الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ (3) دورة التاريخ بين الإسترداد والمؤامرة
كمال زاخر موسى
السبت ١٢ مايو ٢٠١٨
الكنيسة لها شقان؛ شق إلهى وشق بشرى، فهى جسد المسيح، الإله المتجسد، "لاننا اعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه." (أفسس 5 : 30)، وهى لهذا تتجسد فى العالم كمستودع وناشر لرسالة المسيح، "تحمل سمات المسيح المتألم والمصلوب والقائم من بين الأموات .. وتحمل نور الإنجيل للخليقة كلها". وهى مقدسة فى الثالوث كطلبة المسيح فى جثسيمانى "قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَق،كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ،وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ." (يوحنا 17 : 17 ـ 19).
وبقدر إدراك الكنيسة لرسالتها ومهمتها، ان تكون نوراً للعالم، تدعوه للخلاص، والتوبة، وللمحبة التى هى نموذجها، تكون قوتها.
لذلك هى تراجع واقعها بشكل متواتر ودائم، وتصححه فى ضوء زخم خبراتها، وتقليدها الذى يمثل الحبل السُرى الذى يربطها بالرأس المسيح، بامتداد الأجيال.
ولكونها "فى العالم" بحكم مكونها البشرى، فهى تتفاعل معه وتؤثر فيه وتقوده لكونها ملح العالم ونوره، وجهادها الحقيقى له جانب أخر أن لا تدع العالم يقتحمها ويغازلها بما يملك، فتتشبه به، لأن هذا سيأتى خصماً من رسالتها، هى تُعمد أدواته، وتوظفها لحساب رسالتها، وحين يختلط عليها الأمر وتحاكى العالم، يتحول سلطانها الروحى الى سلطة متجبرة، وتتكلس دعوتها، وتتراجع رسالتها، وتخفق فى إعلان المسيح.
وقد استوقفتنى دراسة جادة لأحد الباحثين تتناول حدث التقاء القديسين انطونيوس ـ مؤسس الرهبنة ـ وبولا أول السواح،(فى القرن الرابع الميلادى)، وقد طلب ق. بولا من ق. انطونيوس أن يذهب الى البابا القديس اثناسيوس الرسولى ليأتى منه بالعباءة التى اهداها الملك قسطنطين للبابا البطريرك، ففعل هذا، وعاد الى مغارة أول السواح ليجده قد مات، فكفنه بها، وأخذ ثوبه الخشن الذى كان يلبسه وعاد به للأب البطريرك، الذى ادرك قيمته، ولم يفارقه حتى رحيله، يقول صاحب الدراسة، أن هذه الواقعة كانت رسالة للكنيسة عبر البابا؛ أن عليها أن تتخلص من "عباءة الإمبراطور" والتى ترجمتها فى كثير من مفردات مظهرها وربما تراتبيتها، وتتدثر فى "ثوبها الخشن" الذى يحمل مفاهيم الترك والتخلى عن مظاهر القوة والفخامة، فى عودة لنموذج سيدها، ليكون فضل القوة لله لا الإمبراطور وبلاطه الملكى وأدواته.
والمشهد الآنى أدى إلى انزعاج كثيرين ممن يتابعون "صراع الديوك" الحادث، وتطاير الإتهامات بين الفرقاء، إلى درجة أن ذهب البعض إلى أن الكنيسة تتعرض لمؤامرة تستهدف سلامها واستقرارها وربما وجودها، فيما يراه جناح أخر بأنه مخاض ولادة متعسرة تعيد الكنيسة إلى مجدها وتجدد قوتها.
وعلى الرغم من أن ذهنية المؤامرة لديها مبراراتها، خاصة فى مناخات التعتيم وغياب المعلومات، والخوف من المكاشفة، والمصارحة، والحوار المقطوع، إلا أننى لا أميل إلى القبول بفكرة المؤامرة هذه، فالكنيسة قادرة على الإنتصار على المؤامرات، داخلها وخارجها، والشواهد تملأ تاريخها المديد، بما تملكه من خبرات إيمانية، وما تمتلكه من قوة مستمدة من مؤسسها ووعوده لها بحمايتها وتحصينها. قد تمرض لكنها لا تموت.
وقد نكون بحاجة إلى قراءة متأنية لما شهدته الكنيسة من تطورات واحداث فى النصف الأخير من القرن العشرين تحديداً، وما شهده العالم من حولنا من تطورات وأحداث اقتحمتنا، فقد كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فى القرون الوسيطة، تسير بقوة الدفع الذاتى المستمدة من الليتورجبا التى تمثل عمودها الفِقَرى، كانت تمارسها وتحافظ عليها، فى مناخ كنسى متراجع، وأديرة تضم رهباناً كهولاً، وإرساليات أجنبية تحمل معها رؤية وإمكانات تواصل ولغة تقترب من الناس، حتى بدت فى الأفق محاولات متناثرة لاستنهاض الجسد المريض، بدأها البابا كيرلس الرابع، (1853 ـ 1862)، حتى استحق لقب "أبو الإصلاح"، رغم سنى حبريته القليلة، لكنه كان يملك رؤية واضحة للخروج من عصورنا الوسطى، وقد أشرنا إلى استقدامه ثانى أكبر مطبعة بعد المطبعة الأميرية التى جاء بها الوالى محمد على، ودشن، هذا البطريرك النابه، سلسلة مدارس عامة لتعليم الأولاد والبنات، وانتبه الى التعليم الصناعى ـ هكذا ـ لتوفير العمالة المدربة، وشرع أبواب مدارسه أمام كل المصريين، وهى خطوة تقدمية واعية للأبعاد الإجتماعية، والقوى الناعمة، التى أسهمت فى دعم أواصر التلاحم الوطنى بعيداً عن الإنتماءات الدينية.
ثم يأتى البابا كيرلس الخامس (1874 ـ 1927)، ويدشن منظومة مدارس الأحد استجابة، لمقترح الأستاذ حبيب جرجس، مع مطلع القرن العشرين، فى رهان مضمون على الأجيال الجديدة، بالتوازى مع إعادة تأسيس مدرسة الإكليريكية، لتجنى الكنيسة ثمار هذه الخطوات الإصلاحية بعد عقود قليلة، بل ولا ينتهى ذاك القرن إلا وقد صارت كل قيادات الكنيسة من ابناء مدارس الأحد، من كهنة القرى والنجوع الى أعلى موقع فى الكنيسة (كرسى البابا البطريرك) مروراً بكل اساقفة ومطارنة الكرازة بالداخل والخارج.
واليوم تحتفل الكنيسة "بمئوية مدارس الأحد"، وهى تجربة تستحق قراءة تحليلية متبصرة، تتحمل الكلية الإكليريكية مهمة الدعوة إليها فى مؤتمر علمى يقيّمها وينطلق منها إلى تطوير تفرضه المتغيرات والتحديات والتطلعات الآنية والمستقبلية، فى المنهج والآليات وكيفية التعاطى مع أجيال ما بعد الثورة الرقمية.
وربما نقف على الأسباب الحقيقية للأزمة المتفجرة بين الأجنحة المختلفة فى دوائر التعليم، ما بين المصادر والرؤى، لنضع ايادينا على مخارج صحيحة، نؤطر معها تعليماً أرثوذكسياً معاصراً مؤسس على المصادر التى سبق وأشرنا إليها.
ونفض الإشتباك بين المدرسة التى اعتمدت على مصادر آبائية صحيحة عبر الترجمة عن لغة وسيطة، الإنجليزية فى أغلبها، وبعضها يحتاج الى مراجعة بفعل تقدم علوم الترجمة، وبين المدرسة التى اعتمدت على مصادر آبائية صحيحة عبر الترجمة المباشرة من اللغة الأم "اليونانية القديمة"، وهى تحتاج إلى عمل مؤسسى أكاديمى كنسى رسمى، يجمع المجهودات المتناثرة لمراكز الدراسات القائمة بالفعل، سواء القديمة منها، أو التى أسسها الشباب فى السنوات الأخيرة.
وننتبه فى هذا السياق إلى الجناح الثالث والأخطر والذى بنى رؤيته على مراجع غير ارثوذكسية شهيرة فى القضايا العقائدية الأرثوذكسية. وكانت محل جدل بين الفرقاء وتقف وراء العديد من المصادمات.
ولا يمكن أن ننتظر نتائج مبشرة بغير استكمال هيكلة الكلية الإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية، على أسس علمية أكاديمية، بحيث لا تسند العملية التعليمية فيهما إلى غير الكوادر المؤهلة علمياً وأكاديمياً من حملة درجات الدكتوراة فى التخصص المسند اليهم، وكذلك الأمر مع المعاهد الإكليريكية فى الإيبارشيات والأديرة، ووضع ضوابط توقف العبث الذى نشهده فى كثير منها، وبعضها يقف وراء السجس الحادث الآن، لحسابات بعيدة عن الجدل الأكاديمى العلمى.
وبهذا يمكن إعتماد الكلية الإكليريكية بفروعها ومعهد الدراسات القبطية فى المجلس الأعلى للجامعات، ومن ثم التواصل مع الجامعات والكليات المناظرة داخل وخارج مصر فى العلوم الإنسانية أو العلوم اللاهوتية، الأمر الذى ينعكس إيجاباً على رفع قدرة هذه الإكليريكيات ومن ثم مستوى خريجيها، لحساب منظومة التعليم والرعاية الكنسية. ونضع نقطة فى نهاية سطر الأزمة، وتسترد الكنيسة سلامها ودورها التنويرى فى دوائرها اللاهوتية.
على أن الأمر يتطلب الآن ان يبادر مجمع الأساقفة باعتباره المسئول عن ادارة الكنيسة وحماية معتقداتها بحسم الخلاف المثار بين الفرقاء، ووضع القواعد المنظمة للحوار وضوابطه، بغير أن تتطاير بينهم اتهامات الهرطقة، وبيان التفريق بين المعتقد والرأى والتفسير، ووقف حملات "التلاسن" سواء بينهم بشكل مباشر أو من خلال "وكلاء" يطلقونهم عبر وسائط التواصل على الشبكة العنكبوتية فى الفضاء الإلكترونى. وكثيرهم لا يدركون أن الحياة الليتورجية والتعاليم الآبائية الكتابية لا يمكن ان نفصلها عن السلوكيات المسيحية، التى تدوسها اطروحاتهم التى تحمل فى عناوينها "صورة التقوى" بينما مضمونها يحمل "معاول تهدم الجسد الواحد"، برعونة وإدعاء.
وللطرح بقية