الأقباط متحدون - ملاحظات على خطاب التنحى لناصر
  • ١٥:٥٨
  • السبت , ٩ يونيو ٢٠١٨
English version

ملاحظات على خطاب التنحى لناصر

مقالات مختارة | سامح جميل

٣٥: ٠٨ ص +02:00 EET

السبت ٩ يونيو ٢٠١٨

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

التقى هيكل بناصر بدا له وكأنه “أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل، كان مرهقًا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل”. أخذا يتحدثان طويلًا في تفاصيل الخطاب وبالذات في نقطة اختيار شمس بدران خليفة لعبد الناصر، وهو اختيار يشعر كل من يقرأه بأنه ملغز، خصوصًا حين يأتي عقب هزيمة كان شمس بدران واحدًا من صناعها، لكن هيكل في هذه النقطة لا يفصح عن الكثير، ليساهم في إضفاء هالات الغموض على شمس بدران التي لم يتم إزاحتها حتى الآن، على أية حال انتهت المناقشة الطويلة بأن أصبح زكريا محيي الدين هو المرشح البديل، خاصة أنه كما قال ناصر “مقبول دوليًا.. وقادر على الحوار مع الأمريكان”.

بعدها، اختلف ناصر وهيكل على نص عبارة في الخطاب، كانت هي أهم العبارات فيه وربما هي أشهر عبارة في الخطاب بعد ذلك، وهي عبارة كانت صيغتها الأولى تقول: “وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي من الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسؤولية”، واعترض ناصر مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية كلها، وهنا يعلق هيكل: “ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة على الفور فجعلتها كالآتي: “إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها”، وكان تعليق ناصر على هذه الصياغة الجديدة: “تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم”. حمل هيكل خطاب التنحي، وعَبَر الشارع إلى مكتب سامي شرف لتتم كتابته على الآلة الكاتبة، أصابت سامي حالة من الهستيريا عندما قرأ عبارة “التنحي تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي”، نفس الحالة أصابت موظف الآلة الكاتبة الذي أجهش بالبكاء وهو يكتب الخطاب، وبالتأكيد لم يكن خافيًا على هيكل -وهو من هو دهاء وحنكة- أن الأثر الشعبي الذي سيسببه الخطاب سيكون أقوى بكثير من هستيريا سامي وبكاء موظف الآلة الكاتبة.

عاد هيكل بعدها إلى ناصر، ودار بينهما حوار طويل عن الساعات القادمة، وما سيحدث فيها، والأيام الماضية وما حدث فيها، وسنقتبس بعض العبارات التي وردت في الحوار كالآتي، مع التنبيه على أن ما يرويه هيكل لم يشهده أحد غيره، مما يجعل لك الخيار في تصديقه كما جاء، أو إنكاره كاملًا دون الالتفات إليه، أو تأمله في ضوء حساسية الموقف المحيطة بالحوار لاختيار ما يوافق عقلك وتفكيرك:

“ناصر: لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم.. لهم الحق.

هيكل -بارعًا في دور المبرر والمنظر كعادته-: ليس هناك ضرورة لأن تدفع مشاعرك إلى هذه الدرجة، فما حدث لك شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ، واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر على القيام منها بقواه الذاتية.

ناصر: إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي، سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسؤولية، والله يعلم أنني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس”.

بعدها طلب ناصر من هيكل أن يحضر معه إلقاء الخطاب فاعتذر، تبادلا المشاعر الطيبة عن الصداقة التي جمعت بينهما، ودار بينهما حوار دعونا نضع شكلًا له طبقًا لما أورده هيكل – مع بعض الاختزال.

“ناصر: أعرف إلى آخر العمر أن لي أخًا.

هيكل “مقاطعا”: لا داعي لأن نقع فيما نهينا أنفسنا عنه فنسلم أنفسنا للانفعالات، وأنا سعيد بما أديته إلى جانبك من دور، وقد خدمت فيه بلدي بما أستطيع.
ناصر: خدمتك للبلد لم تنته بعد. مازالت أمامك خدمة أرجو أن تؤديها، أنا بعد إلقاء خطابي سأدخل إلى غرفتي وأعزل نفسي تمامًا عن العالم، وقد تثور مشاكل ومضاعفات، وكل ما أطلبه منك أن تكون في هذه الليلة مسؤولًا عن أي شيء يذاع أو يقال باسمي أو نيابة عني، حتى يتمكن زكريا محيي الدين من حلف اليمين غدًا. أنا أعرف أن علاقتك بزكريا طيبة.

هيكل: أنا لا أنوي أن أكرر دوري بجانبك مع أي رجل آخر، ولكني سأقبل تكليفك لدقة الظروف”.

“ينهض هيكل ثم ينهض ناصر، يسلمان على بعض”، وهنا يقول هيكل: “ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي، واستدرت خارجًا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يرى دمعة أخرى في عيني”.

بعد ساعات، كان الشعب المصري والشعوب العربية على موعد مع مشهد أكثر درامية ومأساوية من المشهد السابق، وهو مشهد عبد الناصر وهو يلقي خطابه على مدى ثلث ساعة، صمت الملايين فيها صمت الموتى، وتأكد لمن كانوا لا يزالون يغلبون الأمل على اليأس أن الهزيمة قد وقعت، وأن البطل الهمام قرر أن يترك المركب واختار من سيحكمهم بدلًا منه، وبعد انتهاء الخطاب تبدد الصمت شيئًا فشيئًا، ليعلو صوت البكاء الذي تحول تدريجيًا إلى نشيج مكتوم، ثم إلى عويل، ثم إلى صراخ يطلق هتافات تقول: “ناصر.. ناصر.. كلنا عايزين ناصر”.

ثمة شهادات منشورة تقول إن ما حدث وقتها كان مدبرًا من قبل قادة الاتحاد الاشتراكي: أحد رموز الإخوان المستشار علي جريشة، يحكي أنه كان في السجن وقال له سجان إنه تعبان جدًا؛ لأنهم أعطوه ملابس مدنية، وقالوا له أن يشترك في مظاهرات مدبرة؛ الفريق عبد المحسن مرتجي يؤكد ذلك أيضًا، ولكن رأيه كان بناء على انطباع وليس مستندًا إلى معلومات، هناك حديث عن قيام الاتحاد الاشتراكي بتوفير أتوبيسات في اليوم الثاني من المظاهرات، وليس في اليوم الأول، حين سألت الكاتب الكبير محمد عودة ونقلت له هذا الكلام لكي يعلق عليه، أجاب بحماس شديد “مين المخرج العظيم اللي هيطلع الشعب المصري كده؟، طب هل الاتحاد الاشتراكي هو اللي طلع برضه الشعب الجزائري والتونسي واليمني في مظاهرات ضد التنحي، هل هو اللي أقنع أكبر معلق سياسي في الغرب دويتشر إنه يقول: لأول مرة يخرج شعب مباشرة ليصنع التاريخ بنفسه وليعيد زعيمًا مهزومًا. أنا يوم التنحي خرجت في هذه المظاهرات ورأيت شرائح عمري ما شفتها في حياتي، في الدقي والزمالك الستات خرجوا بهدوم البيت، ببساطة ودون أي مبالغة، عبد الناصر كان يمثل الاستقرار والناس بيقولوا له احنا عارفين إنك غلطت، ولكن أنت القائد اللي احنا بنثق فيه ونقف معاه ساعة المحنة”.

من أهم الشهادات التي تثبت براءة المظاهرات من التدبير، شهادة حسن طلعت مدير المباحث العامة الذي يكشف في مذكراته، أنه فوجئ بأمر المظاهرات، ولأن لديه أوامر بقمع أي مظاهرة بغض النظر عما تتظاهر من أجله، شعر بالحيرة وحاول الرجوع إلى رئيسه المباشر وزير الداخلية شعراوي جمعة، فرفض شعراوي أن يرد عليه، كعادة المسؤولين في لحظات الأزمات؛ ولذلك اتخذ حسن طلعت بمبادرة فردية قرار عدم الاصطدام بالمظاهرات، ولولا ذلك لحدثت كارثة محققة خاصة أن المئات من مسؤولي الأمن الذين يرفعون شعار “سلومة الأقرع مايعرفش أبوه ولا أمه”، كانوا يتصلون به ليسألوا في إلحاح عن الطريقة التي سيتعاملون بها مع المظاهرات.

في تلك الفترة أيضًا كان الدكتور حسين كامل بهاء الدين، الذي ظل لسنوات طويلة وزير تعليم حسني مبارك، قائدًا لمنظمة الشباب التي أنشأها عبد الناصر لتكون ذراعه السياسي وسط الشباب، وفور إعلان خطاب التنحي، ذهب إلى مكتب المعلومات المواجه لبيت عبد الناصر، وكان في حالة عصبية شديدة، وقال بصوت عال لموظفي المكتب إن 30 ألف شاب من أعضاء منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبد الناصر لإثنائه عن قرار التنحي، وهو تهديد لو أطلقه في ظروف أخرى، لكان مرميًا في زنزانة انفرادية في السجن الحربي، لكنه تهديد يكشف عن عدم وجود تواصل قيادي معه للأمر بإخراج الشباب، وإلا لكان قد فعل ذلك فورًا قبل التلويح به.

وأنا أبحث في الكتب والمذكرات التي تناولت تلك الفترة، فوجئت بأن الدكتور عبد العظيم رمضان المعروف بعدائه الشديد للناصرية، يرد بقوة على اتهام مظاهرات التنحي بأنها كانت مدبرة، ويقول في كتابه (تحطيم الآلهة) إن ذلك الاتهام مهين جدًا للشعب المصري؛ حيث يصوره أنه شعب يساق كالأغنام فقط، نافيًا أن يكون الاتحاد الاشتراكي قادرًا على تدبير مظاهرات ضخمة كهذه؛ لأنه في الواقع لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير تمكنه من أداء هذا الدور الضخم، وحين تمت الإطاحة بقياداته في مايو 1971، لم يستطيعوا إخراج تلميذ واحد في مدرسة لمساندتهم ضد السادات.

من ناحية أخرى، لم يكن غريبًا أن أجد في صحف اليوم التالي لمظاهرات التنحي سيلًا من المقالات التي ترفض القرار وتناشد عبد الناصر بالرجوع عنه، لكن ما لفت انتباهي هو بعض ردود الأفعال لأشخاص عرفوا فيما بعد بمهاجمة عبد الناصر بشراسة، ولم يذكر أحد منهم موقفه عقب التنحي، ولو على سبيل المراجعة الذاتية، خذ عندك مثلًا موسى صبري الذي كتب يصف الجماهير التي شاركت في مظاهرات التنحي بأنها: “جماهير شاء لها القدر أن تعيش لأول مرة في تاريخ مصر منحة السماء لها في حاكم مصري ابن مصري”، وكتب أنيس منصور يسأل: “كيف للراعي أن يتخلي عن رعيته المؤمنة به؟”، وكتب جلال دويدار يعلن أنه حين كان يعيش في الخارج لم يكن مصريًا ولاعربيًا؛ بل كان يحمل جنسية ناصر..!!

بقى أن الشعب المصري في نهاية المطاف، لم يفوت الفرصة لوضع لمسة عبثية على الأمر برمته، بعد أن اطمأن إلى عودة عبد الناصر إلى الحكم، ليتحول شعار “لا تتنحى لا تتنحى”، إلى شعار ساخر هو “أحه أحه لا تتنحى”، والذي ربما كان يعبر برغم بذاءته، عن معنى شديد الصدق والواقعية، وهو رفض الشعب لأن يتخلى عن مسؤولية الهزيمة من كان سببًا في وقوعها، وأن عليه أن يبقى ليصلح ما أفسدت يداه، وحين أدرك الشعب المصري صدق عبد الناصر في محو آثار الهزيمة، كما بدا عقب الإطاحة بعبد الحكيم عامر ورجاله، وإعادة بناء الجيش المصري، تجاوز الناس لحظة الهزيمة التي كان يمكن أن تشل حركتهم لسنين، وبدأت ملحمة حرب الاستنزاف التي تم تغييب الكثير من بطولاتها حتى الآن، لكن خروجهم التالي في المظاهرات التي أعقبت الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران لم يكن تأييدًا ولا تهليلًا، بل كان غضبًا من تحميل الهزيمة لمن ليس مسؤولًا عنها، وهو ما أزعج عبد الناصر كثيرًا، وأشعره أن لحظة “لا تتنحى”، كانت مجرد لحظة استثنائية خرجت في توقيت حرج، ولن تتكرر ثانية؛ ولذلك فقد تعامل مع مظاهرات الطلبة بالذات بعصبية شديدة، وصلت إلى حد أنه طلب في لحظة انفعال ضرب تلك المظاهرات بالطيران، طبقًا لشهادة وثقها الدكتور هشام السلاموني في كتابه (الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات)، ومن يدري ربما كان عبد الناصر في تلك اللحظة بالذات، يفكر في أن غضب المصريين على أي هزيمة قادمة، ربما انتهى بمصير الشنق في ميدان التحرير...!!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع