هطلت الأمطار .. ”يادي المصيبة” !!!
يوسف سيدهم
السبت ٥ مايو ٢٠١٨
بقلم: يوسف سيدهم
في معظم بلاد العالم, وفي كل البلاد المتحضرة, وفي سائر البلاد المستعدة, ينزل المطر فلا تحدث مصيبة… يعتبرونه خيرا -بل هناك شعوب تحتفل به- خير لأنه يروي الجبال والوديان والزراعات, وخير لأنهم يتحكمون في تجمعاته ويوجهونها نحو خزانات طبيعية أو صناعية ليعاد استخدامه في شتي مجالات الحياة… ذلك هو الأمر الطبيعي الذي لا تستثني منه الأماكن الحضرية والمدن والقري بجميع مرافقها, اللهم إلا في حالات غضبات الطبيعة غير المألوفة مثل الأعاصير والعواصف العاتية والفيضانات الجارفة.
لكن عندنا نحن في مصر الأمر مختلف… ينزل المطر في مواعيده ومواسمه المعروفة وترصد قدومه أجهزة الأرصاد والطقس لتحذر وتحصن الكافة -مواطنين ومسئولين- وقد يكون المطر خفيفا أو كثيفا أو حتي سيولا في بعض الأنحاء, لكن النتيجة واحدة دائما وهي الارتباك والمشاكل التي تصل إلي حد الكوارث… والعجيب أن الكوارث لا تنتج عن غضبة الطبيعة بقدر ما تنتج عن إهمال وتسيب وفوضي المرافق وعجزها عن احتواء المطر والتحكم فيه للاستفادة منه.
سقطت الأمطار عبر الأسبوعين الماضيين… سقطت بغزارة ليست غير مسبوقة ولا غير معروفة في هذا الوقت من السنة… لكنها بدلا من أن تسقط علي مبان ومنشآت محصنة ومحمية ضد تسرب المطر علاوة علي شبكات طرق ومرافق مجهزة لتجميع وصرف المطر حدث العكس!!… سقطت علي مبان ومنشآت معيبة ومتهرئة أسطحها وجوانبها وبدروماتها مستسلمة لتسرب المطر علاوة علي شبكة طرق ومرافق غير مجهزة وعاجزة عن صرف المطر أو مجهزة لكن عنيدة ومستعصية علي صرفه!!!
حدث ذلك وكانت النتيجة وبالا علي المواطنين جميعا… وبال علي البسطاء والمطحونين الذين تشردوا في الطرقات يبحثون عن وسيلة مواصلات تعود بهم إلي منازلهم بعد تعطل مترو الأنفاق وارتباك المواصلات السطحية… وبال علي أصحاب السيارات الذين اعتقلوا داخل سياراتهم علي طرق مكدسة أصابها الشلل ليقضوا ساعات الليل حتي فجر اليوم التالي علي قارعة الطريق عبثا يحاولون طلب النجدة لكنها لا تدركهم… وبال علي التجمعات السكنية -سواء في المناطق المفتوحة أو داخل المنتجعات الخاصة المغلقة, فجميعها لم تسلم من اندفاع المياه وتجمعاتها التي ارتفعت لتبتلع كل شئ سطحي من طرق وأرصفة وحدائق وتغطي نصف ارتفاع السيارات… وبال علي الفيللات الفاخرة والقصور التي غمرت المياه بدروماتها لتغرق كل محتوياتها من تشطيبات وتجهيزات وأثاث وأجهزة… وبال علي الذين ساقهم قدرهم إلي منتجعات الساحل الشرقي علي البحر الأحمر في العين السخنة امتدادا إلي الغردقة ليحاصروا هناك بعد إغلاق الطرق الرئيسية المتضررة من آثار السيول وليشاهدوا الرعب في اجتياح موجات الطمي الذي جرفته السيول من الجبال والمرتفعات في طريقها إلي البحر جارفة كل ما يقف في طريقها ومدمرة المباني والطرق.
ليست بلادنا من البلاد التي تحل بها الكوارث الطبيعية وتعصف بها… وليست ضمن مناطق الأعاصير العاتية التي نسمع عنها ونشاهدها في الأخبار, حيث يتم رصدها بالأقمار الصناعية ومتابعة تحركاتها وتحذير السكان منها وإجلاؤهم بعيدا عن مسارها… إنما كل ما حدث لا نلوم عليه إلا أنفسنا, لأن ما نتعرض له لا يرقي إلي معيار غضبة الطبيعة ولا يباغتنا دون سابق دراية… ما نتعرض له هو نتاج الجهل والتخلف والفوضي والانفلات في سلوكياتنا جميعا, تستوي في ذلك الدولة والمسئولون مع القادرين والمستثمرين, وإليكم بعض الأمثلة علي ذلك:
** طقس بلادنا المعتدل الجاف الذي ينظر إليه العالم علي أنه نعمة حولناه نحن بتراخينا وإهمالنا إلي نقمة… فبينما نري في سائر الدول التي يسودها طقس ممطر معظم العام طرقا مزودة بشبكات صرف مياه الأمطار تعمل بكفاءة ملفتة, تغاضينا نحن عن الالتزام الصارم بتوفير تلك الشبكات في طرقنا خاصة في الأحياء والمناطق العمرانية الجديدة, وتستوي في ذلك أجهزة الدولة مع المستثمرين الذين يشيدون المنتجعات الفاخرة المحاطة بأسوار, فإما تلك الشبكات غائبة وغير منفذة أصلا أو هي منفذة وغير مختبرة ومهملة ومتروكة تملؤها الأتربة والقاذورات طوال شهور العام حتي إذا نزل المطر افتضح أمرها وتبين انسدادها وعجزها عن صرفه.
** بالإضافة إلي ما سبق هناك حزمة من الأعذار التي نسمعها تبريرا لقصور بالوعات صرف المطر عن الوفاء بدورها ترقي إلي مرتبة الفضيحة… ومنها أن البالوعات تمت تغطيتها ودفنها أسفل آخر طبقة أسفلت أضيفت علي الطريق!!!… ومنها أن الميول التصميمية لسطح الطريق سواء عرضيا أو طوليا خاطئة ولا تؤدي إلي نقاط البالوعات!!!… ومنها أن ظاهرة المطبات الصناعية العشوائية -وهي الجريمة التي تنفرد بها مصر عن سائر دول العالم- تعوق وصول مياه الأمطار إلي البالوعات وتسبب تجمعاتها في الطرق!!!
** حتي اليوم لا ندري ما هو اللغز الهندسي المتسبب في انقطاع التيار الكهربائي عقب نزول المطر عن مرافق حيوية مثل مترو الأنفاق ومحطات الكهرباء… إننا نستنكر انقطاع التيار عن قرية معزولة أو عن عمارة سكنية ونعزو ذلك إلي خلل فني يلزم رصده وتداركه. أما أن ينقطع التيار عن خط من خطوط مترو الأنفاق ومحطات كهرباء رئيسية ونردد ذلك بمنتهي البساطة والاستسلام, فذلك إنما يفضح خللا في الإدارة وليس في خط المترو أو المحطات الكهربائية!!!
** لم يعد مقبولا عقب كل حادثة سيول تجتاح الطرق السريعة والساحلية أن نتلقي تصريحات المسئولين حول الحاجة إلي تدعيم مخرات السيول!!!… وكأن السيول ومخرات السيول ظاهرة حديثة تستدعي تكنولوجيا متقدمة للتعامل معها… وذلك في الحقيقة استخفاف بعقولنا لأن الكارثة ليست في السيول أو مخرات السيول, إنما الكارثة تكمن في عبث الإنسان -وهنا تستوي الدولة مع رأس المال الخاص- بمجاري السيول التي حفرتها الطبيعة من آلاف السنين ووضعه المنشآت والمرافق والطرق معترضة مساراتها دون تأمين مخرات السيول التي تسمح لها بالعبور دون اعتراض.
** لم يعد مقبولا أيضا أن نسمع صرخات القادرين والأثرياء عن الضرر والدمار الذي حاق بممتلكاتهم وقصورهم من جراء هطول الأمطار عليها وتدفق السيول في بدروماتها, وهم الغافلون عن قصور الطرق المحيطة بها عن صرف مياه الأمطار وقصور المباني نفسها عن الحماية ضد تسرب المياه من أسطحها أو إلي بدروماتها… وهي وسائل الحماية التقليدية التي تستلزمها المواصفات الهندسية في جميع المنشآت.
*** أخيرا لا يفوتني أن أسجل خاطرين مرتبطين بهذه الأزمة:
الأول: أرجو ألا نتهم هذه المرة الإعلام الأجنبي الذي قام بتغطية تبعات الأزمة بأنه إعلام متآمر علي مصر لا هم له سوي تشويه صورتها… ففي هذه الحالة تحديدا لا نلوم الإعلام الأجنبي بل نلوم أنفسنا.
والثاني: لا أستطيع إلا إبداء إعجابي الشديد بعبقرية الإنسان المصري الذي يبدع في السخرية من واقعه ويستطيع بقدرة عجيبة تحويل كل مصيبة إلي ضحكة… وأظن أن كلنا تلقينا ما أفرزه المصريون في هذا الخصوص علي شتي وسائل التواصل الاجتماعي!!!