الأقباط متحدون | العام والخاص.. الشريعة والطبيعة في الإيمان المسيحي (1)
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٠:٣٧ | الأحد ٢٦ يونيو ٢٠١١ | ١٩ بؤونة ١٧٢٧ ش | العدد ٢٤٣٦ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

العام والخاص.. الشريعة والطبيعة في الإيمان المسيحي (1)

الأحد ٢٦ يونيو ٢٠١١ - ٤٤: ٠٤ م +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: د.أوسم وصفي

أشارت الكاتبة الصحفية فاطمة ناعوت إلى رسالة إلكترونية وصلتها من صديلي مسيحي تفاعلاً مع كتاباتها الكثيرة المدافعة عن حقوق الأقباط. كانت هذه الرسالة بعنوان " شكرًا وكفاية كده». يقول فيه بعد الديباجة: أرسلتُ لكِ منذ شهور أشكرك لأنك أعدتِ لى الثقةَ فى الصحافة بل وفى القراءة. مقالتك الأخيرة كالعادة أعجبتنى. ولكن بعد قراءة تعليقات القراء على «اليوم السابع» بدأت أخاف لأنها تنصب على التهديد والتشكيك فى دينك، نحن لا نريد «فرج فودة» آخر، لذا يجب أن أوضح أمرًا غاية فى الأهمية، كل هذا الاضطهاد لا يزعجنا، لماذا؟
1) الاضطهاد يزيد إيماننا لأننا عندما نفقد الرجاء فى الأشخاص يكون رجاؤنا فى الله وهذا أفضل، لذا علينا شكر مضطهدينا وهذه وصية المسيح لنا: «أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم.
2) المسيح لم يخدعنا وقالها لنا صريحة فى الإنجيل: «قد كلَّمتكم بهذا ليكون لكم فىَ سلام، فى العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم.
3) إذا ضربك أحدٌ بعصا هل نلوم العصا؟ نحن نؤمن أن الشيطان يستخدم أشخاصًا (العصا) لاضطهادنا، لذا نصلى لأجلهم حتى يفتح اللهُ عيونهم ويروا مدى الإيذاء الذى أصابنا، نُصلى من أجل النصرة على الشيطان وليس على المتطرفين، هذا هو إيمانى.
وكما أثارت هذه الرسالة حفيظة الكاتبة التي شعرت أنها بدفاعها عن حقوق الأقباط تناطح طواحين الهواء أثارت حفيظتي أنا أيضاً. وأضع أمام رد فعل هذا القارئ رد فعل مشاهد على حلقة تلفزيونية قدمتها من برنامج "كاشف الأسرار" بعنوان "الإيمان الحَقّ على المَحَكّ" وكنت فيها أتكلم عن أن الإيمان الحق يظهر في قدرته على تغيير الحياة وبالذات في جانب المحبة غير المشروطة التي تظهر في أجلى صورها في محبة الأعداء. كتب أحد المشاهدين تعليقاً مقتضباً لكنه "بليغ" على اليوتيوب حيث قال: "إنت بارد!" وهو ربما يقصد أن عدم تحرك النخوة والغضب لحقوق الأقباط المنهوبة والتذرع بمحبة الأعداء لهو نوع من البرود.
ربما تتعجب لأنني غضبت من موقف قارئ فاطمة ناعوت وفي نفس الوقت تكلمت بما أغضب هذا المشاهد وتظن أن في موقفي تناقض. وهذا ما أريد أن أشير إليه في هذا المقال عن جدلية الخاص والعام في الإيمان المسيحي التي لا يبدوا أنها واضحة أمام الكثيرين، كما لا يبدو واضحاً أمام الكثير من المسيحين المعنى الحقيقي لموعظة المسيح على الجبل (والتي يقتبس منها صديقنا قارئ فاطمة ناعوت).

سمعتم أنهُ قيل أما أنا فأقول
نقرأ هذه الموعظة في الإصحاح (الفصل) الخامس من إنجيل يوحنا وبداية من عدد 17 نقرأ:
«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.......38«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. 39وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. 40وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. 41وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. 42مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ.

قاعدة "عين بعين وسن بسن" هي جزء من "الناموس" الذي قال يسوع أنه لم يأت لكي ينقضه فهو قانون العدالة الطبيعي الذي يبنغي أن يحكم حياة جماعات البشر. لكن المسيح جاء ليؤسس لنوع جديد من البشر وهذا يسميه الكتاب المقدس في عهده الجديد "الخليقة الجديدة". أهم ما يميز هذه الخليقة الروحية الجديدة التي لا تزال تسكن نفس الأجساد، هي أنها تشابه الله في كونه يحب حتى أعداءه ويشرق شمسه على الأشرار وغير المؤمنين. المهم جداً في هذا الأمر أن نعرف أن ما يتكلم عنه المسيح ليس وصايا وقوانين وشريعة تطبق ولكنها تعبيرات عن طبيعة تولد وتنمو على حساب طبيعة قديمة تنحسر تدريحيا. كان الناموس (شريعة موسى) نقلة روحية كبيرة لشعب نشأ وسط شعوب بدائية تمارس تقديم الذبائح البشرية للآلهة وتمارس حروب الإبادة العرقية. فكان الناموس الذي جاء به موسى النبي يهدف إلى أن يأتي بالناس من موقع الظُلم والاعتداء إلى موقع القصاص العادل (عين بعين وسن بسن) وليس عين برقبة أو شخص بقبيلة كاملة. أما المسيح (الذي جاء المسيح نموذجاً لاتحاد للطبيعتين البشرية والإلهية معاً) فبمجيئه وموته وقيامته أسس لطبيعة إنسانية جديدة مشابهة لطبيعة الله أي هذه الطبيعة تولد بشكل سرّي معجزي في الإنسان الذي يؤمن ويطيع المسيح من كل قلبه، فيبدأ في التحرك من أي مكان هو موجود فيه على ذلك "المتصل" نحو غاية نهائية وهي أن يصل تشبهه بالمسيح إلى أن يحب أعداءه ويبارك لاعنيه ويصلي من أجل الذين يسيئون إليه كما فعل المسيح على الصليب إذا سامح وصلي من أجل صالبيه.

هذه ليست "شريعة" مطلوب من المسيحي أن ينفذها ولكنها تعبير عن "طبيعة" يتغير المسيحي إليها بقدر نموه في العلاقة الروحية الصوفية مع المسيح، الحيّ روحياً في قلوب المؤمنين به. وهذا ما يميز "المسيحية" عن كل من اليهودية والإسلام. المقصود بهذا يعني أن المسيحيين ليسوا كلهم في نفس النقطة على المتصل ومنهم من لم يدخله أساساً لأنه مسيحي ليس من خلال قرار وجودي بالإيمان القلبي والاتباع المستمر للمسيح وإنما فقط لكونه وُلِد لأب وأم مسيحيين في ثقافة متدينة متعصبة للدين مثل ثقافتنا. أما هؤلاء الذين يقول عنهم الإنجيل أنهم "وُلِدوا من الله أي نالوا هذه الطبيعة المعجزية الجديدة، فلا يصلون أيضاً إلى أقصى نقطة في المتصل بين يوم وليلة. بعض منهم لا يزال يقاوم فكرة الإعتداء على الآخرين وبعضهم يطلب العدالة دائماً ويصف من ينادي بالتحرك للنقطة القصوى على المتصل من محبة الأعداء بأنه "بارد"وبعض يحاول الغفران وينجح أحياناً ويفشل أحياناً أخرى. وهذا مفهوم طبعاً بالنسبة لوضعه على المتصل.

من المهم هنا أن نقول أن التحرك على المتصل فيما وراء نقطة العدل إلى نقطة تَحَمُّل الإيذاء ومقابلة الشر بالخير هو أمر يجب أن يكون دائماً أمراً فردياً لأنه يحتاج لطبيعة جديدة فوق بشرية وفي نفس الوقت هذه الطبيعة الجديدة الفوق بشرية، والتي هي ممكنة بفعل عمل معجزي من الله، لا يمكن تفعيلها إلا من خلال إرادة وطاعة بشرية. لذلك على الكنيسة أن تحث وتعظ وتساعد رعاياها أن يتحركوا على هذا المتصل نحو نقطة محبة الأعداء. ولكن في نفس الوقت ترعى وتتفهم من لم يصل بعد لهذه النقطة، كما كان المسيح يقول دائماً بعد أن يعظ الجموع: "من له أذنان للسمع فليسمع" من وُلِد من الله سوف تكون له أذنان ليسمع هذا ويعمل مع الله على جعله حقيقة في حياته وهذا أمر يحتاج لوقت. أما من لم يُولَد من فوق فلن يسمع مطلقاً بل ربما يرفض ويشعر بالاستفزاز ولا يستطيع أحد أن يلومه على ذلك.

هذا بالنسبة للفرد، أما بالنسبة للجماعة فيجب أن تعمل دائماً على تحقيق العدالة (نقطة المنتصف) لأن البشرية كلها في هذه المرحلة من تطورها قد وصل وعيها إلى الإيمان بضرورة الوصول لهذه النقطة وإن تكرر فشلها في ذلك بصور شتى. لهذا السبب يجب على القضاء والقانون أن يتعاونا مع السياسة والاقتصاد لكي يجعلوا المجتمع كله يتحرك نحو نقطة العدالة القضائية والاجتماعية وكل أنواع العدالة التي يتفق عليها الجميع فهذا من ناحية ضمان لاستقرار المجتمع، ومن ناحية أخرى مساعدة حتى لمن يسيرون على المتصل إلى النقطة القصوى، حتى يستطيعوا تحمل ذلك ولا يتركوا المسيرة ويبيعوا القضية لعدم قدرتهم على المواصلة في ظل الاعتداء وغياب العدالة. هذا هو الناموس الذي قال يسوع أنه لم يأت لينقضه لأنه الحد الأدنى المطلوب والذي يجب إرساءه على المستوى العام حتى يمكن للأفراد أن يتخطوه نحو المحبة والتضحية ومقاومة الشر بالخير. هذا يشير إليه اللاهوتي الإنجيلي ورجل النهضات الأشهر في القرن التاسع عشر تشارلز فيني :
"استقرار مؤسساتنا كمؤسسات جمهورية فعلاً، يعتمد على تقدم الوعي العام والفضيلة. إذا اخفق الوعي العام أو الفضيلة الخاصة أو الشعبية غلى مستوى يصبح فيه ضبط النفس مستحيلاً عملياً، فسنسقط مرة أخرى إلى الملكية المحددة أو المطلقة أو إلى الاستبداد المدني أو العسكري..."
ما أريد التركيز عليه هنا هو أن الوعي العام والفضيلة الشعبية أمر يجب أن يكون موجوداً بدرجة تتيح ضبط النفس أو الفضيلة الخاصة. هذا ذكرني بحوار أُجري مع الصحفية اللامعة فريدة الشوباشي وتناول انتقالها من المسيحية للإسلام، فيه قالت:
قررت اعتناق الإسلام دون تدخل من أحد، ولا يعنى إسلامى انتقاصاً للمسيحية ولكننى وجدت فى الإسلام إجابات لأمور كنت أفكر فيها منذ صغرى. مثل مبدأ « إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» الذى طُردت بسببه فى المدرسة لأننى قلت للراهبة رأيى فيه لأننى لا أسمح لأحد من الأساس أن يضربنى، وإذا ضربنى لابد أن آخذ حقى. .. من حوار مع الصحفية والإعلامية فريدة الشوباشي نشر في جريدة المصري اليوم
لقد كان رد فعل الفتاة "الحقوقية" فريدة الشوباشي مفهوماً بالنسبة لها كفتاة مؤمنة بالحقوق والعدالة وفي نفس الوقت لم تدرك حقيقة البعد الروحي الشخصي المضاف لهذا البعض الحقوقي (دون أن ينقضه كما قال المسيح) لأنها لم تدخل منطقة الخليقة الجديدة على المتصل والتي تقع فيما وراء نقطة العدالة وهذا مفهوم ولا يمكن مطالبتها بأن تدركه. أما مشكلة تلك الراهبة كغيرها من المسيحيين عندما يخلطون بين العام والخاص ويفترضون أن محبة الأعداء وإعطاء الخد الآخر فريضة مسيحية واجبة على كل من تُكتب المسيحية في خانة الديانة في بطاقة هويته. عندما تفرض هذا على شخص لم ينل ما نسميه الولادة الجديدة أو تنبت فيه نبتة الخليقة الجديدة فأنت كمن يطلب من دودة القز أن تطير. بالطبع لن تطير وربما "تستقيل" من كونها دودة قز لأن ما يطلب منها "ضد الطبيعة" أي ضد طبيعتها الحالية. دودة القز بالفعل يمكنها أن تطير لكن عندما تتغير طبيعتها وتموت ظاهرياً (أي تصبح عذراء في شرنقة حريرية) ثم بعد ذلك تقوم من بين الأموات ثاقبة شرنقتها ومحلقة في السماء كفراشة تطير.

مقاومة الفساد
يمكن للإنسان أن يتنازل عن حقوقه الشخصية كتعبير عن نموّه الروحي، أما الحق العام فلا يمتلك أن يتنازل عنه فهو حق المجتمع. يمكن أيضاً أن يتحمل الإنسان نتائج الفساد عندما تصيبه شخصياً سواء كانت هذه الإصابة من خلال خرق للقانون أو من خلال قانون ظالم، أما التصدي لخروقات القانون ومقاومة القوانين الفاسدة فهو واجب على الجميع. قام المسيح بهذا الواجب عندما وجد أن رئيس الكهنة قد سمح للباعة والصيارفة بأن يستغلوا رواق الأمم مانعين إياهم من حضور الصلاة في الهيكل في هذا الرواق. لم تنتب المسيح نوبة غضب فلم يتمالك نفسه، لكنه أخذ على نفسه مهمة تطهير الهيكل من الفساد لأن الأمر هنا ليس أمراً شخصياً له وإنما يخص عشرات المصلين الذين حرموا من الصلاة في الهيكل.
أما عندما تم القبض على يسوع لم يقاوم مع أنه كان يستطيع كما قال أن يستدعي فرقة من الملائكة لإنقاذه، ولم يقوم بإثارة الشعب ضد السلطات. هذا الشعب الذي كان مستعداً للثورة وينتظر أن يُعلن يسوع نفسه ملكاً ويبدأ ملكوت الله بالمفهوم السياسي الذي كان ينتظره الشعب. أما يسوع فكانت خطته أن يؤسس ملكوتاً آخر روحياً ليس من خلال إسقاطه النظام السياسي الحاكم لهذه المنطقة من العالم وهو النظام الروماني، ولكن من خلال موته قيامته من الأموات وإسقاطه لنظام الخطية والموت الذي يسود على كل البشر ويمنح الحياة الأبدية لكل من يؤمن به ويخضع "لنظامه" الروحّ الجديد.
العجيب أن الغالبية العظمى من المسيحيين في مصر قامت للأسف بالعكس تماماً فعندما قامت الثورة المصرية لإسقاط نظام الحُكم الفاسد، لم يشارك أغلب المسيحيين ربما لخوفهم من تولي التيار الإسلامي للحكم، وربما لاقتناعهم أن تغيير الوضع السياسي القائم يكون فقط بالاحتمال والصلاة. أما الأعدب والأدعى للحزن هو أن المسيحيين ثاروا وخرجوا واعتصموا فقط عندما هوجمت كنائسهم!


غرباء ونُزلاء
عندما يُفسر هذا المفهوم النُسكي بدون التفريق بين الخاص والعام لا نكون في العالم غرباء ونزلاء بل نكون ضعفاء وعُملاء. من قال أن الغريب والنزيل لا يشهد للحق أبّان زمان غُربته ونُزُلِه؟! دعونا نفهم المعنى المقصود بهذه العبارة في سياقها. يقول بطرس الرسول للمؤمنين في رسالته الأولى 2: 11-12
11أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ، 12وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا، فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ، يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الافْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُلاَحِظُونَهَا.
إن كان العدد الحادي عشر يتكلم عن الغُربة والنزول فالعدد التالي يتكلم عن "الأعمال الحسنة" ولا أظن أن الأعمال الحسنة التي يقصدها تقتصر على أعمال البر الشخصي الذي يحفظ به الإنسان نفسه من الدنس الذي في العالم، بل تتضمن أيضاً الدفاع عن المظلوم ومواجهة الفساد وتحقيق العدالة في الأرض. وعندما يقول الرسول بولس في مطلع الإصحاح الثالث من رسالة كولوسي:
فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. 2اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ، 3لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ. 4مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ.
يظن الكثيرون أن الاهتمام بما فوق وطلب ما فوق يكون بتجاهل الأرض وما يحدث فيها. وهنا أريد أن أقول: "لا" بل العكس هو الصحيح. إن إنَّ حياتَنا هنا على الأرض كأنَّها ’’برنامجٌ تدريبيٌّ‘‘ به تتدرَّبُ أرواحُنا الأبديَّة لتتَّخذَ الاختياراتِ الروحيَّةَ السليمة، ومن ثَمَّ تتشَكَّلُ وتصيرُ أكثرَ لياقة لكي تملِكَ مع الله إلى الأبد. لا ينتظرُ ذلك الكيانُ الروحيُّ الداخليُّ فقط فَناء الإنسان المادِّيِّ الخارجيِّ لكَيْ يَعيشَ وينمو، لكنَّه يعيشُ فينا هنا الآن، بل يتجدَّدُ يومًا فيَومًا. وتلعبُ الضيقاتُ والآلام دَورًا مهمًّا في التجدُّد اليوميّ. فبُولس الرسول يقول في 2كورنثوس 4: 17: ’’لأنَّ خِفَّة ضيقتنا الوقتيَّة تُنْشئُ لنا أكثرَ فأكثرَ ثِقَلَ مجْدٍ أبديًّا‘‘.هذا الحمْلَ الذي نحمِلُه هنا، وإنْ كان يُثقِلُ كاهلَ الإنسان المادِّيِّ الخارجيّ، فهو يبني ’’عضلاتٍ‘‘ روحيَّةً للكِيان الروحيِّ الأبديّ، ويُنشئ له أكثرَ فأكثرَ ’’ثِقَلًا‘‘ من المجد. بكلماتٍ أخرى، إنَّ الشخصَ الذي يتألَّمُ هنا في هذه الحياة، ويتحمَّلُ الألَمَ بِشَرف، سيَتَسبَّبُ هذا الألَمُ في إنشاءِ صفاتٍ روحيَّةٍ مجيدةٍ في شخصيَّته الروحيَّة، التي تحيا هنا على الأرض، وستَستمرُّ في السماء. يصفُ الكاتب والفيلسوف المسيحيُّ الكبير دالاس ويلارد حياتنا هنا على الأرض بأنَّها ’’برنامجٌ تدريبيٌّ‘‘ به تتدرَّبُ أرواحُنا الأبديَّة لتتَّخذَ الاختياراتِ الروحيَّةَ السليمة، ومن ثَمَّ تتشَكَّلُ وتصيرُ أكثرَ لياقة لكي تملِكَ مع الله إلى الأبد. فهو إذًا برنامجُ ’’تَدريبٍ على المُلْك‘‘ (Training for Reigning)
كيف تتدرب على المُلك الأبدي وأنت تعيش في العالم منعزلاً لا تمارس هذا "المُلك" ولو بالصورة المحدودة المتاحة هنا. كيف تدفن وزنتك حتى لا تخسر ظاناً أن عملك من أجل ما هو فوق يكون فقط بحماية نفسك من التدنس وطمر وزنتك وعدم التجارة بها في العالم؟! كيف سيقيمك الله على الكثير ولم تكن أميناً في القليل؟! كيف يجعلك صاحب الوزنات تملك معه على "عشر مدن" أو "خمس مدن" أو حتى "مدينة واحدة" وقد عشت حياتك فقط تخشى خسارة الوزنة؟! ولاحظ أن غير الأمين في القليل ليس الذي خسر الوزنة وإنما الذي دفنها. إننا نخسر كثيراً عندما لا نعرف أن حياتنا الأبدية قد بدأت بالفعل هنا وأنها متصلة وما نفعله في حياتنا هنا والآن سوف يكون له تأثير في نوعية حياتنا.. هناك!





كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :