الأقباط متحدون - ما بعد بعد الحداثة.. تثاؤب الفلاسفة (1-2)
  • ٠٥:١٩
  • الأحد , ١ يوليو ٢٠١٨
English version

ما بعد بعد الحداثة.. تثاؤب الفلاسفة (1-2)

مقالات مختارة | بقلم : أحمد المسلمانى

٠١: ١١ م +03:00 EEST

السبت ٣٠ يونيو ٢٠١٨

 أحمد المسلمانى
أحمد المسلمانى

 (1)

 
قبل قرابة الألف عام.. ظهر كتاب الفيلسوف الإسلامى أبوحامد الغزالى «تهافت الفلاسفة». جرت مياه كثيرة فى نهر الفلسفة منذ ذلك الحين.. من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. زادت طبقات الفلاسفة، ومعها تراكمت طبقات المعرفة.. حتى أصبح التراث الفكرى الإنسانى أكبر من استيعاب الإنسان.. أىّ إنسان.
 
وإذا كان لمؤرخى الفلسفة أن يضعوا كتاباً فى وصف المشهد الفلسفى العالمى فى القرن الحادى والعشرين.. بعد مرور عشرة قرون على كتاب «تهافت الفلاسفة» فى القرن الحادى عشر.. فإنَّ العنوان الأنسب -فى تقديرى- هو: تثاؤب الفلاسفة.
 
ثمة حالة كبرى من الملل أصابت معظم دوائر الفلسفة فى العالم.. ومن جرّاء ذلك الملل.. راح المشتغلون بالفلسفة ينتقلون من موجة فلسفية إلى أخرى.. ومن صرخة فلسفية إلى غيرها.. فى إيقاع سريع للحركة، ووقع سريع للخطى. ومع سرعة الركض الإنسانى.. باتَ جزءٌ من السياق الفلسفى العالمى متداخلاً مع السياق الإعلامى، والناتج الصحفى.. فى محاولة للِّحاق بحياةٍ جديدةٍ لم تعد للرصانة فيها مكانٌ كبيرٌ.
 
أخذت الفلسفة من الصحافة، ونالت الصحافة من الفلسفة.. ومع انتقال الإعلام من فيزياء الورق والأحبار إلى فضاء الشاشات والمواقع.. كانت الفلسفة تلهث.. محاولةً ضبط النصوص وتأطير الفراغ.. لكن دون جدوى.
 
(2)
 
أصبح العالم يشهد تعايشاً فلسفياً سلمياً بين أجيال من الفلسفات.. المتعاقبة والمتناقضة على السواء.. تتجاور أفكار ما قبل الحداثة مع أطروحات الحداثة، كما تتجاور أطروحات الحداثة مع اتجاهات ما بعد الحداثة.. وتمضى اتجاهات ما بعد الحداثة إلى جوار مقولات بعد ما بعد الحداثة أو ما بعد بعد الحداثة.
 
وسط حالة الزحام الفلسفى هذه.. لا يوجد مائة تعريف فقط للحداثة أو ما بعدها أو ما بعد بعدها.. بل توجد مئات التعريفات من دون اتفاق. وبعد أن كان تعريف المفاهيم والمصطلحات يشغل -على الأكثر- الفصل الأول من المؤلفات.. صار المرء بحاجة إلى موسوعة كاملة لإحصاء التعريفات.. وذِكر المعرِّفين، وبعضٍ من العارفين.
 
(3)
 
تراجعت الفلسفة الصلبة أمام الفلسفة السائلة. تراجعت الأطروحة أمام الرؤية.. وتراجع البناء أمام الرأى.
 
وتحت ضغوط الأكاديميين والقراء الكلاسيكيين.. أصبح طريق الهروب المعتاد لمن يواجهون النقد: لسنا فلاسفة.. نحن فقط نفكِّر ونطرح ما نرى.. لسنا سوى أناسٍ يُعمِلون العقل، ويحضّون على إعماله باستمرار.
 
(4)
 
خمسمائة عام صنعت الغرب والعصر.. منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين.. إنَّه عصر النهضة أو هو عصر العلم.. أو هو عصر الحضارة الغربية بعد طول انقطاع. إنه أيضاً عصر المنشآت الفلسفية الكبرى بمثل ما هو عصر المنشآت المادية الكبرى.
 
بدأت تلك القرون بالمرحلة الكلاسيكية، ثم الرومانتيكية ثم الواقعية.. ثم نظرية الحداثة وما بعدها. ويذكر الدكتور محمد عبدالمطلب أن «الكلاسيكية» قامت على إحياء التراث اليونانى والرومانى.. وامتدت حتى القرن الثامن عشر. ثم جاءت «الرومانتيكية» كصدى للثورة الصناعية وإعلاء الفرديّة.. وقد امتدت حتى القرن التاسع عشر.. لتجىء «الواقعية» فى نهاية القرن التاسع عشر كصدى للثورة العلمية. وفى القرن العشرين سطعت نظرية الحداثة.. بعد أن أصبح الوعى الإنسانى أكثر اقتناعاً بالنسبية، وأكثر ابتعاداً عن المطلق والكلى.
 
لا يفرّق عدد كبير من المثقفين بين تلك المراحل على هذا النحو الحاد.. ويذهب كثيرون إلى إطلاق وصف «عصر الحداثة» على مجمل القرون الخمسة.
 
(5)
 
شهد القرنان التاسع عشر والعشرون ثراءً فكرياً كبيراً.. لم تتوقّف المطابع خلالهما يوماً عن تقديم جديد فى العلم والفكر. حتى لقد أصيبت الدوائر الثقافية الغربية بحالة من «التخمة الفلسفية».. جراء تعدد النزعات والتيارات، وصعود الجامعات والمؤسسات.. وزيادة أعداد الفلاسفة ومعهم زيادة أعداد القراء والنقاد.. وتوالى صدور المجلات والدوريّات.
 
لقد بدأت السوق الفلسفية فى أحيان كثيرة تشهد خللاً بين العرض والطلب.. حيث زاد العرض الفلسفى عن الطلب.. وأصبح المشهد الفكرى العالمى يعانى ممّا يمكن تسميته: فائض الفلسفة. هنا جاءت حقبة ما بعد الحداثة ضمن نتائج هذا الفائض الفلسفى.. حتى إن كثيرين لا يجدون أسباباً كافية لظهور أفكار ما بعد الحداثة.. كما أنهم لا يعرفون على وجه التحديد ما الذى يريده فلاسفة ما بعد الحداثة.
 
(6)
 
إذا كان الانتقال من عصر المنشآت الفلسفية الكبرى إلى عصر النانو فلسفة.. يمثل ظاهر الفكر الغربى.. كما أنه ربما يشرح جانباً من حالة التثاؤب الفلسفى فى الغرب. فإن انتقال عدوى التثاؤب إلى الفلسفة العربية لا يجد التبرير الكافى. لم يبذل العقل العربى ما يدفعه إلى الإرهاق والملل.. ولم ينشط العقل العربى طويلاً بما يقوده إلى الفتور والسأم.
 
فى المشهد الوجودى الذى يعيشه العالم العربى اليوم.. يحتاج العقل العربى إلى اليقظة والانطلاق.. إلى عودة الروح وعودة الوعى.. إلى كسر حائط البلادة والكسل.. وإلى استعادة الأمل.
 
يحتاج المجتمع إلى النظرية وتحتاج السياسة إلى الفلسفة.. يحتاج العقل العربى أن يتوقَّف صارخاً: لا.. لن نمضى هكذا.. حتى هنا كفى.
 
ما بعد بعد الحداثة.. تثاؤب الفلاسفة -الجزء الثانى- الأسبوع المقبل بمشيئة الله..
 
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع