التدخين... عندما كان رمزًا للطبقية والرجولة والسلطة
منوعات | إيلاف
٣٤:
١١
ص +02:00 EET
الخميس ٢١ يونيو ٢٠١٨
كان التدخين في القرن التاسع عشر رديفًا للذكاء والتفكير والتأمل لدى الذكور البريطانيين، كما كان رمزًا للمكانة الاجتماعية والسلطة... هذا ما يؤكده كتاب ينظر في تأثير التبغ على المجتمع البريطاني بشكل عام.
إيلاف: كان السير كونان دويل يعتقد أن كل رجل، من الطبقة الوسطى على الأقل، يدخن بطريقته الخاصة، التي تدل على تفرد شخصيته، وهو ما أظهره من خلال شخصية شرلوك هولمز، الرجل غريب الأطوار المهتم بحل عقد الجرائم واكتشاف من وراءها وما هي دوافعها.
مبررات المقاطعين
التدخين وتاريخه في بريطانيا هو موضوع كتاب للمؤرخ ماثيو هيلتون. ويأتي كتابه المعنون "التدخين في الثقافة الشعبية البريطانية بين 1800 و2000" ضمن منشورات سلسلة تاريخية مخصصة لجوانب الثقافة الشعبية، وهو ينظر في تاريخ التدخين في بريطانيا، ويشرح الدور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للتبغ، وكيف ساهم في تغيير أفكار المجتمع البريطاني بطرق مختلفة.
شهدت سنوات ما بين الحربين العالميتين شيوع تدخين الغليون لدى الذكور لا سيما السياسيين
يقع الكتاب في ثلاثة أقسام، وفِي 250 صفحة، ويغطي مختلف جوانب التدخين كظاهرة اجتماعية في بريطانيا، ويشمل ذلك الحملات المعارضة لاستهلاك التبغ، وموقف الشركات المنتجة، إضافة إلى موقف الصحافة ووسائل الإعلام، ثم التدخين والمرأة والمفاهيم الاجتماعية المرتبطة بها، والمبررات الطبية والصحية التي استند إليها الداعون إلى مقاطعة التدخين.
ثقافة وإيمان بالحداثة
أهم ما في الكتاب هو موضوع الفرد الذي يعتبر التدخين مسألة شخصية بامتياز ووسيلة لإثبات نوع شخصيته ويرفض كل محاولات التدخل من جانب الدولة أو الجهات الصحية أو حتى الجماعات المناهضة للتدخين، علمًا أن هذه الحملات فشلت فشلًا ذريعًا تقريبًا لا سيما بين الشباب لكون التدخين مسألة شخصية جدًا، وتعكس حسًا عاليًا بالفردية.
يرى الكاتب أن عادة التدخين تجذرت في مجتمع القرن التاسع عشر في إطار سياق برجوازي ليبرالي، وقد استند في ذلك إلى ما نشرته الصحافة والمجلات الأدبية في الحقبة الفكتورية والإدواردية.
وقد ارتبط الأمر بالذكورية أيضًا، حيث كانت الفكرة السائدة أن اختيار نوع التبغ لا يتقنه غير ذكر برجوازي متذوق حاله في ذلك حال الخمر الجيد والملابس الأنيقة والاجهزة الحديثة. ويلاحظ الكاتب أن الصحف كانت تمتدح الذكر المدخن باعتباره مثقفًا وذكيًا ومتنورًا ومن المؤمنين بالحداثة.
رمز للانتقال إلى الرجولة
يراجع الكتاب المفاهيم السابقة عن الذكورية وارتباطها باستهلاك التبغ، ويشير إلى أن برجوازيي القرن التاسع عشر كانوا يمجّدون السيجار والغليون، ويحتقرون السيجارة منذ ظهورها، حيث ربطوها بالإناث وبالأجانب.
وكان استهلاك السيجارة قد شهد ارتفاعًا كبيرًا في نهاية القرن التاسع عشر. ويشرح الكاتب كيف ازداد إقبال الذكور من الطبقة العاملة على السيجارة، لأنها كانت رخيصة الثمن، ولأنها تحوّلت هي الأخرى إلى رمز يعبّر عن صاحبها، كما لدى الطبقة البرجوازية، حيث كانت تدل على أن من يدخنها رجل قادر على كسب رزقه، وله شخصية اجتماعية متميزة.
السيجارة كانت أيضًا رمز الانتقال من الطفولة إلى النضج، حيث كان صبيان الحي يتجمعون في زوايا الشوارع في الأحياء الشعبية ويدخنون للتعبير عن دخولهم مرحلة الرجولة.
حركة مناهضة التدخين
ربطت حملات مكافحة التدخين بين استهلاك التبغ والإصابة بأمراض مثل السرطان والصمم والعمى والشلل وأمراض القلب وغيرها. ويلاحظ الكاتب أن شبابًا كثيرين لم يتمكنوا من الالتحاق بالقوات المسلحة بسبب خلل في القلب سببه التدخين.
كان الشباب يقبلون على شراء السجائر الرخيصة، التي أغرقت الأسواق في نهاية القرن التاسع عشر. وتذكر الأرقام أن ارتفاعًا هائلًا في أعداد المدخنين الشباب سجل بين 1880 و1990. وفِي عام 1908 صدر قانون يمنع بيع منتجات التبغ إلى من يقل عمره عن 16 عامًا. ويلاحظ الكاتب هنا أن هذا القانون لم يغيّر الكثير على أرض الواقع، بل يعتبر أكثر القوانين تعرّضًا للانتهاك في القرن العشرين.
لكن الأمور سرعان ما تغيرت بعض الشيء خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، حيث أخذت حاجة الجنود إلى التدخين في عين الاعتبار. وبعد الحرب خفتت الأصوات المناهضة للتدخين، وتطور إنتاج السجائر، وتوسع وتغيرت العلاقة بين السيجارة وقوانين السوق والفرد المستهلك والتسويق.
دلالة طبقية
ويشير الكاتب إلى أساليب الدعاية التي استخدمتها شركات الإنتاج الكبرى وكيفية استغلالها صورًا ورموزًا وطنية وتاريخية لجذب المستهلكين والاحتفاظ بهم.
شهدت سنوات ما بين الحربين العالميتين شيوع تدخين الغليون لدى الذكور، لا سيما بين السياسيين. أما السيجار فظل محدود الاستهلاك، ولَم يستخدم إلا في القرن العشرين وفِي المناسبات فقط، فيما اعتبر مستخدموه الجدد حديثي نعمة.
ضرب صورة المرأة
يخصص الكتاب جزءًا كاملًا للمرأة والتدخين والمفاهيم الاجتماعية المرتبطة بالتبغ والأنوثة. ويلاحظ أن المجتمع لم يكن ينظر بعين الاحترام إلى امرأة تدخن، معتبرًا السيجارة رديفًا لتعدد العلاقات مع الرجال.
لكن نساء أصررن على تجاوز هذه الأفكار السائدة، واتخذن من التدخين وسيلة لإثبات حريتهن وشخصيتهن وتميزهن وحتى لذكائهن ونشاطهن السياسي. وتحوّلت السيجارة لدى المرأة إلى رديف الشخصية الحرة، بل وحتى المرأة العاملة والمفكرة. ومع ذلك لم تتوقف الانتقادات للمرأة المدخنة، وركزت حملات مناهضة التدخين على تأثيرات السجائر السلبية على صحة الأمهات وأطفال المستقبل.
من جانبها، وجدت شركات إنتاج السجائر في المرأة المدخنة نوعية جديدة من المستهلكين، فأنتجت لها دعايات خاصة. وتذكر الأرقام أنه بحلول عام 1948 كان 82% من الذكور و41% من الإناث يدخنون.
تطوير دعايات
في العقود اللاحقة ظهرت هواجس صحية لدى المدخنين بشكل عام تدفعهم إلى ترك هذه العادة، فيما طورت شركات إنتاج التبغ أساليبها ودعاياتها للحفاظ على سوق شبه ثابتة.
ويرى الكاتب أن هذا الصراع لم يكن يحسمه غير الفرد المستهلك نفسه، الذي ظل محتفظًا بحسه بالفردية، كما كان في القرن التاسع عشر رافضًا تدخل جهات حكومية أو غير حكومية في قرارات شخصية جدًا مثل التدخين.
مع ذلك، انخفضت نسبة المدخنين من الذكور البريطانيين بين السنوات 1948 و1990 من 82% إلى 38%. أما الانخفاض المسجل بين صفوف الإناث فكانت نسبته أقل، أي من 41% إلى 31% فقط.