بقلم: د.أوسم وصفي
التنافس السياسي
بعد مرحلة الثورة تبدأ مرحلة الصراع والتنافس السياسي لبناء النظام الجديد. في هذا السياق تبدأ الأحزاب والتيارات السياسية في عرض برامجها وتنفيد برامج الأحزاب الأخرى. هنا أيضاً يجب التفريق بين العام والخاص. فمهاجمة مبادئ وأفكار الأحزاب والشخصيات العامة ليس نوعاً من الإساءة أو الإهانة ولا يتعارض من المحبة. بطبيعة الحال يمكن أن ينطوي الأمر على كراهية وإساءة شخصية لكن ليس بالضرورة. ظهر هذا التفريق واضحاً أيضاً في حياة يسوع المسيح فقد كان يسوع لديه أصدقاء كثيرين من الفريسيين وكانوا يدعونه إلى ولائمهم، لكن هذا لم يمنعه من أن يهاجم ما أسماه "خمير الفريسيين" الذي هو تعليمهم. وهناك فقرة كاملة في الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى يكيل فيها يسوع الويلات للكتبة والفريسيين ويصفهم بصفات قوية مثل "المراؤون" و"الجهال" و"العميان" و"الأفاعي".
العدالة والغفران
تظهر أيضاً الحاجة للتفريق بين العام والخاص في الموقف من رموز النظم العربية الساقطة أو التي في سبيلها للسقوط. وعندما ينادي بعض المسيحيين في بلادنا بضرورة محاكمة من أفسدوا حياة البلاد والعباد بكل صورة ممكنة من الصور وأنهوا "خدمتهم" بقتل المتظاهرين السلميين، نجد وللعجب من ينادي بالغفران والتسامح وترك "عدالة السماء" تقول كلمتها ويقتبسون آيات من الكتاب المقدس مثل: " لي النقمة أنا أجازي يقول الرب." متجاهلين أن هذه الآيات قيلت في سياق أن يكون الإنسان مستعداً للغفران في حقوقه الخاصة لأن الآية تكتمل هكذا: " فإن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه.." هنا خلط صارخ بين العام والخاص. فمحاكمة الفاسدين ليست انتقاماً وإنما هي إحقاقاً للعدل وحق الشعب الذي لا يمنعه الفساد فقط من نوال حقوقه الاقتصادية والاجتماعية بل يُصعب عليه أيضاً الحياة الروحية الأخلاقية التي يهدف إليها فكيف يمكن أن يؤمن من لا يجد قوت يومه؟ إننا لا يجب أن ننسى أننا نعيش في الجسد ولا يمكن أن تكلم إنسان عن حياته الأبدية أو الأخلاقية وهو جائع أو خائف أو ذليل كما لا يمكن أن يتبصر الإنسان بحقيقة حياته الروحية والأخلاقية وهو شديد الغنى والترف. إن مقاومة الفساد السياسي وغياب العدالة الاجتماعية والهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء يتيح للناس ألا يقعوا فريسة لما يخدّر أحاسيسهم الروحية والأخلاقية سواء كان ذلك المخدر هو الفقر المدقع أو الغنى الفاحش .
إن عدالة السماء لا تنفذها السماء دائماً بطرق معجزية فائقة للطبيعة، لكن الشعوب والحكومات والقضاء مُكلف بتطبيق عدالة السماء على الأرض. عندما تسأل أي مسيحي عن خطية سدوم وعمورة أو تسال أي مسلم عن ذنب "قوم لوط" سوف تجد أن الإجابة هي أنهم مارسوا الجنسية المثلية "الشذوذ الجنسي" وهذا يعكس حقيقة أننا نهتم "بالأخلاق الجنسية" أكثر من الجوانب الأخرى للأخلاق ونخشى "الخطايا الجنسية" بينما لا نتعامل بنفس الحزم مع الخطايا الأخرى. الحقيقة أن الفساد الأخلاقي لسدوم وعمورة كان منتشراً في كل مجالات الحياة وها هو سفر حزقيال يلقي لنا الضوء على الجانب الاجتماعي من خطية سدوم وعمورة:
هذَا كَانَ إِثْمَ أُخْتِكِ سَدُومَ: الْكِبْرِيَاءُ وَالشَّبَعُ مِنَ الْخُبْزِ وَسَلاَمُ الاطْمِئْنَانِ كَانَ لَهَا وَلِبَنَاتِهَا، وَلَمْ تُشَدِّدْ يَدَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، (حزقيال 16: 49)
هنا يتكلم الوحي عن أن الدولة (وليس الأفراد) لم تقم بتشديد يد الفقير والمسكين. كان لوط البار وأسرته يسكنون هذه "الدولة" وربما كانوا يمارسون العطاء السخي لمن حولهم ويشددون أيادي الفقراء في الدائرة لتي استطاعوا الوصول إليها، لكن لم يستطيعوا تغيير الأمة وتعديل سياساتها فتمت معاقبة هذه الأمة.
الله ينتظر من الجماعات البشرية (بحسب نظمها) أن تقضي للمساكين وتعاقب من يظلمهم ويأكل حقوقهم، ولا مجال هنا للتسامح فهذا ليس تسامحاً وإنما هو تفريط في حق الآخرين الذين لا نملك التفريط في حقوقهم.
الدينونة والمواجهة
في نفس السياق يأتي أيضاً الخلط بين الدينونة والمواجهة والفارق بينهما يكمن في توجه القلب. أوصى المسيح تابعيه ألا يدينوا بمعنى ألا ينصبوا أنفسهم قضاة يحكمون على الآخرين معتبرين أنفسهم أبرّ من غيرهم. هذا نجده واضحاً في قوله:
1«لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، 2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟
هنا ينتقد المسيح من لا يبصر خطاياه ويبدأ في مواجهة الآخرين بخطاياهم. لكن المسيح لم ينتقد الإنسان الذي يواجه نفسه بخطاياه ويعمل على التخلص منها عندما يواجه غيره كما يواجه نفسه فيقول:
5يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!»
ختاماً أقول أننا عندما نخلط بين العام والخاص نخسر في الاتجاهين فعندما نُعامل الخاص معاملة العام، فإننا نهاجم وننتقم ونُدين وهكذا نخنق الخليقة الجديدة فينا (هذا إن كانت موجودة) وعندما نُعامٍل العام معاملة الخاص فإننا نفرط في حقوق الآخرين ونتواطئ دون أن نقصد مع كل أشكال الظلم والفساد.