الأقباط متحدون - العراقيون ضحية مثالياتهم
  • ٠٥:٢٤
  • الاربعاء , ٢٠ يونيو ٢٠١٨
English version

العراقيون ضحية مثالياتهم

د. عبد الخالق حسين

مساحة رأي

٣٧: ٠٥ م +02:00 EET

الاربعاء ٢٠ يونيو ٢٠١٨

تعبيرية
تعبيرية
بقلم : د.عبدالخالق حسين
 
لا شك أن تعليقات الأصدقاء والقراء الكرام تشكل مصدراً مهماً لأفكار تحفز الكاتب على كتابة المزيد من المقالات. ومن التعليقات على مقالي الأخير الموسوم (ذكاء العراقيين المدمر)(1)، كتب لي صديق، لعب دوراً نضالياً مشرفاً في إسقاط نظام العهر والفاشية، قائلاً: (وتعقيبا على الأفكار التي كتبنا عنها حول طبيعة العراقيين وجدتُ هذه المقولة لفولتير بالإنكليزي: 
 
"Dont allow the perfect to be the enemy of the good" أي (لا تسمح للمثالي أن يتحول إلى عدو للجيد). ويضيف الصديق: "ونحن كعراقيين كم مرة ذبحنا، أو أحيانا وأدنا العمل (في باكورة إنتاجه) أو الجهد الجيد من أجل فكرة مثالية".
في الحقيقة أنا كتبت في الأعوام الماضية عدة مقالات بهذا المعنى مثل مقالي الموسوم: (شاف القصر هدَّم كوخه) وغيره (2، 3، 4)
 
لقد لخص الصديق باقتدار، مأساة العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وإلى الآن.
 
فكلنا نعرف أن العراق قبل الحرب العالمية الأولى كان خرائب وأنقاض، وأغلب مدنه، رغم قلتها، كانت أقرب إلى قرى عشوائية واسعة منه إلى مدن. أما بغداد، وكما نشاهد من صورها التاريخية قبل وبعد سقوط الدولة العثمانية مباشرة، فهي الأخرى كانت عبارة عن قرية مترامية الأطراف ليس فيها أي شارع حديث إلا شارع واحد الذي بناه آخر ولاة العثمانيين، وهو خليل باشا، وسمّاه باسمه، والذي أُطلِقَ عليه فيما بعد بـ(شارع الرشيد.) 
 
فلما دخل الإنكليز بغداد عام 1917 وطردوا الأتراك من العراق، واجهوا حرب الجهاد من العراقيين دفاعاً عن الاحتلال التركي العثماني "المسلم"، ضد الاحتلال الانكليزي "الكافر"، ثم ثورة العشرين الوطنية، التي على أثرها اضطر الانكليز إلى تأسيس الدولة العراقية و بحمايتهم، وجلبوا لها الأمير فيصل بن الحسين من الحجاز ونصبوه ملكاً، والذي صوت عليه معظم قادة ثورة العشرين.
 
لقد واجه جميع من في السلطة الجديدة من عراقيين، وإنكليز، حجم الخراب البشري، والمادي، الموروث المتراكم منذ عزو هولاكو عام 1258 وإلى عام 1921، عام التأسيس، فالشعب الذي قدروا تعداده نحو ثلاثين مليون نسمه في العهد العباسي، بقي منه نحو مليونين أو أقل عند طرد الأتراك. وهذا يعني أن الشعب العراقي كان على وشك الانقراض لولا تحريره من الاستعمار التركي المتخلف. وقد حاول المسؤولون آنذاك بناء دولة حديثة من هذا الخراب الشامل الذي استمر نحو ثمانية قرون.
 
بطبيعة الحال لم تكن الدولة الوليدة مثالية، ولا يمكن أن تكون كذلك وسط الخراب الشامل، ولكنها كانت بداية مقبولة، بل وحتى جيدة حسب ظروف المرحلة القاسية آنذاك. إلا أن أغلب العراقيين المتشبعين بثقافة "المثالية"، وخاصة تلك التي تلقوها من رجال الدين، و وعاظ السلاطين، لم يوافقوا على وجود الانكليز في العراق، أو أية علاقة ارتباط معهم، بل أصروا على الاستقلال التام، ورحيل آخر جندي بريطاني، في وقت لم تتوافر فيه للعراقيين إمكانية إدارة دولة، وحمايتها من أي عدوان خارجي، ولا حتى حماية أنفسهم من أنفسهم.
 
لذك راحت الانتلجنسيا العراقية، المدنية والدينية، تحرض العراقيين ضد ما تحقق لهم، وبالأخص ضد النظام الملكي الذي جعلوا منه رمزاً للشر المطلق، و يمكن اختصار هذا التحريض ببيت شعر من إحدى قصائد شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي قال:
أنا حتفُهم ألج البيوت عليهمُ---- أّغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
 
وهكذا كانت جل قصائد الجواهري، وقصائد أغلب الشعراء الآخرين، وكتابات الكتاب، وخطابات الخطباء من هذا النوع التحريضي، يصب حمماً على جميع رجالات العهد الملكي. وكذلك موقف المعارضة الوطنية، والشخصيات الدينية، بالأخص الشيعية، فصار العراقيون، وبتأثير تلك الثقافة، ينظرون إلى العهد الملكي كنظام معادي للشعب، وعميل للاستعمار البريطاني والأمريكي، لذلك صارت عندهم إزالته من أقدس الواجبات الوطنية!
 
وبسبب هذه الثقافة المتشبعة بالمثالية المفرطة، حُرِّمَ العهد الملكي من أي استقرار، حيث واجه الانتفاضات الشعبية، والوثبات الوطنية، والانقلابات العسكرية، الناجحة والفاشلة، إلى أن تكللت نضالات الشعب بثورة 14 تموز عام 1958، التي بدأت كانقلاب عسكري، ولكن بعد أقل من ساعة خرجت جماهير الشعب من أقصى العراق إلى أقصاه في تظاهرات جماهيرية صاخبة مؤيدة بمنتهى الحماس، فأحالت الانقلاب العسكري إلى ثورة شعبية حقيقية، وهذه التظاهرات المليونية كانت عبارة عن تصويت على شرعية الثورة وقيادتها. 
 
ولحسن حظ الشعب العراقي أن قائد الثورة، الزعيم عبدالكريم قاسم، كان في منتهى الوطنية والعقلانية والرحمة، وضد العنف، وشكل الحكومة من الأحزاب الوطنية، ولكن مع ذلك، لم يستمر شهر العسل بين تلك القوى وقيادة الثورة أكثر من سنة، حتى وبدت المثاليات والأحلام الطوباوية تلعب دورها المدمر في تمزيق القوى السياسية، ومناهضتها لحكومة الثورة، لأن الأخيرة لم تكن "مثالية" بما فيه الكفاية، وحسب مواصفاتهم الأيديولوجية. فرغم أن الثورة حققت للعراق مكاسب كبيرة لا تُقدَّر خلال أربع سنوات ونصف السنة من عمرها القصير بما يعادل ضعف ما حققه العهد الملكي خلال أربعة عقود، وكان الزعيم قد هيأ لكتابة الدستور الدائم، وإجراء انتخابات برلمانية، لافتتاح البرلمان في الذكرى الخامسة للثورة، كما وبذل الزعيم قصارى جهوده لمنع أعمال العنف الجماهيري، وحذرهم من مغبته وعواقبه، ودعى القوى السياسية إلى وحدة الصف، وحماية مكتسبات الثورة، إلا إن كلماته وقعت على أذن صماء، فنجحت جهود أعدائهم في اغتيال الثورة وقيادتها الوطنية المخلصة. وهكذا دمروا الجيد الممكن لأنه في رأيهم دون المثاليات التي لا يمكن تحقيقها إلا في خيالات الطوباويين الحالمين.
 
ولكن هل كانت مثاليات هؤلاء السياسيين العراقيين موحدة ومتجانسة؟ الجواب كلا، فلكل فئة مثاليتها الخاصة بها، ومتضاربة مع مثاليات الفئات الأخرى. فمثالية القوميين العروبيين والبعثيين كانت تعني إلغاء الجمهورية العراقية، و ضمها إلى الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، وهم يرددون (وحدة ما يغلبها غلاب)، أما مثاليات الشيوعيين فكانت (حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي)، و مثاليات الإسلاميين، وعلى ضعفهم حينئذ: (حكم إسلامي)، وتطبيق نظام (الحاكمية لله) السنية، ولم تكن نظرية (ولاية الفقيه) الشيعية معروفة بعد، ولكن المرجعية الشيعية أصدرت فتوى (الشيوعية كفر وإلحاد)، التي استهدفوا بها حكومة الثورة لأنها أصدرت قانون الأحوال الشخصية التقدمي الذي أنصف المرأة. ونتيجة لهذه المثاليات، خسر العراقيون أشرف قيادة وطنية نزيهة، لأشرف ثورة تقدمية واعدة بالخير، وأدخلوا العراق في نفق مظلم منذ انقلابهم يوم 8 شباط 1963 ولم يخرج منه إلى الآن، و أسوأه هو عهد البعث الصدامي الذي دمر العراق وأذلَّ العراقيين. 
 
والكارثة، أنه لما توافرت للعراقيين مرة أخرى، فرصة تاريخية نادرة عام 2003، على يد قوات المجتمع الدولي بقيادة الدولة العظمى، لخلاص الشعب من حكم البعث الفاشي الجائر، وإقامة النظام الديمقراطي دون عزل أي مكون من مكونات الشعب، وكالعادة، انشق العراقيون على أنفسهم في  صراعات دموية من أجل المصالح الفئوية، وهم مصرون على تدمير كل ما تحقق لهم من نظام ديمقراطي، لأن البعض منهم يرى أن النظام الجديد هو دون مستوى ما في الدول الديمقراطية العريقة في الغرب، وآخرون يريدون العودة إلى الدكتاتورية المقبورة. نسي هؤلاء أن النظام الديمقراطي لم يولد في أي بلد متكاملاً، بل ينمو مع تطور الشعب(5). وهكذا، بدلاً من القبول بالممكن، والعمل على دعم الوليد الجديد ورعايته، وتطويره، وتكامله نحو الأفضل، نراهم يبذلون قصارى جهودهم لتدمير كل ما تحقق لهم، وجر العراق إلى المربع الأول، أي العودة إلى الدكتاتورية الطائفية والعنصرية، وإغراق البلاد والعباد في مزيد من الدماء والدموع، والمقابر الجماعية، وكم الأفواه، وتشريد المزيد من العراقيين. فمتى نتعلم من أخطائنا؟
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع