أزمة المياه.. والحقائق الغائبة في حرب المزايدات
مقالات مختارة | بقلم : ماجد عاطف
٠٧:
٠٩
م +02:00 EET
الثلاثاء ٨ مايو ٢٠١٨
تمر مصر اليوم بأزمة، ربما هي الأكبر في تاريخها المعاصر، أزمة يمكن وصفها بلا أدنى مبالغة إنها أزمة وجود.
نحن نعاني من نقص حاد في المياة، استوجب أن تتخذ الحكومة قرارها الأخير بشأن زراعة الأرز والقصب وتغليظ العقوبة على مخالفيه، وهو ما أثار غضب المزارعين والمهتمين بالشأن العام، فوجهوا اتهامات للحكومة بمحاباة الأثرياء بتوفير مياه لملاعب الجولف، في الوقت الذي تمنع زراعة الأرز متحججة بنقص المياه، محملة الفلاحين تبعات الازمة الناجمة عن إخفاقها في ادارة ملف سد النهضة.
وبعيد عن أي مواقف سياسية، فالاتهامات المذكورة أعلاه ليست دقيقة إلى حد كبير..
مبدئيًا ملاعب الجولف في مصر (40 ملعبا) تروى من مياه الصرف الغير صالحة للاستخدام الآدمي، وعليه فالحديث عنها وعن رفاهية الأثرياء على حساب الفقراء هي مزايدة سياسية ليس إلا، فضلا عن أن القرار لم «يمنع» زراعة الأرز هو فقط حدد أماكن زراعتها (725 ألف فدان) وغلظ العقوبة على مخالفي القانون فجعلها حبس بعد أن كانت غرامة مالية.
القرار رغم صعوبته لكنه كان حتميًا، فمع تفاقم ازمة المياه اصبح من شبه المستحيل أن يتم السماح بالزراعات المستهلكة للمياه بشراهة في أي منطقة، وعليه تم تحديد محافظات الدلتا لزراعة الأرز، نظرا لارتفاع نسبة الملوحة بأراضيها، لقربها الشديد من البحر، وهو ما يستوجب زراعة الأرز الذي يتم غمره بالمياه، لتقليل ملوحة الأرض.
وإن كان هناك من الخبراء من يقترح تغيير نوع الأرز المزروع حاليا والاعتماد على أنواع أخرى تتحمل الملوحة وتقلل كمية المياه المستهلكة في زراعة الفدان الواحد من 6000 متر مكعب إلى 3500 متر مكعب، وبذلك نستطيع زيادة المساحة المزروعة بالأرز من 725 فدان إلى مليون ونصف فدان. الأزمة في زراعة الموز التي يجب أن تتوقف فورا
هذا بالطبع لا يعني أن المزارعين لن يضروا ماديًا من ذلك القرار، بالعكس الضرر سيصيبهم، لكن كان من الحتمي أن يتم اتخاذ هذا القرار، الخطأ ليس في القرار لكن في كيفية اتخاذه، فللاسف كعادتنا اتخذنا قرارا فوقيًا دون الجلوس مع أصحاب المصلحة ومناقشتهم، مع انه كان (ومازال) يجب اطلاع الجميع على حقيقة موقفنا المائي بشفافية، الناس طرف مهم في إدارة الأزمة.
وللأمانة فإن سد النهضة ليس هو السبب الأوحد لمشكلة المياه كما يصر البعض على تصوير الموقف، يمكن القول إنه ضاعف الأزمة وعجل بها، لكن بوجود سد النهضة أو بدونه، كنا سنصل يومًا ما لنفس المأزق.
لأنه ببساطة الـ 55.5 مليون متر مكعب الذين خُصصوا لمصر في اتفاقية 1959 حين كان تعداد مصر أقل من 25 مليون نسمة، لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكفونا في 2018 بعد أن تجاوزنا الـ 100 مليون نسمة، هذا أمر بديهي لا يحتاج مناقشة، مع ملاحظة أن المساحة المزروعة زادت من 6 ملايين فدان إلى ما يقرب من 9.5 مليون فدان.
وقد استشعرت الدولة المصرية أزمة نقص المياه منذ أكثر من عشر سنوات، مما دفعها إلى إعادة تنقية مياه الصرف لتصب مرة أخرى في النهر وتُروي بها الأراضي الزراعية، وهو ما نتج عنه تقلص الثروة السمكية النيلية من 40 نوعا إلى نوعين فقط.
كان لزامًا علينا أن نتحرك خلال كل تلك السنوات الماضية لزيادة حصتنًا المائية، وتعديل نمط حياتنًا وسياستنًا الزراعية، لكن للأسف الشديد الأنظمة المتعاقبة لم تصارح الشعب ولم تطور أساليب الزراعة، وبالقطع لم نمد الجسور لتأسيس علاقات جيدة مع دول المنبع، من خلال إقامة مشاريع تنموية للمجتمعات الفقيرة هناك، تضمن لنا قوة ناعمة سنحتاجها يومًا ما، بالعكس تجاهلناهم ولا أريد أن أقول تعالينا عليهم، لنستيقظ في 2010 على خمس دول (إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا) يجتمعون في «عنتيبي» ليقرروا إلغاء اتفاقيتي 1929 و1959 اللتان تكفلان حق الفيتو لمصر تجاه إقامة أي مشاريع مائية على نهر النيل.
المدهش هو أنه رغم علمنا بحقيقة وضعنا في تلك الدول، إلا أننا في عام 1999 رحبنا بمقترح البنك الدولي بتأسيس «كيان جامع» يضم كل دول النهر، تحت اسم «مبادرة حوض النيل» …. باختيارنا الحر قمنا علميًا بحشد كافة دول «الحوض» على جانب من طاولة المفاوضات، لتبقى مصر بمفردها على الجانب الآخر، مع استثناءات قليلة، ارتهنت بعلاقات مصر المتذبذبة بالنظام الحاكم في السودان، على حد تعبير «يحيى غانم» رئيس مجلس إدارة دار الهلال الأسبق.
وللأسف نجحت إثيوبيا في فرض استراتيجيتها في أزمة سد النهضة من البداية، تسويف ومماطلات على طاولة المفاوضات، وسرعة جنونية في العمل على الأرض لبناء السد، ورويدًا رويدًا انتقلت القاهرة من مربع الرفض التام إلى مربع الموافقة مع اشتراط أن يتم الملىء في 7 سنوات وليس ثلاثة كما أعلنت إثيوبيا، لنفاجأ بتعنت أديس أبابا وإصرارها على أن يتم العمل في المدة الزمنية التي حددتها، معنى ذلك أننا لن نحصل على قطرة مياه واحدة من «النيل الأزرق» القادم من إثيوبيا لمدة 3 سنوات، سنعتمد خلالهم على فرع النيل الأبيض القادم من أوغندا فقط، أي أننا سنخسر 60% من مصدر المياه لنا لمدة 3 سنوات، وهو ما يعني تدمير الدلتا نهائيا بفعل زيادة ملوحة التربة بها.
وبعيدًا عن متاهات المفاوضات وتفاصيل الوساطات المعقدة، التي مازلنا ندور نحن وأديس أبابا في فلكها بالتقاطع مع عواصم أخرى، فإنه (حتى لو نجحنا في الوصول لرقم 7 سنوات) يجب علينا مواجهة الحقيقة أننا دخلنا منذ فترة في مرحلة الفقر المائي، وأمر تعديل المسار أصبح حتميًا.
هذا لا يعني أن الصورة أصبحت حالكة السواد أو أن «مالطة خلاص خربت»، فهناك حلول عملية يطرحها أهل الخبرة، لتجاوز الآثار السلبية لشح المياه، والتأقلم مع الوضع المائي الجديد ….د.هاني السلموني (خبير التنمية ونقل التكنولوجيا بالأمم المتحدة) أحد هؤلاء الخبراء الذين يطرحون خارطة طريق تنجينا من عطش لا قبل لنا به، تتلخص في:
1-وضع تركيب محصولي أمثل لمصر
وهو ما يعني أن الدولة وفقًا لاستراتيجية محددة تُقرر ما الذي نحتاج أن نزرعه وأين يُزرع، وبهذا تقلل الفجوة الغذائية (مصر تستورد 60% من غذائها)، وفي حالتنا مثلًا ستُقرر الحكومة زراعة الأرز فقط في الدلتا، لكنها أيضا ستقول ماذا يزرع الباقي، في نفس الوقت نطبق منهج «الزراعات التعاقدية» أي أن الفلاح قبل أن يزرع يكون قد علم إلى من سيبيع المحصول وبكم تقريبًا.
وبالمناسبة «التركيب المحصولي» كان نظام معمول به في مصر، إلى أن قرر يوسف وإلي (وزير الزراعة في عهد مبارك) إلغاءه بدون إبداء أسباب.
2-دعم التعاونيات الزراعية
الزراعة لا يمكن أن تسير بساق واحدة (الدولة) بالعكس هي تحتاج إلى الساق الأخرى- القطاع الخاص- وفي حالتنا تلك يمثل القطاع الخاص «التعاونيات الزراعية». من المهم جدا تعميم تلك التعاونيات التي تستطيع تجميع المزارعين ومواردهم في شكل وحدات، يمكن التعامل معها بشكل جماعي.
فوضع خطة زراعية صحيحة لا يمكن تطبيقها في ظل حيازات صغيرة، لكن تجمُع هؤلاء جميعًا في تعاونيه يجعلنا نتحدث عن 200 أو 300 فدان مجمعين يمكن زراعتها وريها ومعالجتها من الافات بشكل جماعي شديد التوفير في المياه والموارد…. يجب أن تتوقف الدولة عن التعامل مع التعاونيات بتوجس لا مبرر له، وسيطرة تصل إلى حد الخنق.
3- المُخلفات الزراعية ومياه الصرف الزراعي
يجب التوقف عن إعادة تدوير مياه الصرف الزراعي، على أن يتم تخصيصها لزراعة الأشجار الخشبية، وبذلك نكون تجنبنا الأمراض الناتجة عن الري بها، وفي نفس الوقت دعمنا الصناعات الخشبية (أثاث وغيره) في مصر.
على أن يتزامن هذا مع تعظيم الاستفادة من المخلفات الزراعية، (لدينا 300 مليون طن مخلفات في السنة) تلك الأطنان يمكن الاستفادة منها بعد إعادة تدويرها، سواء كأسمدة عضوية، أو إدخالها في صناعات كخشب الحبيبي.
وهو ما يستوجب إنشاء مناطق صناعية للتصنيع الزراعي.
4-النيل للري فقط
لم ولن تعود مياه النيل كافية للاثنين، الزراعة والشرب، وعليه يجب اتخاذ قرار بجعل مياه النهر فقط للزراعة، وفي نفس الوقت تبدأ الدولة في إنشاء محطات تحلية لمياه البحر وجعلها مخصصة للشرب، هذا التوجه سيوفر لنا تقريبا 10مليار متر مكعب.
5- مشاريع أعالي النيل
ما زال أمامنًا فرصة لزيادة حصتنا من المياه، عبر إقامة مشاريع في بلاد النيل، لتقليل الفاقد وإعادة مصب النهر وهو ما يعنى زيادة حصتنا (نحن والسودان) دولتي المصب، مثلًا مشروع قناة جونجلي جنوب السودان والقائم على تجفيف المستنقعات عبر شق تلك القناة سوف يستفيد منه الجميع، مصر بزيادة حصتها في المياه والسودان تستفيد بتحويل المستنقعات لأراض صالحة للزراعة، فضلا عن زيادة حصتهم أيضا (نتحدث عما يقترب من 10 مليار متر مكعب)، وقد توقف هذا المشروع عقب قيام حرب جنوب السودان، واستكماله يستلزم تحرك دبلوماسي وسياسي سريع لإعادة تواجدنا على الأرض هناك من خلال مشاريع تنموية.
أخيرًا نحن الآن نواجه أزمة وجود، المزايدات والكبر لا محل لهم من الإعراب هنا، الحلول موجودة ومتاحة، المطلوب المصارحة مع النفس والشعب وتنحية الانحيازات ولو قليلًا.
نقلا عن المصرى اليوم