رمضان.. والكرتونة
مقالات مختارة | عادل نعمان
الثلاثاء ١٥ مايو ٢٠١٨
رمضان شهر المسلسلات، وموائد الإفطار الرمضانية، وخيام الشيش والسحور، وكرتونة إفطار الصائمين، ولقد اتخذ المسلمون صوم رمضان دافعا للكسل والتراخي والإعياء، ومبررا لقلة الإنتاج ومضاعفة الاستهلاك عشرات متساويات، وحجة لقلة النوم وكثرة السهر والسهو، وذريعة للإبطاء والإهمال.. كل ما سبق وغيره يأتي في المقدمة، وما تبقى وفاض عند الناس تركوه للصيام نفسه، وهو الأصل، ويستحق أن يسبق كل هذا.
وكرتونة رمضان من الصلصة والمكرونة والزيت والسكر والشاي والفول والعدس والسمن الصناعي، كلها مفردات من الفلكلور الحديث، وتراث شعبي متجدد، بدأنا توريثه منذ نصف قرن على أنه شكل وتواجد للإسلام السياسي يظهر فيه سيطرته وسطوته وهيمنته على أذهان ومقدرات ومصائر العباد، بدأناها بجنيهات قليلة وأصناف محدودة، وصلت إلى عشرات الأصناف والأشكال والألوان ،وأتصور أنه بعد سنوات قليلة سيكون أصلا من الأصول، ومقدسا من المقدسات، نذود عنه، ونقاتل، ونجاهد من أجله، إذا هم أحد وطالب بتعديلها أو طالب بإلغائها، أو حذف صنفا من الأصناف المعهودة والمعروفة كالصلصة أو الزيت مثلا، فسيواجه بتهمة هدم ثابت من الثوابت، وأصل من الأصول، أو إنكار صنف من الأصناف الرمضانية المعلومة من الشهر الفضيل بالضرورة، أو اتهم بالكفر والزندقة، وكثير من هذا الكثير، ولا أتصور أن رمضان بغير هذا التقليد سيكون (شوال أو رجب)، بل سيكون (رمضان)، لكن فقط دون كرتونة، ولست في هذا ضد فكرة التلاحم والتكافل بين الناس، أو صلة القربى والرحم، أو التراحم والتعاطف بين العباد، والأصل في كل هذا هو استمرار العمل بهذا في شهر رمضان وبقية شهور العام، وليس بين المسلم والمسلم فقط، لكن بين الناس أجمعين، فالله هو رب العالمين، وليس الفضل والكرم والعطاء والتواصل رهين شهر من العام، وبقية الشهور جحود ونكران واعتداء ووحشية، وليست الرحمة بين فصيل من البشر دون غيرهم، لكن المشكلة الكبرى في كل هذا هو خروج هذه العادة، عن مقصدها الرئيسي، وهدفها الأسمى، ونبل غايتها التي بنيت، كما قالوا، وأسسوا عليها ولها، وأصبح الأمر في نظري هو إهدار للمال الخاص، وإنفاقه في غير محله، وعدم وصوله إلى المستحق الرئيسي الذى يعاني من الفقر والحاجة، وهو الأولى والأحق بها، بل يصل في أغلبه إلى المتسولين الذين أدمنوا التسول وامتهنوه، واحترفوا وسائله، وأتقنوا حججه، وحققوا من ورائه منافع تزيد على احتياجاتهم، حتى خرجوا من دائرة المستحقين للزكاة والصدقات.
وأتذكر الآن ما يحدث في بلدي وطبعا في كل البلاد، حين يتم توزيع لحوم الأضاحي في عيد الأضحى، وكيف يجمع مقاولون من نوع خاص النساء والمتسولين والأطفال من القرى المجاورة، يجوبون بهم البلاد، ويطلقونهم فيها من الصباح الباكر، يقفون على أعتاب أصحاب الأضاحي يتباكون، ويستعرضون أوجاعهم المزيفة، وفقرهم وحاجتهم وأمراضهم واحتياجهم ببراعة وتمكن، ويقبلون كل صنوف المهانة والذل، ويتنقلون من بيت إلى آخر، ويدلون بعضهم بعضا عليها، حتى يفوزوا بنصيب كبير من لحوم الأضاحي، وذلك نظير يومية أو نسبة مما تجمعه أياديهم من لحوم، ثم يقوم هذا المقاول وغيره كثير على آخر النهار ببيع هذه الكميات إلى محلات الكباب والكفتة، ليبيعها بدوره إلى أصحابها مرة أخرى، هي نفسها دائرة البيع والشراء التي كانت تتم حول الحرمين في زكاة الفطر، تعطي الفقير صاعا من شعير حسب نصيبه من زكاة الفطر عنك وعن أهل بيتك ومن تعول، ويقوم هو ببيعه للتاجر القابع بجوار الحرم، ليشتريها آخر، ويتصدق به على نفس الفقير، ويبيعه أيضا لنفس التاجر... وهلم جرا.
ونحن نرى بأعيننا ما يدور حولنا، لكننا أيضا نغلق أعيننا عن هذا التضليل تحت دعوى أنني أقوم بواجبي فى صرف الزكاة ولست مسؤولا عن صدق من يستقبلها وحسابه عند ربه، وهذا قول ليس من الفطنة أو الحكمة التي يجب أن يتحلى بها المسلم.
أموال المسلمين مهدرة على تجار السلاح من ناحية، وعلى تجار الدين السياسي من ناحية أخرى. ثم ماذا عن هذا المشروع الذى يتولاه نخبة من المجتمع وتصرف عليه إعلانات بالملايين، وهو مشروع إفطار عشرة ملايين صائم؟
هل يصل حقيقة إلى المستحقين الذين لا يسألون الناس إلحافا، ولا يمدون أياديهم إلى الناس تحت ضوء الكاميرات والتصوير لزوم الشيء؟ ويصل إلى هؤلاء المتسولين على كل البيوت والأعتاب.
أنا لا أشكك في ذمم الناس، لكننى على يقين أن نبل الهدف والمقصد وحسن النوايا ليس في كل الأحوال ينتهى إلى هدفه ومراده، أو أن القائمين على خطواته ونهاياته على مستوى ومسؤولية من بدأ وخطط وجهز، وأن الهدف والغاية قد تحققا كما كانا مأمولا لهما.
لى صديق تولى منذ ثلاثين عاما مشروعا خيريا لمساعدة الفقراء، والكفالات، وكان يجلب للناس أموالا من الخارج، وقلت له ساعتها: ستحول هؤلاء الناس إلى "عواطلية"، وقد كان.
ليس المقصود نبل الغاية فقط، لكن الأهم هو النتيجة.
نقلا عن مصراوى