الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (11) ضوء فى نهاية النفق.. جدداً وعتقاء
كمال زاخر موسى
السبت ١٢ مايو ٢٠١٨
كدتُ أن أُبتَلع فى موجة اكتئاب عنيفة وأنا اقلب فى صفحات تاريخ الكنيسة فى القرون ما بين القرن السابع الميلادى، الذى شهد نقطة تحول درامية إثر الدخول العربى الجامح، وما استتبعه من قطع حاد مع التراكم اللاهوتى كنتيجة للانتقال القسرى من اللسان القبطى، وقبله اليونانى، إلى اللسان العربى، وبين النصف الأخير من القرن العشرين، والذى شهد محاولات عديدة لوصل ما انقطع، لكنها واجهت متاعب جمة وتعثر الكثير منها، وبعضها حملت فى تطبيقاتها اسقاطات ذاتية، إنعكست سلباً على مساراتها، كانت ابرزها، تجارب جماعة الأمة القبطية ومدارس الأحد، والمجلس الملى، أُجهضت الأولى فى مهدها، واستمرت الثانية حتى وصلت بكوادرها الى قمة الهرم الكنسى لكنها لم تستطع ان تتخلص من صراعات اجنحتها، بينما تأرجحت وتعثرت الثالثة بين نجاحات الأراخنة وتخوفات الإكليروس وتدخلات الدولة التعسفية.
وعندما تهاجمنى موجات الإكتئاب، الوذ بواقعة يسجلها الكتاب المقدس، كان بطلها ايليا النبى الثائر، حين أُصيبت الأرض بجفاف امتد لأكثر من ثلاث سنوات، وعندما أخبر الله إيليا بعودة الأمطار لترو الأرض وتعيد إحيائها، أرسل تلميذه ليتطلع نحو البحر لعله يشهد تجمع السُحب توطئة لهطول المطر، فعاد إليه مخيباً توقعاته، بأنه لم ير شيئاً، ويتكرر الأمر لسبع مرات، وَفِي الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ قَالَ: «هُوَذَا غَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ قَدْرُ كَفِّ إِنْسَانٍ صَاعِدَةٌ مِنَ الْبَحْرِ» وَكَانَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَا أَنَّ السَّمَاءَ اسْوَدَّتْ مِنَ الْغَيْمِ وَالرِّيحِ، وَكَانَ مَطَرٌ عَظِيمٌ. (سفر ملوك الأول ص 18).
ظهرت السحابة التى تبدو "قدر كف" فى سماء الكنيسة فى أفق عام 1958، باتفاق نفر من العلمانيين على تأسيس "بيت التكريس" بأحد احياء القاهرة "حدائق القبة" ثم ينتقلون به بعد عام إلى الضاحية الهادئة ـ وقتها ـ حلوان، وتنطلق منه رسالة جديدة تسعى للشباب تقدم لهم قراءة ميسرة فى كنيسة الآباء وتخرج من كنوزهم ما احتفظت به خزائن المخطوطات اليونانية والقبطية، فى كتيبات صغيرة. ثم تعود مجدداً إلى حدائق القبة، بعد أن اجتذبت الرهبنة ثلاثة من أعمدتها الأربعة.
سنفرد لهذه التجربة، تأسيساً وفعلاً ومراحل، مساحة خاصة فيما بعد ..
دعونا نقفز إلى عام 2010، وفيه تشهد واحدة من "الكافيهات" لقاء بين شاب وخطيبته، لم يكن حديثهما رومانسياً أو حالماً تفرضه عشرينية عمرهما، ولم يكن متجهماً قلقاً يبحث عن كيفية تدبير نفقات تأثيث البيت الجديد، كان يشغلهما البحث عمن يجيب على اسئلتهما حول الكنيسة والعقيدة واللاهوت، والممارسات الطقسية، وتدبير الخلاص، وقد تضاربت الأراء حولها، حتى عرفا الطريق الى "مركز دراسات الآباء" وهو أحد الآليات التى خرجت من عباءة "بيت التكريس"، وفيه يتعرفان عن نظرائهم من الشباب، وتنتظم المجموعة فى دورة دراسية "دبلومة فى الآبائيات"، وكان من بينهم من درس بالإكليريكية، ويلتحق بعضهم فيما بعد بواحدة من أعرق الجامعات اللاهوتية بالخارج، عبر دراسة بالمراسلة، كانوا شباباً يقتربون من نهاية العشرينات وبداية الثلاثينيات على أقصى تقدير، كانوا خمسة شبان وفتاتان، رأوا أن ما تجمع لديهم يحتاجه كثيرون من أقرانهم وأبناء جيلهم، فقرروا، 2012، أن يضعونه على "شبكة النت" ويجتذب الجروب مئات من الشباب فى فترة وجيزة، وفجر طوفاناً من الأسئلة ، وطلب المزيد من المعلومات، فكان قرارهم تأسيس حركة تعليمية بشكل مؤسسى لتولد "حركة محبى التراث الآبائى"، بدأت على الشبكة العنكبوتية، ويتوالى نشر مقتطفات من تعاليم الآباء على موقع الحركة، ثم يشهد عام 2013 نقلة نوعية فى نشاطها، إذ تتواصل مع اجتماعات الشباب بالكنائس وترتب لمحاضرات متخصصة فيها، تشهد إقبالاً وتفاعلاً إيجابياً، وكان اتفاقهم، ألا يكونوا طرفاً فى الصراعات الضيقة التى تشتت اصحابها عن دورهم البنائى، كان اعتمادهم الأساسى على ما يصدره مركز الأباء من كتب ودوريات، وما يعقده من ندوات ومؤتمرات.
ليتطور عملهم الى توزيع بعض هذه الكتب على شباب الخدام مجاناً، وكان ابرزها كتاب "هكذا أحب الله العالم" للقس موسى فايق غبريال، كاهن كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس سيدى بشر ـ الأسكندرية". وقد قاموا بتوزيع نحو ثلاثة آلاف نسخة منه على الشباب.
ثم يقتحمون دائرة القضايا الشائكة فيصدرون كتاباً بعنوان "المرأة فى المسيحية ـ قضايا مثيرة للجدل" يناقش بموضوعية : تناول المرأة بعد الولادة، ختان الذكور/ختان الإناث، وسائل تنظيم الأسرة والإجهاض، هل ورثنا خطية آدم أم ورثنا الموت، هل تتواجد الروح مع اتحاد الخليتين أم مع الزيجوت ببطانة الرحم.
ويعقدون كورسات لاهوتية متعمقة ومنضبطة تتناول قضايا خلق والإنسان وطبيعة المسيح والمجامع وغيرها من المحاور الأساسية فى الإيمان المسيحى، فى ضوء خبرات الكنيسة.
ثم تصدر الحركة سلسلة من الكتب لمجموعة من الباحثين بها، كان ابرزها :
ـ "سر الثالوث القدوس ـ استعلان حياة وخلاص"،
ـ "سر تدبير الفداء ـ من السقوط إلى المصالحة،
ـ "رحلة الله والإنسان نحو الخلاص"،
فضلاً عن العديد من الإصدارات الخاصة بالأطفال. ويعقدون مؤتمراً عن"الآباء الأوائل" لأطفال إبتدائى فى كنيسة مارمرقس بشبرا حضره 300 ولد وبنتعن الآباء الأوائل.
ويلتفت مطران سمالوط التنويرى، الأنبا بفنوتيوس، إلى هؤلاء الشباب ويتابع عن كثب جهدهم وعملهم فيدعوهم إلى إقامة مؤتمرهم التعليمى الأول فى إيبارشيته، على هامش معرض الكتاب السنوى لإيبارشية سمالوط (من 1 إلى 4 مارس 2018)، وتتناول المحاضرات موضوعات ثرية:
• أعجوبة نقل جبل المقطم ـ الأستاذ شريف رمزى.
• سر الثالوث ـ الأستاذ عماد نبيل.
• الذبائح ـ الأستاذ عادل الفونس
• سر التدبير ـ الأستاذ أمجد بشارة.
• سر الكنيسة ـ الدكتور فادى سامى.
• الهوية القبطية ـ القس باسيلى سمير.
وعند إعلان قيام الحركة تصدر بياناً للتعريف بها :
نعلن انطلاق حركة محبى التراث الآبائى فى يوم 1 يونيو 2013 الموافق 24 بشنس 1729 وهى حركة تعمل على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال الفاعليات المختلفة بالإستعانة بجهود المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية.
أولاً : من نحن ؟
"نحن مجموعة من الدارسين والدارسات للتعاليم والفكر الآبائى الأرثوذكسى، ونعمل على إيصال تعاليم الآباء للجميع، بالاستعانة بمجهودات المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، إيماناً منا أن التعليم والعقيدة السليمة هما الطريق السليم لحياة حقيقية مع المسيح والنفس والغير".
ثانياً :ملفات الحركة :
الحركة تعمل على تنفيذ 4 ملفات :
1 ـ ملف التعليم : نعمل على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال فاعليات مختلفة.
2 ـ ملف الوحدة بين كنيسة الأقباط الأرثوذكس وكنيسة الروم الأرثوذكس.
3 ـ ملف التواصل بين الآباء والعصر الحالى.
4 ـ ملف إنعكاس تعاليم الآباء على الحياة المعاصرة.
للحركة هيئة تأسيسية من 13 فرد وتم عمل انتخابات داخلية لتحديد المسئوليات المختلفة.
الحركة تعمل بشعار :
"أنا مسئول عن إظهار النور الذى عندى، وليس إظهار الظلام الذى عند غيرى"
لذلك نمنع تماماً فى فاعلياتنا الهجوم على أى معتقد أو كنيسة أو فكر أو أشخاص.
ثم تعاود الحركة تأكيد مبادئها فى بيان ثان :
• تؤمن الحركة أن تعاليم الآباء الأوائل هى مصدر رئيسى من مصادر التعليم الكنسى بجانب الكتاب المقدس والتقليد وتعاليم المجامع المقدسة والفن الكنسى ، وتعمل الحركة على نشر تعاليم الآباء الأوائل من خلال الفاعليات المختلفة.
• تؤمن الحركة بالوحدة الكنسية بين الكنائس الرسولية، وتعمل الحركة على السعى فى تحريك ملفات الوحدة على مستوى القيادات الكنسية.
• للحركة مكتب إدارى يتكون من :
منسق عام ومتحدث رسمى وأمين سر ومسئول الشباب ومنسق مالى ومسئول تواصل وعضو تحت السن.
• تمنع الحركة الهجوم على أو السخرية من أى شخص أو عقيدة أو فكر أو كنيسة، بل تعمل فقط على نشر ما لدينا من تعاليم الآباء الأوائل.
• يمكن إضافة أو تعديل أى مبدأ من المبادئ العامة بتقديم طلب للمكتب الإدارى، ويجب موافقة 65 % من أعضاء المكتب لتفعيل أى مبدأ جديد.
• الحركة بالأساس تعليمية ، وليس لها أية انشطة أخرى غير التعليم الكنسى.
:::::::::::::::::::::::::::::::
كان تعرفى على شباب هذه الحركة تأكيداً على صحة انحيازى للتفاؤل رغم موجات التشاؤم التى تلفنا، ويعطينا أملاً فى انطلاقة جديدة للكنيسة "لتعود بقوة أعظم" بحسب تعبير القديس يوحنا ذهبى الفم، وأنها قد تمرض لكنها لا تموت.
كان لبيت التكريس دوراً فى البعث الجديد، تأسيساً على القاعدة التى تقول بأن التنوير يبدأ فكراً.
وهو ما سنتناوله فى المقال القادم.