بقلم: محمود عزت
يمثل أسلوب "التجربة والخطأ" أحد الأساليب العلمية الناجحة في البحث العلمي، فليس على الباحث سوى اختبار فرض معين فينظر.. فإذا تحقق الفرض علميًا نجح في التوصل إلى حقيقة علمية معينة تظل صحيحة وقائمة إلى أن ينجح باحث آخر في وقت لاحق من افتراض فرض علمي جديد فيهدم ما سبق من اعتباره حقيقة علمية بحقيقة أحدث وأدق على أقل تقدير.. وهكذا فللبحث العلمي أصول ومبادئ يحترمها المجتمع المتحضر ويتقدم بها، فالعبرة بالتجربة -نجحت أو لم تنجح-.
وإن كان هذا هو الأسلوب المفيد والناجح في مجال العلوم الطبيعية فليس الأمر كذلك في مجال العلوم الإنسانية، فليست التجربة ولا ينبغي لها هي أسلوب البحث، فليس من الجائز أن نجعل الإنسان محلاً أو موضوعًا لتجربة ما ككيان مادي بأن نَصّب عليه فكرة الحماس أو التعاون أو المحبة وننظر كيف يتغير حاله أو سلوكه، فإذا تحقق الفرض في ذهن الباحث الاجتماعي كان فرضه سليمًا وإلا لفسد الفرض!
والواقع أن شيئًا قريبًا من هذا يحدث في حياتنا التعليمية أو التربوية، فهناك جيل كامل من أبنائنا أو أطفالنا يتعلمون في مدارسنا يتعرض بعضهم للتجارب كالفئران التي تستخدم في مراكز الأبحاث والتي تظهر بعض الأصوات بين الفينة والأخرى لتنادي بأن استغلال الحيوانات عمومًا في التجارب العلمية يمس المشاعر الإنسانية في الصميم!
أما هؤلاء التلاميذ.. فنحن نفرض عليهم ظروفا تفوق قدراتهم فوق ما يعانوه من ظروف اقتصادية واجتماعية بل وثقافية قاسية!
فنجعلهم –مع الأسف الشديد- فئران لتجارب أفكار مَن يتوّلون مسئولية التربية والتعليم.
والأمثلة للتجارب على هؤلاء الفئران كثيرة ومتعددة، فلقد تفتق ذهن بعض المسئولين عن التعليم في بلادنا عن ضرورة تخفيض عدد سنوات التعليم بافتراض أن التلميذ لا ينبغي أن يقضي أكثر من 11 عامًا في التعليم قبل الجامعي.
إذًا فلتلغي السنة السادسة من المرحلة الابتدائية ويترتب ما يترتب بأن يصبح الأخ الأصغر بجوار شقيقه الذي يفوقه عمرًا في ذات الفصل الدراسي، ويتم إلقاء الكتب التي كانت مقررة على الفصل السادس إلى القمامة، ويتم توزيع مناهجها على الفصول السابقة والتالية حتى يكاد عقل التلميذ المسكين ينفجر من كم المعلومات التي يريدون حشرها فيه! فضلاً عن حمله حقيبة مملوءة عن أخرها على ظهره فينحني وينوء بحمله ليصبح كالحمار يحمل أسفارًا وليس فقط فأرًا للتجارب!
وعلى حين غفلة يتغيّر المسئول ويؤتي بمسئول جديد ويجد أن إلغاء السنة السادسة كانت خطئًا بشعًا أرتكبه زميله المسئول السابق في حق البشرية والطفولة البريئة وهي خطوة –على حد تعبيره– تعارض ما تلقاه من علم في الدول المتقدمة التي حصل منها على الدكتوراه.. وما خابره من أفكار في هذه الدول! ويستند في شجيه لفكر سلفه إلى مبادئ علمية ما يستحق معها سلفه أقصى العقوبة!
وتعود السنة السادسة مرة أخرى ليتعقد الأمر أكثر وهنا يخسر الطفل سنة من عمره الصغير لسوء حظه الذي جعله في الصف الخامس الابتدائي وكان يستعد للصف الأول من المرحلة الإعدادية!
ويترتب ما يترتب.. فلتعود المناهج التي ألغيت من قبل وتلقي ما يخالفها في سلة القمامة ويتنافس التربويون على تأليف كتب جديدة معقدة لا تجد من يقوم بتدريسها للفئران –أعتذر أقصد التلاميذ محل التجربة-! والأحرى أن نسميهم "ضحايا التجارب التربوية"... وبغض النظر عن كل ما يعج به النظام التعليمي بمشاكل تتعلق باليوم الدراسي (قصره أو طوله، جدواه من عدمه) المعلم وما يعانيه كإنسان قبل أن يكون معلمًا.. كأب وزوج...
وقد رأينا أيضًا –على سبيل المثال لا الحصر– ذات الشيء يحدث على استحياء في الثانوية العامة أو كما تسمى البعبع للأطفال –إذا جاز اعتبارهم أطفالاً– وعمومًا هم أطفال بحكم قانون حقوق الطفل، فبعد أن كانت الثانوية العامة مرحلة واحدة .. أصبحت من مرحلتين وعلى كل ما كان تحمله الثانوية العامة ذات المرحلة الواحدة من مثالب إلا أنها كانت أكثر رأفة بالطالب بل وذويه..... وإليكم بعض التفاصيل:
فنظام الثانوية العامة ذات العامين يحمل الطلبة من ألوان العذاب ما لا يجب أن يطيقونه، فهم يستمرون في الاستذكار لمدة عامين (شتاءً وصيفًا) فليس هناك أي فكرة للحصول على أجازة طوالهما ليتثنى لهم التحصيل ثم الحصول على أعلى الدرجات التي تبلغ أحيانًا المائة بالمائة!
وهو الأمر الذي يلتزم فيه أولياء الأمور بالتعاقد سرًا أو علنًا –ليس بهم – مع معلمين لإعطاء أولادهم دروسًا خصوصية في كل المواد مع ما يمثله هذا من أعباء مالية شديدة الوطأة عليهم يستدينون لسدادها..
وإلا فكيف بوسع المعلم المكلف قانونا بالتدريس بالمدارس أن يشرح الدروس للفصل الذي يحوي تسعين تلميذًا؟
وإذا افترضنا جدلاً أنه يريد ويرغب أن يهتم بكل التلاميذ ويعطي لكل تلميذ دقيقة واحدة –ستون ثانية– فهو يحتاج إلى تسعين دقيقة، بصرف النظر عن شرح الدرس ذاته!
فالبديل الأوحد طبقًا لنظام الثانوية العامة ذات العامين العجاف هو أن يذهب التلاميذ وذويهم إلى الجحيم.. جحيم "الديون" الخصوصية!
لقد أضحىَ الأمر خطيرًا للغاية.. فلقد انقسم التعليم في مصر إلى قسمين رئيسيين.
القسم الأول: هو ما يتم تدريسه في المداس الحكومية طبقًا لنظام التعليم الوطني، أما القسم الآخر فهو: التعليم في المدارس الأجنبية طبقًا لنظم التعليم للدولة التي تتبعها هذه المدارس.. فهذه تتبع لوزارة التعليم الوطني لفرنسا، وتلك لوزارة التعليم بالولايات المتحدة، وثالثة لوزارة التعليم في ألمانيا! وهي نظم تعليمية علمية ذات أصول تربوية تحقق تخرج طالب ذو عقلية علمية نقدية خلاقة تفيد المجتمع..
ونجد أن أولياء الأمور حتى وإن كانوا من محدودي الدخل.. يهرعون لإلحاق أبنائهم بهذه المدارس كعلامة من علامات الوجاهة الاجتماعية، وكمعيار لنجاح أبوتهم واستثمار إنساني يحقق النفع للأبناء! كما يهرب هؤلاء الإباء من نظامنا التعليمي المتردد!
ولا يبقى في المدارس الحكومية –المجانية اسمًا وفعلاً– إلا ضحايا التجارب المساكين الذين لا يملك أولياء أمورهم سوى القبول بالقضاء والقدر!
دبلوماسي مصري