أنا لِصّة طباشير
مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت
٢٤:
١٢
م +02:00 EET
الخميس ٣ مايو ٢٠١٨
فى طفولتي، كنت أرى معلّماتى بالمدرسة مثل ربّات الإغريق. أنيقاتٌ، حاسمات، ذوات معرفة لا تنتهى وعلم غير محدود.
«ميس سميحة»، معلّمة العلوم، هى «ربّة الطبيعة». تعرف مدارات النجوم والمجرّات، وأسرار الشمس والقمر. «ميس سوزان»، معلمة الحساب، كانت «ربّة الأرقام والمعادلات والهندسة الإقليدية». كأنها «إقليدس»، كتبت على باب أكاديميا «أفلاطون»: «مَن لا يعرف الرياضيات لا يدخل علينا.” «ميس راشيل» معلّمة الجغرافيا، كانت «ربّة المكان»، تعرف خطوط الطول والعرض وفروق التواقيت. «ميس أليس» معلمة التاريخ، كانت «ربّة الزمان»، تعرف أسرار الممالك والأمم والشعوب. «ميس سهام، وميس عايدة»، معلمتا العربية والإنجليزية، كانتا من «ربّات اللغة»، يعرفن أسرار الكلمات وخبيئة الرموز والعلامات. وأما «ميس نيّرة»، فهى «ربّة الموسيقى”.
كان منتهى حُلمى أن أغدو مثلهن حين أكبُر. «ربّة» من ربّات المعارف الساحرات. ولستُ أعرفُ كيف تغدو المعلمةُ معلمةً. طفلةً لا تدرى ما الكليات والتنسيق ووو.
المعلمةُ، بمجرد دخولها الفصل، وبعد أدائنا التحية، تتحول إلى السبورة وتمسك «الطبشورة»، وتبدأ فى الكتابة. أخبرنى عقلى الصغيرُ حينها أن مؤهلات المعلمة، حتى تغدو ربّةً أسطورية، هو: “حيازةُ بعض الطباشير”. بسيطة! سأداوم على مهمة يومية، تبدأ من طفولتى وتمتد حتى أكبر ويشتدُّ عودى النحيل ويزداد طولى لأغدو إلهة معرفة. سأبدأ منذ اليوم فى تجميع الطباشير، حتى إذا ما كبرتُ يكون لديّ رصيدٌ من الطباشير يؤهلنى لأغدو معلمة، أو ربّة إغريقية.
سألتُ أمى من أين يأتى المعلمون بالطباشير؟ أدهشها السؤالُ ولم تخبرنى بالحقيقة. قالت إنه شيء يخصُّ المعلمات، لا يُباع، ولا يُشترى! ربما تخشى أن أُلوّثَ البيت بالمسحوق الأبيض. سهرتُ أيامًا أفكّر فى مأساتي. كيف أحصل على الطباشير الذى سيحقق حلميّ العصيّ؟ ولم يعد أمامى إلا خوض عالم «الجريمة”.
أن��ظرُ انتهاء اليوم الدراسي، وخروج الرفاق من الفصل، ثم أبدًا فى جمع بقايا الطباشير الصغيرة التى تتخلّف على رف السبورة، وأدسّها فى جيب الماريول. وأحيانًا أتسلّل للفصول المجاروة لأسرق ما تبقّى على سبوراتها من طباشير.
أعود للبيت، فتعنّفنى أمى وهى تغيّر ملابسى فتجد جيوبى ملأى بالطباشير، ورذاذ الطبشور وقد لوّث النسيج. وتتوعّدنى بالعقاب إن فعلت هذا مجددًا، وهى لا تدرى أنها تحطّم حلمى الصغير، وأننى سأرتكب الجريمة يومًا بعد يوم. وكان عليّ أن أطوّر نفسى فى “عالم الجريمة”، وأغير فى التكتيك، وأنتقل إلى خطوة أكثر دهاءً. بدأتُ فى إخفاء الطباشير فى كيس الساندويتشات التى تُعدّها لى أمى فى الصباح. وكان هذا يكلّفنى أن ألتهم الساندوتشات حتى يخلو الكيسُ لحصيلة الغنيمة. هذا يسعد أمي. فكأنما ضربتُ عصفورين بحجر. فرحة ماما بتناولى طعامى تُلهيها عن التفتيش الدقيق فى حقيبة المدرسة، كعادتها. وبمجرد دخولى غرفتي، أخفى الكنز تحت السرير فى صندوق اللعب. وكلما زاد رصيدُ غنائمي، صار الحلم وشيك التحقق.
كبرتُ وتغيرت أحلامي! لم أدخل كلية التربية لأغدو معلمة. بل وجدتُ نفسى على مقاعد الرسم بقسم العمارة فى كلية الهندسة،. ثم وجدتُ نفسى كاتبةً وشاعرةً، ونسيتُ حلم طفولتي. أو لم أنسه أبدًا، بدليل عنوان بعض كتبي. لكن دهشتى بالطباشير لم تنته. مازلتُ أراه مادةً سحرية عصيّة على الفهم. هذا القلم الصغير الأبيض تمسكه المعلمة فى يدها، وترسم علامات مبهمة على السبورة، ثم ننظر نحن التلاميذ إلى تلك العلامات، بعدما تتجاور وتتشابك وتغدو رموزًا مفهومة، فنعرف ماذا يدور فى عقلها المثقف! كيف تتحول الأفكار الهيولية السائلة فى المخ البشري، إلى علامات ورموز (الحروف) مرسومة على لوح أسود؟ وحين تتشابك تلك العلامات، تغدو «كلمات» مفهومة، بمجرد أن يطالعها شخصٌ آخر.
كبرتُ وكبُر معى حبى للطباشير. وكان عليّ أن أُخلّد هذا الحب فى كتاب. لهذا أصدرتُ من ضمن كتبي، كتابين يسرقان «الطباشير”. “الكتابة بالطباشير” ٢٠٠٦ ويُعاد طباعته هذا العام عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب، و»الرسم بالطباشير» ٢٠٠٩.
شكرًا للطباشير الطيب الذى شكّل أحلام طفولتي، وشكرًا لفضيلة الاعتراف بجريمتى الصغيرة، حتى أتطّهر، وأعتذر لمَدرستى الجميلة، التى سرقتُ طباشيرها طويلا، وأعتذرُ لأمي.
نقلا عن المصرى اليوم