ابن العاص.. ومصر الضيعة (2)
مقالات مختارة | عادل نعمان
الجمعة ٢٥ مايو ٢٠١٨
الكثير من الخلفاء والولاة لم يفرقوا بين المال العام ومالهم، فكان الواحد منهم قائما على مال الله وعلى ماله وكأنهما شىء واحد، فهذا بيت مال المسلمين فى يد عثمان يغدق منه على أرحامه، وفى يد معاوية يعتبره هبة الله، يهب من بنى أمية ما يشاء، وهذا الوليد بن عقبة فى الكوفة يغرف منه كما يريد، وهذا ابن عباس فى البصرة يحمل منه الجمال فى خفارة أقربائه هاربا إلى حمى مكة، وهذا أبوهريرة يعزله عمر من ولاية البحرين، بعد ما عرف وسمع عنه، وهذا عمرو بن العاص فى مصر الضيعة، لا يفيق إلا لحظة الموت على تلال الذهب التى اختصها لنفسه، ساعتها أحس أنها هباء منثور، وإياك أن تقول إن هؤلاء كانوا لا يعرفون الحد الفاصل بين الحلال فى مال الله وحرامه، فهذه حكمة تتوارثها الأديان «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، إلا أن شبهة الظلم فى جمع هذا المال قد جرأت هؤلاء عليه، وجعلته سهلا فى النهب كما كان سهلا فى الاستلاب!!
ولم يكن العزل من الولاية إلا بسبب التقصير فى جمع الخراج أو الجزية، ولقد عزل عثمان بن عفان،عمرو بن العاص من ولاية مصر الضيعة، لتقصيره فى جمع ما يريده ويأمله منه، وكان أكثر مما كان مقدرا، وما يتحمله أهلها. فقد عزله عثمان وكان يجمع من الضيعة أربعة عشر مليون دينار ضريبة الرؤوس فقط، ويرسلها للخليفة توزع على المتثاقلين والمتكاسلين فى المدينة، ولما عين عبدالله بن أبى السرح أمر الضيعة، جمع من أهلها أربعة أضعاف ما كان يجمعه عمرو، فلما عاير عثمان عمرو بما تفوق عليه ابن أبى السرح فيما جمعه من المال، وقال له «درت ألبانها» رد عليه عمرو «ذاك بما أعجفتم أولادها».
فلما تولاها فى عهد معاوية ورد إليه اعتباره، أوقف معاوية الضيعة كاملة وأهلها له، يجمع ما يقدر عليه، واشترط له ألا يرسل منها أموالا إلى الخليفة فى دمشق، فلما احتاج معاوية من ضيعة مصر أموالا لسداد رواتب الجند واحتياجات الخلافة وعطايا القرشيين، فى عام قل فيه الخراج وعزت فيه الجباية، وأرسل يطلب منه الغوث والنجدة، ويعطيه بعضا من خراج ضيعته، لم يفعل ولم يستجب أو يلب، وذكره بالشرط الذى اشترطه عليه: «وما نلتها عفوا ولكن شرطتها» ولم يفعل معه ما فعله حين أغاث الخليفة عمر فى عام الرمادة، وأرسل له قوافل المدد أولها فى قصره فى مصر وآخرها فى قصر الخليفة بالمدينة، وأسرها معاوية فى نفسه، واختزنها لعمرو، ولما مات صادر أمواله كلها، وعرف المسلمون من يومها فكرة المصادرة، فالعلاقة قد بنيت على المصلحة والمنفعة، حين طلبها عمرو كانت بمقابل، وحين مات صادر هذا المقابل وانتزع ما جمعه من أموال وقال «نحن نأخذه بما فيه»، بما فيه من سحت وظلم، ولم يكن هذا القرار إلا إيمانا ويقينا بعدم أحقيته فيما جمعه، ولماذا تركه يجمع كل هذا دون حق؟، هى المظالم المشتركة فى جمع كل هذه الأموال فى دولة الخلافة، والكل فيما يصنعون سواء.
أما عن ثروة عمرو الذى كان يعمل جزارا قبل الخلافة، فكانت كما جاءت فى بعض الروايات مائة وأربعين إردبا، أو مائتين وعشرة قناطير، أى حوالى ثلاثة أطنان من الذهب، غير الفضة والضياع والقصور، ومنها ضيعة «الوهط» بالطائف. السؤال: هل أحرق عمرو بن العاص مكتبة الإسكندرية؟.. المقريزى، وابن النديم وابن خلدون يرجحون حرقه مكتبة الإسكندرية، حين أرسل عمرو إلى الخليفة عمر يستفتيه فيها فرد عليه بكتاب «وأما ما ذكره من الكتب فإذا كان فيها ما يتعلق بكتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا إرب لنا فيه فأحرقها»، ووزعت الكتب على حمامات الإسكندرية لحرقها والتدفئة بها لمدة ستة أشهر، والمؤيدون لهذا الرأى يستندون إلى أن سلوك هؤلاء سلوك واحد، فإن سعد بن أبى وقاص حين راسل الخليفة عمر حول مكتبة الفرس، أمره بإلقائها فى الماء أو النار، ومؤرخون ينكرون على العرب هذا، فهم أهل حضارة وقراءة، والحق لم يكونوا يوما كذلك. الأسبوع المقبل.
نقلا عن المصري اليوم