك الدول، كبر حجمها أو صغر.
فليس هناك تفوق لدولة على أخرى من الدول المنخرطة في ذاك الاتحاد، على غرار ما يجري في الاتحاد الاوروبي... النموذج المقترح لهذا النوع من الاتحادات. وقد لاحظ المراقبون مؤخرا أنه اذا كان هناك، رغم الانضواء تحت راية الاتحاد، بعض الفتور في العلاقة بين دول غرب اوروبا ودول أوروبا المنتمية لدول البلقان الأوروبية، فقد تم مؤخرا التخلص منه باذابة الجليد بين الفريقين، عندما عقدا اجتماعهما الأخير في صوفيا، عاصمة احدى الدول البلقانية. وبذلك أنهوا مرحلة الفتور بين الطرفين. بل واستطاعت دول الاتحاد تسوية الخلافات الناشئة بينها حول قضية استقبال اللاجئين القادمين سواء من افريقيا أو من سوريا، أو من اليمن، أو من أي منطقة أخرى من مناطق العالم. فبعض هذه الدول، كانت ترفض استقبال اللاجئين رفضا تاما كايطاليا مثلا، وبعضها بات يتحفظ على استقبالهم كابونان ، وكذلك كألمانيا التي استقبلت أكثر من مليون لاجىء في العام الماضي، ولكن خلافا بين تحالف بعض الاحزاب المشاركة في حكومة ميركل الحالية، أضطر المانيا للتحفظ على عدد من تستقبله بعد الآن من اللاجئين، في وقت لم تكن فيه فرنسا تعترض على استقبالهم ضمن شروط محددة. وقد تمت في مؤتمر قمة دول الاتحاد الأروبي الأخيرة التي انتهت في 28 حزيران (يونيو) 2018 ، تسوية كل الخلافات حول قضية تدفق اللاجئين عليها، رغم أن الأمر قد انتهى باسيتقالة وزبر داخلية المانيا المنتمي لحزب مسيحي يعارض بشدة مواصلة ألمانيا استقبال اللاجئين. الا أن هذه الاستقالة قد تشكل أزمة وزارية لألمانيا تنتهي بتعديل وزاري، لكنها لا تشكل أبدا أزمة جدية ومفصلية للاتحاد الأوروبي ذاته.
الباحث – الكاتب والمفكر ميشيل حنا الحاج