الأقباط متحدون - الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (4) محاولات مبكرة للخروج
  • ٠٦:٠٥
  • السبت , ١٢ مايو ٢٠١٨
English version

الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (4) محاولات مبكرة للخروج

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٤٥: ٠٢ م +02:00 EET

السبت ١٢ مايو ٢٠١٨

الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ (4) محاولات مبكرة للخروج
الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ (4) محاولات مبكرة للخروج

عطفاً على محور التعليم  لابد أن نتوقف لفحص النصف الأخير من القرن العشرين،  وقد انتبهنا فى بواكيره إلى المخاطر التى تتهددنا  بفعل الإنقطاع المعرفى عن الكنيسة الأولى ، وبقى لها ليتورجيتها التى تحمل ايمانها موقعاً على الطقوس والصلوات، حتى وأن كانت ـ وقتها ـ تتناقلها كموروث دون إدراك الغالبية لمضامينه.

وقد اشرنا إلى ارهاصات الإستنهاض فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لكن النصف الثانى منه، والمحتشد بالأحداث ذات الصلة، يشهد تفاعلات من شباب الأقباط على عدة محاور برؤى متباينة، ليست منبتة الصلة بما يحدث بيننا اليوم، كان ابرز هذه التيارات جماعة الأمة القبطية وجماعة مدارس الأحد. وغير بعيد عنها حراك الجمعيات القبطية، على محاور التعليم الخدمة الإجتماعية والتعليم.

جماعة الأمة القبطية :
تشكلت هذه الجماعة فى أغلبها من الشباب الجامعى، ائتلفوا حول شاب نابه، ابراهيم فهمى هلال، والذى كان قد تخرج لتوه فى كلية الحقوق، جامعة الملك فؤاد (القاهرة حالياً)، يستشعرون أن تغييراً حاسماً لابد أن يحدث للأقباط والكنيسة، على الصعيدين السياسى والدينى، وهو ما سطروه فى بيانهم التأسيسى لجماعتهم التى انطلقت فى 11 سبتمبر 1952.

وكان تاريخ التأسيس والبيان التأسيسى يحملان العديد من الرسائل.

11 سبتمبر،  رسالة تنبئ بتوجههم، فهو يوم إحتفال الأقباط برأس السنة القبطية، والموافق لعيد الشهداء ايضاً، ما بين إحياء الهوية المصرية ورفع شعار الشهادة، فى مواجهة تيارات عتية.

1952، رسالة بتأثرهم بحراك الثورة، التى كانت كوادرها من جيلهم، وأن التغيير السلمى لم يعد هو الخيار المطروح.

حمل بيان التأسيس شعاراً يحاكى شعار جماعة الإخوان المسلمين، فى إشارة مبكرة، لحراك الإصطفاف الدينى، وفق قانون الفعل ورد الفعل، "الله ملكنا، ومصر بلادنا، الإنجيل شريعتنا، والصليب رايتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة فى سبيل المسيح غاية الرجاء".

وأكد البيان فى رسالة واضحة أن هدف الجماعة : رفاهية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تطبيق حكم الإنجيل على أهل الإنجيل، تكلم " الأمة القبطية " باللغة القبطية.

واشتركت الجماعة بمذكرة ضافية تحمل رؤيتها للدستور المزمع وضعه 1954، وبحسب مؤسسها فقد أثنى عليها المستشار عبد الرزاق السنهورى بأنها "اكثر الرؤى إحكاما." وهو رأى له وزنه لصدوره عن أحد أهم الفقهاء الدستوريين ورئيس لجنة إعداد الدستور، والجدير بالإشارة أن مشروع الدستور هذا لم ير النور.

لكن هذا لم يكن رأى السلطة الحاكمة، التى رأت فيها خطراً وهو ما تكشفه قائمة الإتهامات التى اعتمدتها المحكمة العسكرية العليا فى إدانة عناصر قيادة الجماعة، وكانت تتصدرها ما ورد فى مذكرة الجماعة المقدمة للجنة إعداد الدستور فى سبتمبر1953، والعمل على تكدير السلم العام ومقاومة السلطات، ثم يأتى فى مؤخرة قرار الإتهام  أنهم " قبضوا بدون وجه حق على غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب الثانى وتمكنوا من اقتياده خارج الدار البطريركية وإقصائه عن مقر منصبه"، وتم الترويج للتهمة الأخيرة ولم تأت وسائل الإعلام وقتها، ولا من تناول سيرة هذه الجماعة فيما بعد لغيرها، وقد انتهت محاكمتهم إلى صدور احكام بحبس غالبيتهم، وكان نصيب مؤسسها سبع سنوات قضاها كاملة بسجن طرة، قام خلالها بتأسيس مكتبة قراءة للمساجين داخل السجن.

وكان الدرس الذى وقر فى ذهن كثيرين أن التغيير والإصلاح لا يمكن أن يأتى من خارج الكنيسة المؤسسة.

منظومة مدارس الأحد :
كانت الفكرة مقدمة للبابا البطريرك (كيرلس الخامس) من الاستاذ حبيب جرجس، فى تطوير لفكرة الكتَّاب، والذى كان يتولى فيه "العَرِّيف" فى ذاك الزمان تعليم الأطفال الألحان الكنسية تلقيناً، وقد جاءت الإرساليات الأجنبية وشرعت فى تجميع الأطفال والصبية واعطائم دروساً فى حكايات الكتاب المقدس ومعها تنشر رؤيتها وعقائدها، ووجدت قبولاً واقبالاً، والتقط الأستاذ حبيب جرجس الخيط، وسعى لتمصير الفكرة، خاصة وهو بجوار عمله الوظيفى فى دواوين الحكومة، يقوم بالتدريس فى مدرسة الإكليريكية، بمهمشة إحدى ضواحى القاهرة، والتى تولى عمادتها فيما بعد، وبدأ التطبيق فى أثناء القداس، إذ يتجمع الأطفال والصبية فى فناء الكنيسة بينما أسرهم يؤدون الصلوات داخلها، وكانت شبرا والفجالة هما البداية، وسرعان ما انتشرت الفكرة فى كل ارجاء القاهرة، ومدريات مصر، ويشكل "الأستاذ" لجنة عليا لمدارس الأحد من الشباب اليافع الذين تتلمذوا عليه، وكان لكنيسة الأنبا انطونيوس النصيب الأفر، ويبدأ أسم نظير جيد فى الظهور ضمن هذه الكوكبة من الشباب  

كانت مشكلة التأسيس التى واجهها "الأستاذ" بحسب أحد الباحثين الذين اقتربوا من المشهد، ورصد تطورها، وكتب بعضها فى كتاب له، ندرة المراجع العربية الآبائية، وربما غيابها تماماً، والمتوفر منها "مأخوذ عن الترجمات الإنجليزية والفرنسية..."، ومثال ذلك ترجمة كتاب "تجسد الكلمة" للقديس اثناسيوس الرسولى، عن الإنجليزية، بجهد الأستاذ حافظ داود "القمص مرقس داود"، وعكوفه على ترجمة سلسلة تفاسير الكتاب المقدس للقس الانجليكانى ماثيو هنرى (متى هنرى)، والعديد من الكتب الروحية وترجمات شخصيات الكتاب المقدس للكاتب ف. ب. ماير، فضلاً عن كتاب الدسقولية (قوانين الرسل)، وتاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى.

يقول الباحث (لقد جاهدت الكنيسة بفضل علماء أفذاذ عصاميين شقوا طريقهم وحدهم وقدموا الكثير. فعندما أراد الأستاذ حبيب جرجس أن يقدم كتاباً دراسياً فى اللاهوت النظرى اختار محاضرات الأب أوجين دى بليس الفرنسى الكاثوليكى فصارت مادة تُدرَّس فى الكلية الإكليريكية ..وعندما وضع كتابه المشهور عن أسرار الكنيسة السبعة كان أهم مرجع استند إليه الأستاذ حبيب جرجس هو كتاب "الأنوار فى الأسرار" للمطران جراسموس مسرة مطران اللاذقية للروم الأرثوذكس. وفى عرضه لموضوع الكهنوت سجل استاذنا حبيب جرجس أنه قد اعتمد على مقالة نشرتها الكنيسة الإنجليكانية، وأنه ضم أغلب ما فيها إلى الفصل الخاص بالكهنوت).

وتولت جمعية المحبة التى اسسها نفر من اراخنة الكنيسة (العلمانيين) مهمة طبع ونشر وتوزيع هذه الكتب، عبر مكتبتها (مكتبة المحبة) التى تولى ادارتها الأستاذ يونان نخلة، والتى صارت أهم المكتبات المسيحية فى نشر الكتب الروحية والكنسية الطقسية، فى مرحلة شهدت مداً مؤثراً للجمعيات الدينية المسيحية فى دوائر التعليم وبناء المدارس والمستشفيات والكنائس أيضاً. وقد نعود إليها بتفصيل لاحقاً.

واصدرت اللجنة العليا لمدارس الأحد مجلة شهرية "مجلة مدارس الأحد"، ابريل 1947 لتكون صوتها وتحمل رؤيتها، وتكشف عن توجهها الذى أكدته إفتتاحية العدد الأول لها [ بيد قوية، هى يد الله العلى القدير، تصدر مجلة مدارس الأحد، وما قصدنا من إصدارها زيادة عدد ما يصدر من مجلات .. لكننا رغبنا فى أن نبعث بعثاً جديداً فى المجتمع القبطى .. لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدى لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع، ليجد فيها هؤلاء جميعاً غذاءهم الروحى والإجتماعى والأدبى والعلمى ]. وفى افتتاحية العدد الأول من عامها الرابع (يناير 1950) يؤكدون من جديد توجههم ويضيفون (هذه المجلة تريد أن ترفع الصوت عالياً، وتنبه كل مسئول، وكل فرد، وإنها تريد أن تخلق الرأى العام فى الكنيسة، وأن توجهه، حتى يضطر كل واحد ممن يقود كنيستنا أن يتوارى، ولا يظهر أمام الناس حين يعمل ما يخالف رسالة الكنيسة، أو حين يحاول أن يشغلنا بالأمور التافهة.).

كانوا يؤمنون أن الإصلاح يبدأ فكراً، وكان مدخلهم التعليم، وكانت ادواتهم منظومة مدارس الأحد ومنبرهم "مجلة مدارس الأحد". وكانت تحتشد بالمقالات الصارخة التى تتناول اشكاليات الكنيسة المعاشة واختلالات الإدارة، وأزمات الديوان البطريركى آنئذ، ويقفز إسم الشاب نظير جيد إلى رأس المجلة ، فى ديسمبر 1949 يصبح مديراً للتحرير، والمسئول الفعلى عنها، وفى عام 53 يعتقل الأستاذ مسعد صادق ـ رئيس التحرير الرسمى ـ  لمعارضته سياسات 52، ويُطلب من المجلة تحديد شخص يتولى رئاسة التحرير وسوف يتم قيده بنقابة الصحفيين، فيقع إختيار المجموعة على الاستاذ نظير جيد ليصبح رئيساً للتحرير ويظهر إسمه بهذه الصفة بدءاً من ابريل 53 وحتى دخوله الدير يوليو 54.

اللافت تزامن دخوله الدير مع القبض على جماعة الأمة القبطية، رغم عدم وجود صلة بينه وبينهم بحسب تأكيدات مؤسس وقائد تلك الجماعة لى فى حديث معه أودعته كتابى "العلمانيون والكنيسة".

على أن مجموعة مدارس الأحد قبل ذلك أرادت أن تقفز الى الأمام فى سعى الإصلاح، فدفعت برائدها الاستاذ حبيب جرجس مرشحاً للرسامة مطراناً للجيزة بعد رحيل مطرانها، واشتعلت صفحاتها بالمقالات والأبحاث التى تؤكد أن قوانين الكنيسة تبيح ترشح العلمانيين للأسقفية بل ولكرسى البابا البطريرك، لكن الكنيسة وقتها لم تقبل بهذا، ولم يتم اختيار "الأستاذ" للأسقفية.

لتشهد الأديرة قدوم نحو إحدى عشر شاباً طلباً للرهبنة فى تتابع بدأه رئيس تحرير مجلة مدارس الأحد، (يوليو 1954)، تأسياً بشابين سبقاه قبل سنوات قليلة (1948) الى هذا المضمار، الدكتور يوسف اسكندر (الأب متى المسكين فيما بعد)، والأستاذ سعد عزيز (الأنا صموئيل اسقف الخدمات الاجتماعية فيما بعد). فيما يصير الأستاذ نظير جيد قداسة البابا شنودة الثالث فيما بعد.

لم تكن هذا المحاولات ما بين جماعة الأمة القبطية وقيادات مدارس الأحد والتوجه للرهبنة، وبينهما جهود القمص مرقس داود وجمعية المحبة، إلا محاولات مبكرة للخروج بالكنيسة إلى النور وإن تعددت المسارات، ولم تكن بعيدة عن المصادمات الآنية، وهو ما تبلور فيما تلى ذلك من تطورات خلف اسوار الأديرة، وهو ما سنقترب منه فى المقال القادم فى مسار سعينا لإجابة السؤال المطروح : الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟.

الكلمات المتعلقة