المصريون
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الاثنين ٤ يونيو ٢٠١٨
سأحكى لكم ثلاثَ حكاياتٍ حقيقيةً حدثت معى، فى مصرَ، وخارجها. ولا يَظُنَّن أحدٌ أننى، بحكاياى الثلاث، أودُّ الردَّ على السيدة اللبنانية التى «حاولت» إهانةَ مصرَ والمصريين فى ذلك الفيديو الشهير الذى تلفّظتْ فيه بمعجمٍ لا يليقُ بإنسان متحضّر. لا أردُّ عليها؛ ليس فقط لأن مصرَ ليست بحاجة إلى مَن يذود عنها؛ وقد ذادت هى بعراقتها عن الأمم والحضارات، بل لإيمانى بأن تلك السيدة لم تُهِن مصرَ، وإن حاولتْ. فلا أحدَ قادرٌ على أن يُهين أحدًا، إلا نفسَه. المرءُ يهينُ نفسَه إن تدَّنى فى القول أو فى الفعل، كما فعلت الأختُ اللبنانية حين أهانت نفسَها وأساءت إلى بلدها بفاحش القول، وكذلك كما يفعلُ بعضُ المصريين، فيسيئون لأنفسهم، وللوطن، للأسف. ولكن الأوطانَ دائمًا أعلى من سلوكات مواطنيها. وهذا يتأكد فى الحكايات التالية.
الحكاية الأولى: من المغرب الشقيق. قبل سنوات، كنتُ ضيفةً على إحدى الفضائيات وكان التصوير فى ستوديو بمدينة الرباط المغربية. كان الضيفُ المُناظِر لى هو الجهادى التكفيرى المغربى الشيخ «محمد الفزازى». وتاريخه معروف، إذ حُكم عليه بالسجن ثلاثين عامًا إثر تفجيرات الدار البيضاء ٢٠٠٣، وبعد سنوات فى المحبس، نال عفوًا ملكيًّا من الملك محمد السادس. فى خِضَّم المناظرة التليفزيونية، تطاول الشيخُ المغربى على مصر ولاك شرفَ بنات ثورتنا، واتهمهنّ بالفُحش. ماذا فعلتُ أنا؟ نهضتُ من مقعدى غاضبةً وأعلنتُ بحسمٍ أننى لن أُكملَ الحلقة إلا بعدما يعتذرُ الرجلُ ويسحب تطاوله على مصر والمصريين. وقلتُ بالحرف: «أنا أحترمُ بلادكم (المغرب)، ولن أخوض فى شرفه، مثلما تطاول هذا على شرف بلادى». هنا ضجَّ الجمهورُ المغربى بالتصفيق قائلا: «تحيا مصر».
الحكايةُ الثانية: من إحدى الدول العربية الشقيقة، التى كنتُ فى زيارتها مؤخرًا للمشاركة فى معرضها الدولى للكتاب. وحدث أن سُرقَ هاتفى من حقيبتى فى وضَح النهار. ماذا فعلتُ؟ كتبتُ مقالا قلتُ فيه إن هاتفى ربّما أحبَّ ذلك البلد حتى إنه رفض السفر معى وفضَّل البقاء هناك لإكمال رحلة التنزّه على شواطئها. ثم أثنيتُ على الشعب الشقيق وشكرت الشرطة التى حاولت مساعدتى.
فى الحكايتين السابقتين، حدث أن أساء لى نفرٌ من البلدين. لكننى لم أسبّ شعبَ هذا البلد، أو ذاك، ولم أُسئ للأرض التى بريئةٌ من سلوك ساكنيها. «التعميمُ» جريمةٌ فكرية، والإساءةُ للأوطان جريمةٌ أخلاقية.
وأما الحكاية الثالثة: فحدثتْ على أرض مصر الطيبة. قبل أسبوعين، غافلنى النومُ وأنا أقود سيارتى ليلا، بعد عودتى من حفل تكريمى فى أحد النوادى الخيرية. صدمتُ سيارةً من جانبها الأيمن. فنزل صاحبُها غاضبًا يرغى ويزبد. وبعدما فحص الرجلُ سيارتَه وتأكد أن مرآته قد تهشمت، جاءنى لينال منى. كنتُ أغالبُ النُعاسَ لسهرى عدة ليال فى مراجعة بروفة كتابى الجديد، وبالكاد أقوى على فتح عينى، وأقاوم ألا يسقط رأسى على عجلة القيادة. بمجرد أن نظر لى الرجل ولمس الإعياء الذى يُدثّرنى، لانت ملامحُه الغاضبةُ وبادرنى قائلا: «أنت بخير؟»، قلتُ له: «نعم. وأنا المخطئة سامحنى، وجاهزة بما تطلبه من تعويض». وللعجب وجدتُ الرجل يعتذر لى عن انفعاله لحظةَ الاصطدام، ثم قال: «المهم إنك بخير. مش مهم العربية. بس باين عليك الإجهاد وخطر تسوقى. ممكن تركنى سيارتك ونوصلك أنا وابنتى لبيتك».
هكذا المصريون. وقت الخطر وتهديد الحياة، ينسون المصالحَ الشخصية وينتصرون للحياة. لا أُبرّئ شعبى من الأخطاء التى تُشوّه صورتنا كمصريين فى عيون الشعوب الأخرى، لكننا فى الأخير شعبٌ طيبٌ وكريم ٌيظهر معدنُه النقى وقت المحن. وسوف نعود يومًا قريبًا إلى سالف عهدنا حين كان المخطئُ يجيدُ قول: «أنا آسف»!.
نقلا عن المصري اليوم