الأقباط متحدون - الكنيسة ... صراع أم مخاض ميلاد 19 ـ البابا شنودة الثالث ... سنوات عاصفة
  • ٠٢:٤٩
  • الاثنين , ٢٨ مايو ٢٠١٨
English version

الكنيسة ... صراع أم مخاض ميلاد 19 ـ البابا شنودة الثالث ... سنوات عاصفة

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٠٦: ٠٢ م +02:00 EET

الاثنين ٢٨ مايو ٢٠١٨

الكنيسة ... صراع أم مخاض ميلاد 19 ـ البابا شنودة الثالث ... سنوات عاصفة
الكنيسة ... صراع أم مخاض ميلاد 19 ـ البابا شنودة الثالث ... سنوات عاصفة

كمال زاخر
النصف الأخير من القرن العشرين، والعقدين الأولين من القرن الحادى والعشرين، جملة مرتبكة ممتدة، شهدت محاولات لبعث الكنيسة كانت تشبه الحمل خارج الرحم، وكانت منظومة مدارس الأحد، وقد انطلقت من منطلقات مشوشة وهجين، واحدة من الأسباب المؤثرة التى انتهت بنا الى حالة الإرتباك الحادثة الآن. وإن كانت فى مجملها واحدة من الآليات التى شكلت حائط سميك داعماً لبقاء الكنيسة.

لكن يبقى عنصر أكثر عراقة ورسوخاً، يمثل عصب الحياة للكنيسة والذى ابقاها على قيد الحياة حتى اللحظة؛ "الليتورجيا"، وفى قلبها "الإفخارستيا". وقد إختزنت فى ثناياها، إيمانها وترجمته فى صلواتها وممارساتها طقوساً وأصواماً وعبادة يومية، تنطلق من "كلمة الله" وتنتهى إليها، وبقدر ادراك الكنيسة لعمق ليتورجيتها تكون قوتها، ففيها تدرك سر تدبير الخلاص، وسر التجسد، الذى فيه نلنا شركة لا تنقضى فى الثالوث.

وظنى ان ثمة مخاض يعتمل فيها وهو لن يفضى الى ثورة او تصحيح آنى، لكنه ينبئ ببعث قادم وإن تأخر.

كانت أزمة دورة البعث الأولى، والتى تعرضنا لبعض من محطاتها قبلاً، هى نقطة الإنطلاق، والتى كانت تعانى من غياب المرجعيات الآبائية التى لم تكن متاحة بالعربية، وعندما وجدتها جاءت معربة عن لغات وسيطة بيننا وبين اليونانية التى كتبت بها، ومن الطبيعى أن تأتى الترجمة فى اللغة الوسيطة متأثرة بذهنية المترجم الأول وخلفياته، ومن الطبيعى ان تأتى الترجمة عنها الى العربية ناقلة ذلك التأثر، ومثالنا ما يمكن ان تكشفه المقاربة بين ترجمة كتاب "تجسد الكلمة" للقديس اثناسيوس الرسولى، والتى ترجمها الأستاذ حافظ داود، القمص مرقس داود، فى مستهل القرن العشرين، عن الإنجليزية وبين مثيلتها عن اليونانية لغة الكاتب التى كتب بها، وترجمها إلى العربية دكتور جوزيف موريس فلتس 2002.

كانت الساحة القبطية فى النصف الثانى من القرن العشرين تشهد انتشار الكتب المترجمة عن مؤلفين غربيين، وكانت المكتبات الأرثوذكسية تتولى طباعتها وتوزيعها، لعل أشهرها مكتبة المحبة، التى تبنت ترجمة ونشر وتوزيع سلسلة كتب القس الانجليكانى ماثيو هنرى (متى هنرى)، وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ف. ب. ماير، وقد اسهمت فى تشكل ذهنية أجيال متتابعة فى الكنيسة، بعضها حمل لواء التعليم فى الكنيسة عبر منظومة اجتماعاتها وعبر صفوف مدارس الأحد، وبعضها صار طرفاً فاعلاً فى مواجهات اليوم بين فرقاء الكنيسة.

ولا يمكن أن ندرك ونفهم جذور مواجهات اليوم، دون أن نقترب أكثر من حبرية الأنبا شنودة، أسقفاً وبطريركاً، وقد احتلت خمسة عقود متواصلة، وهو اقتراب محفوف بالمحاذير، فى مناخ قبطى مثخن بالجراح، ومازالت ندوبه لم تندمل بعد، وبعض جروحه غائرة، يتحسب لكل إضاءة تقترب من تلك المرحلة، الكنيسة والرجل والوطن والفعل السياسى، وقد شهد الفعل السياسى تحالفات لا يمكن أن تكون بريئة بين صاحب القرار السياسى وبين جماعات الإسلام السياسى، فى أيام الرئيس السادات وما يملكه من دهاء وخبرة العمل تحت الأرض، وخبرات الرجل الثانى الداهية الذى احتفظ بموقعه بالقرب من الرئيس عبد الناصر دون أن تطاله ما طال أقرانه الأقرب والأكثر حظوة وداله لدى ناصر، استبعاداً أو إقصاء أو حتى تصفية، مختلف عليها.

ذهب السادات بعد أن أصدر قراراته المفاجئة فى 5 سبتمبر 1981، والتى اربكت مصر فى مجملها، كان ابرزها قرارات الإعتقالات التى تضم كل التيارات على تناقضها، فجمعت ما يمكن أن نحسبه رموز كل التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولأول مرة ـ على الأقل فى التاريخ المعاصر ـ تمتد يد البطش إلى آباء اساقفة وقسوس، كان المجتمع المصرى بجملته، قبل أن تغشاه رياح التطرف، يرى فى مواقعهم سياجات تحميهم من الزج بهم خلف الأسوار، وكان قرار عزل البابا بحسب تعبير الأنبا غريغوريوس فى كلمته أمام الرئيس السادات حين استدعاه للقصر الجمهورى ( الثلاثاء 15 سيتمبر 1981.) ضمن اللجنة الخماسية التى شكلها الرئيس ـ ضمن قراراته تلك "للقيام بالمهام البابوية"، كان القرار (*) "ضربة على الرأس مؤلمة أشد الإيلام، لها دوى هائل على المستويين المحلى والعالمى. ولقد أثارت ردود فعل قوية."، ويأتى رد السادات تعقيباً على هذه الجملة "حقاً كما تفضلتم إنها ضربة على الرأس ولكننى كنت مضطراً إلى ذلك إذ لم يكن ممكناً أن أصبر على الفتنة الطائفية التى استشرت وكادت مصر كلها أن تحترق بها، فلم يكن مفرِّ من عمل شئ لإنقاذ الدولة كلها مما كان مدبراً لها"، واستطرد الرئيس "على أننى لم أمس وضعه الدينى والكنسى، فأنا أعلم تقاليدكم، ولكننى استخدمت حقى كرئيس للدولة فى إلغاء القرار الذى أصدرته فى سنة 1971 بتعيينه طبقاً للدستور" ثم عقب بالقول "أعلم أنه فى حالة غياب البطريرك يتولى قائمقام أعمال البطريرك فأنا عينت لا شخصاً واحداً وإنما لجنة خماسية حتى تتولى كل الأشياء، لأنه يهمنى أن لا تتعطل أعمال الكنيسة"!.( للتعرف على المزيد راجع "موسوعة الأنبا غريغوريوس الكتاب 40 : السيرة الذاتية الجزء الثالث ؛ من اللجنة الخماسية حتى نياحته" إعداد الإكليريكى منير عطية إصدار جمعية اأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى.)
::::::::::::::::::::::::::

(*) قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بتاريخ 2 سبتمبر 1981، والذى يقضى فى مادته الأولى بإلغاء قرار رئيس الجمهورية رقم 2 / 27 لسنة 1971 بشأن تعيين الأنبا شنودة بابا للإسكندرية وبطريكاً للكرازة المرقسية، بينما تنص مادته الثانية على تشكيل لجنة للقيام بالمهام البابوية من الأساقفة : ـ الأنبا مكسيموس أسقف القليوبية، ـ الأنبا صموئيل أسفف الخدمات العامة وكنائس المهجر، ـ الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى والدراسات القبطية ومدير المعهد العالى للدراسات القبطية، ـ الأنبا أثناسيوس أسقف بنى سويف والبهنسا، ـ الأنبا يؤأنس أسقف الغربية وسكرتير المجمع المقدس.
::::::::::::::::::::::::::

اللافت فى هذ السياق ما يرد على لسان الأستاذ عدلى عبد الشهيد، المحامى القبطى المقرب من الرئيس السادات ووزير الهجرة فيما بعد، فى حديثه فى لقاء جمعه عقب الأزمة مع بعض القيادات القبطية، ينقلها الأنبا غريغوريوس فى مذكراته، قال "إن جلسة المجمع المقدس وجلسة المجلس الملِّى العام نُقلا إلى الرئاسة بكل تفاصيلها، وعرف ـ الرئيس ـ ما قاله كل عضو فى المجمع والمجلس" ولم يذكر كيف انتقلت التفاصيل، هل من خلال أجهزة تنصت زُرعت بمقريهما، أم بواسطة شخوص تم استمالتهم أو ربما تجنيدهم؟!.(راجع فى ذلك موسوعة انبا غريغوريوس كتاب 40 ص 20)

يأتى الرئيس مبارك فى هذه الأجواء التى تصاعد ارتباكها باغتيال السادات، ويبقى الحال بالنسبة لقداسة البابا على ما هو عليه، لسنوات ثلاث، حتى يصدر قراراً جمهورياً بعودة البابا الى كرسيه، وبحسب رواية الأستاذ موريس صادق المحامى القبطى المقيم ـ حالياً ـ بالولايات المتحدة " يقول: "استدعاني في وقتها ـ عقب الردود الغاضبة بالداخل ومن أقباط المهجر بالخارج ـ الدكتور رفعت المحجوب، وعدلي عبد الشهيد وكان وزير الهجره في ذلك الوقت، والدكتور عاطف صدقي وقالوا لي ان سيادة الرئيس موافق علي عودة قداسة البابا الي كرسيه البابوي، ولكن هناك شرط مطلوب من قداسة البابا هذا الشرط هو أي امر يخص الاقباط باعتباره الرئيس الروحي فقط فليس له الحق ان يعترض لأن الاقباط هم مسؤلية الحكومه والرئيس . فاعترضتُ علي هذا الكلام وكان معى ممدوح رمزي المحامي واعترض هو الاخر علي الشرط .

ولكن تم الاتصال بقداسة البابا، وقداسة البابا وافق علي هذا الشرط، وفي اليوم التالي سافر الوزير عدلي عبد الشهيد الي دير وادي النطرون، ووقع قداسة البابا علي القرار وعلى وتحفظ رئاسة الجمهوريه .

وصدر قرار رئيس الجمهورية ونصه :
رئيس الجمهورية بعد الاطلاع علي الدستور وعلي قرار رئيس الجمهورية رقم 2782 لسنة 1971 بتعيين بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازه المرقسية، وعلي قرار رئيس الجمهورية رقم 491 لسنة 1981 بالغاء قرار رئيس الجمهورية السابق ذكره.

وبناء علي ما عرضه علينا وزير الداخلية قرر :
1. يعاد تعيين الانبا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازه المرقسية.

2. علي وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار.

3. صدر من رئاسة الجمهورية في 11 ربيع الثاني 1405 هـ ،3 يناير 1985م .

("موريس صادق يكشف صفقة شنودة ومبارك عقب مقتل السادات" ـ تحقيق الصحفية لوتس كيوان، جريدة صوت الأمة 24 / 10 / 2009.)
::::::::::::::::::::::::::::::::::

عاد البابا إلى كرسيه، لكن شرخاً عميقاً قد أصابه، فقد أدرك السادات ما تمثله أدوات الإتصال الجماهيرى لقداسة البابا فتضمنت قراراته السبتمبرية منع اجتماعه الإسبوعى وعدم اصدار مجلة الكرازة، وكانت هناك نعليمات أمنية بمغادرة البابا لمقر كرسيه بالقاهرة قبيل إعلان تلك القرارات ليستقر خلف اسوار دير الأنبا بيشوى بصحراء وادى النطرون، لتتحول المنطقة المحيطة به إلى ثكنة أمنية تحول الدير إلى شبه معتقل. وتشهد سنوات الإعتقال تحولاً فى قراءة الرجل للأمور، ووساطات لإنهاء "التحفظ" المسمى الذى تم ترويجه للاعتقال الفعلى، ويلجأ البابا للقضاء الإدارى طعناً على القرار، لكن المحكمة تنتهى إلى تأييد قرار العزل واجراءات التحفظ.

كان التحفظ بسنواته الثلاث مرحلة فاصلة مؤثرة انعكست آثارها على ما بعدها،(1985 ـ 2012)، وتحصن البابا بالعديد من الأساقفة الشباب ليكونوا حائط صد فى مواجهة التحديات التى احاطته، ولم يلتفت إلى نصيحة السادات له فى مرحلة المواجهات الباردة التى شهدتها سنوات ما قبل الصدام حين قال فى واحدة من خطبه مشيراً إلى دائرة الأساقفة المحيطة بالبابا "بَيِّض لحاهم". والسؤال هل دفع البابا فاتورة حراك هؤلاء الشباب بعد انفرادهم دون الشيوخ بدائرة المستشارين الثقاة؟!.

ما بين أحلام نظير جيد وانطلاقات الأنبا شنودة فى اسقفية التعليم وسنوات باباويته الأولى، وانفراده بالقرار، وتقلبات العلاقة مع السادات، وسنوات التحفظ العجاف، والعودة المشروطة للكرسى، كانت قضية التعليم تتراجع، وكان الأساقفة الشباب يحكمون غلق دائرة البابا، لتشهد السنوات العشر الأخيرة صراعات بينهم سعياً لاحتلال المقعد المجاور لقلبه وأذنه، ويقفز الأنبا بيشوى إلى مقدمة المشهد، ويصبح العصا الغليظة فى يد البابا، "لتأديب" قائمة ممتدة من الإكليروس، خاصة أولئك الذين يملكون منابر جماهيرية، لتشهد الكنيسة سلسلة من المحاكمات الكنسية يقودها هذا الأسقف، بغير قواعد قانونية محددة بل استناداً إلى تقديراته الشخصية، وكانت إحالة ملف أحد الكهنة إليه تشبه إحالة أوراق متهم إلى فضيلة المفتى، توطئة لصدور حكم إعدام بحقه، (راجع مجلة مدارس الأحد سنوات 1992 ـ 1994 والتى تعرضت لملف المحاكمات الكنسية والعديد من الملفات الساخنة المتعلقة بتدبير الكنيسة).

ويقفز الأسقف خطوة فيترقى إلى رتبة المطران، ويحتل موقع سكرتير المجمع المقدس لخمس دورات متتالية منذ عودة البابا من منفاه وحتى نياحته، ويدفع بتلميذه الراهب القمص ارميا ـ من دير مار مينا بمريوط ـ إلى سكرتارية البابا، لمزاحمة الأنبا يؤانس السكرتير الأثير لدى البابا، وسرعان ما يرسم هذا القس اسقفاً عاماً ويثبت موقعه فى السكرتارية، وتشكل العلاقة بينهما ـ المطران العتيد والأسقف الطموح ـ واحدة من مفاتيح فهم مرحلة ما بعد عودة البابا شنودة من التحفظ وحتى اللحظة، ويمثلون رأسا حربة الحرس القديم، فى مواجهة البابا تواضروس الثانى الذى جاء خلفاً للمتنيح قداسة البابا شنودة الثالث. ويدعمهم بعض من مطارنة واساقفة وكتائب الكترونية تحتشد فى فضاء العالم الإفتراضى، وبعضاً من المواقع التى تعمل لحسابهم. فى مواجهة تيار الإحياء الآبائى، وينتج عنهم ما يغشانا من صراعات ومواجهات بين الفرقاء.

فى هذا السياق يقفز الأنبا ارميا إلى ادارة المركز الثقافى القبطى الذى يتحول إلى غرفة عمليات وخلية نشطة يحتلها الغموض، ويسعى ليصبح واحداً من مراكز صنع القرار وتوجيهه، ويمد تواصله إلى مؤسسات خارج الكنيسة تثير الكثير من علامات الإستفهام، والتى سنحاول البحث عن اجاباتها فى مقالنا القادم "البابا تواضروس ... طموحات ومتاريس".

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع