الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ سنوات القلق (جزء 5)
كمال زاخر موسى
الخميس ١٠ مايو ٢٠١٨
9 ـ والعلمانيون يضرسون !!
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::
الكنيسة الكيان تسعى لاستعلان قصد الله الأزلى الذى أعلنه يسوع المسيح، وحققه فى تجسده وموته وقيامته، "السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُومًا فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَلكِنْ ظَهَرَ الآنَ، وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلهِ الأَزَلِيِّ، لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ، للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية 16 : 25 ـ 27)، وهى لا تتوقف عن إعلانه فتنير لنا الطريق "وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (أفسس 3 : 9).
ويجمل القديس بولس أركان هذا الإستعلان فى كلمات موجزة "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ." (1تى 3 : 16).
فالكنيسة هى آلية أو أداة الله فى استعلان الملكوت وتحقيقه فى زمن الإنسان، ويقاس نجاح الكنيسة بل ومبرر وجودها بقدر قدرتها على القيام بهذا الإستعلان. وبانتباهها لئلا يزاحمه أو يشغلها سعى آخر، مهما كان بريقه، ولا تكفى المعرفة اللاهوتية مدخلاً لنشر الملكوت بل يلازمها "السلوك التقوِّى"، لذلك فهى والحال هذه لا تعرف الصراع والتضارب والإحتراب، ولا يقبل منها أن تبرر هذا بحماية الإيمان والحفاظ على العقيدة، رغم أن هذا أحد مهامها،ويدق الأمر عندما يطرح طرحاً عاماً، فالأهداف الصحيحة تستوجب استخدام مسارات وآليات سليمة وصحيحة، لا تخرج عن منظومة القيم المسيحية، ولنا فى رسائل وكتابات الآباء إلى الوثنيين والهراطقة نموذجاً، ومثالنا رسائل القديس كيرلس الكبير إلى نسطور ويوحنا الأنطاكى، (من كيرلس والمجمع المنعقد في الإسكندرية من إيبارشية مصر، نهدى تحياتنا في الرب، إلى الموقر والمحب لله جدًا الأسقف الشريك نسطور.) . (استهلال الرسالة 17)، بينما فى الرسالة الرابعة يبدأها (كيرلس يهدى تحياته فى الرب إلى الموقر جداًوالمحب جداً لله الشريك فى الخدمة نسطوريوس)، ويتكرر الأمر فى رسالة القديس كيرلس ذاته إلى يوحنا الأنطاكى (كيرلس يهدى التحيات فى الرب إلى سيدى وأخى وشريكى فى الخدمة الكهنوتية، يوحنا...)، (الرسالة 39)، رغم أن هذه الرسائل تأتى فى سياق الصراع الخريستولوجى (الكلام عن ماهية المسيح وطبيعته). ولم تمنع انعقاد مجمع أفسس المسكونى الثالث لمراجعة نسطوروس والذى انتهى بقطعه وعزله.
والكنيسة ككائن حى، تراجع واقعها بشكل متواتر، قياساً على ما استقر فيها من إيمان وعقائد سطرها الإنجيل والتسليم الآبائى وخبراتها الحياتية التقوية، واختزنته فى منظومة عبادتها عبر الليتورجيا، وتاجها الإفخارستيا.
ولهذا كانت المجامع المسكونية فى قرون الكنيسة الأولى، والتى تعد واحدة من أهم المرجعيات التى يقاس عليها الأطروحات اللاحقة فيما يتعلق بالعقائد الكبرى، وفيها القول الفصل الذى لا يملك أحد الخروج عنه وعليه.
وفيما سبق وطرحنا، عبر هذه السلسلة من المقالات، نجد أن الكنيسة باتت بحاجة ملحة لتعريب وترجمة أعمال وقرارات (قوانين) المجامع المسكونية، وكتابات الآباء ذات الصلة، بشكل مؤسسى، عن لغتها اليونانية، وهى لن تبدأ من فراغ، فلدينا مؤسسات قبطية أكاديمية عريقة قدمت للمكتبة المصرية والعربية الكثير من الكتب المترجمة قام بها باحثون ومتخصصون فى يونانية الآباء، لعل ابرزها "مركز دراسات الآباء" الذى أسسه بفدائية وجلد ومثابرة الاستاذ الدكتور نصحى عبد الشهيد، وما تفرع منه من مؤسسات وكيانات علمية، مازال ومازالت تعمل بجهود مضنية فى إمداد القارئ بالمزيد. وعلى الكنيسة المؤسسة أن تجمع هذه الجهود فى كيان كنسى مؤسسى رسمى.
لكننا نتوقف ملياً أمام الملاحقات التى تعقبت المد المدنى (العلمانى) والذى تناولناه فى رصدنا بعضه فى طرحنا للعمل الأهلى، الجمعيات والكيانات الأهلية، والتى انتجت العديد من المدارس العامة والكنسية، وكانت وراء إعادة بعث الإكليريكية، وإنشاء معهد الدراسات القبطية، بتكوينه العلمى والذى كان مرشحاً ليصبح نواة لجامعة لاهوتية علمية مصرية، بما يملكه من هيكل تنظيمى وأقسام متخصصة، وما يضمه من كوادر علمية لها اسهاماتها وانتاجها العلمى المتخصص ليس فقط فى الجامعات المصرية بل وفى الجامعات الأوروبية والأمريكية.
وكان للكنيسة القبطية الأرثوذكسية أُسقفان، أحدهما للتعليم والكلية الإكليريكية، والثانى للبحث العلمى ومعهد الدراسات القبطية العليا، وكان من الطبيعى حال تعاونهما أن تشهد الكنيسة انطلاقة علمية قوية، تسترد معها ثقلها اللاهوتى، الممتد إلى مدرسة الأسكندرية اللاهوتية، لكن ما حدث جاء صادماً، إذ تراجعت الكلية الإكليريكية بشكل حاد، وانتقل الإهتمام فيها إلى القسم المسائى، على حساب مكونها الأساسى، القسم النهارى، والذى كان يؤسس لاستعادة نسق التلمذة كما عرفته مدرسة الأسكندرية، حيث الإقامة الكاملة لطلابها، داخلها، دراسة ومعيشة وإقامة، يعايشون اساتذتهم، داخل وخارج قاعات الدرس، لينصب التركيز على القسم المسائى الذى يلتحق فيه خريجى الجامعات من مختلف التخصصات، ليتلقوا علوم الكنيسة فى محاضرات يغادرونها بعدها، ومنهم تختار الكنيسة من يقدمون للرسامة الكهنوتية، دون القسم النهارى، الذى كاد أن يوصد أبوابه، ولا يجد من يتخرج فيه مكاناً فى الرسامات داخل القاهرة، فيطرح تفسه على اساقفة الأقاليم، ثم فى تطور لاحق يتجه بعض الأساقفة إلى انشاء اكليريكيات محلية تفتقر لأبسط المقومات العلمية وينعكس هذا على منتجها.
أما معهد الدراسات فيشهد هجرة الكوادر المؤسِسة له لأسباب عديدة ليحل محلهم أخرين ويدب الخلاف بين اسقفى التعليم والبحث العلمى، ويتخذ منحى حاد بعد أن يصير أسقف التعليم بطريركاً، لينتهى الأمر بشكل مأساوى وينهار أو يكاد صرح الكلية والمعهد. ويجهض الحلم التنويرى.
ولم يكن العمل الأهلى القبطى اسعد حالاً، إذ يشهد تراجعاً متتالياً، فى سياق عام خارج الكنيسة، يقلص كل ما هو مدنى، لتتحول انشطة الجمعيات عن مسارات التعليم والصحة، ولا يتبقى أمامها إلا نشاط "دفن الموتى" وخدمات الرحلات الدينية الموسمية، وبعضها يطرق أبواب ما يمكن ان نسميه "الخدمات الإستثمارية" تحت لافتات مخاتلة، لتموت معها مفاهيم العمل التطوعى والأهلى الخدمى.
وتشهد الساحة القبطية الأرثوذكسية تراجعاً فى الدور العلمانى بشكل متدرج، وبأنماط متنوعة، بين إجتذاب المتخصصين فى غير العلوم اللاهوتية والكنسية، من اطباء ومهندسين وغيرهم إلى دائرة الرسامات الكهنوتية، اساقفة وقسوس، فتفرغ الدائرة العلمانية من العديد من التخصصات ويفقدها قدرتها على احداث توازن مجتمعى، ولا تقدم للدائرة الكهنوتية طاقتها الكاملة لوقوعها تحت طائلة القواعد الهيراركية الحادة، وبين سحب المنبر من العلمانيين ليصير مقتصراً على رجال الإكليروس، وبعد أن كان العلمانيون شركاء فى إدارة شئون الكنيسة المدنية ينتقلون الى المربع الإستشارى، حتى فى تخصصاتهم، ليُكبَل الإكليروس بما ليس لهم وينعكس هذا سلباً على مهمتهم الأساسية وندخل فى دوامة بلا قرار، ويئن العلمانيون ويئن الإكليروس، وتتفاقم أزمات التعليم والرعاية، ولم تكن الرهبنة بعيدة عن الأنين، وهى منظومة علمانية بالأساس وليست اكليروسية، فقد تم تفريغ الأديرة من شيوخها بين الرسامة والتحجيم، لتفقد واحدة من اركانها الأساسية "التلمذة"، وتتوالد الرؤى الذاتية، وتبدأ صراعات التأويل والتفسير وتضارب الآراء بغياب التسليم الآبائى.
ومع كل هذه الإختلالات تظهر الولاءات ويقفز أهل الثقة الى الصفوف الأولى، ويبعد أو يتوارى أهل الخبرة.
اللافت أنه عندما أعيد طرح احياء "المجلس الملى" كان الأسم الأكثر تداولاً "المجلس الإستشارى" (!!) فيتحول الدور العلمانى من كونه أحد جناحى الكنيسة إلى تابع بلا مشاركة حقيقية، وتفقد الكنيسة أحد أهم مميزاتها، أنها كنيسة الشعب.
وتأتى المواجهات الأخيرة بين قيادات الإكليروس منتجاً طبيعياً لاختلالات تراكمية بدأت بالإنقطاع المعرفى واستمراره، وتغذت بالإنفراد لأحد اجنحة الكنيسة وإقصاء الآخر، وتكريس الرأى الأوحد وتشويه مفهوم التعدد والتنوع الذى كان يميز ويثرى الكنيسة.
ومازال الطرح مستمراً.