عندما كانت أجرة الإصلاح الموت مسمومًا
مقالات مختارة | مدحت بشاى
الجمعة ٢٧ ابريل ٢٠١٨
قد تكون هناك حالة إجماع ما على أن أى مطالبات للمؤسسات الدينية لإصلاح بنيتها الأساسية أو الخطاب الصادر عنها- لا بد أن تبدأ بإقرار سلطة المقدس فيما هو عقائدى، ثم تأتى أشكال الإصلاح المتعلقة والمرتبطة بجوانب تطور الإنسان اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا.
تاريخيًا، فإن الحديث عن مصطلح وفكرة الإصلاح الدّينى عُرف للمرة الأولى فى القرن الـ«١٦» الميلادى، حين نادى به القس الألمانى مارتن لوثر، بهدف ثورى لقيام حركة إصلاحية دينية، إذ قام بتعليق ٩٥ رسالة دينية على جدار الكنيسة فى ألمانيا، وأرسل نسخًا من هذه الرسائل، التى يحتج فيها على فساد الكنيسة، إلى باقى الكنائس الأخرى، ولقد كانت تلك الرسائل إعلانًا تاريخيًا عن بدء الحركة الإصلاحية البروتستانتية، التى أحدثت انشطارًا فى الكنيسة الكاثوليكية التى يتزعمها بابا الفاتيكان فى روما.
عبر تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، يتقدم الصفوف جماعة أو تيار أو حركة ائتلافية أو مفكرون علمانيون بشكل فردى، أو عناصر من رجال «الإكليروس» أصحاب رؤى تنويرية تقدمية بمشاريع إصلاحية وتنويرية، وأرى أن البابا كيرلس الرابع يمثل النموذج الأروع فى مجال العمل المستمر، من أجل إصلاح مؤسسته ومجتمعه ووطنه ومسيرة تابعيه، دون ترديد الكلام الغريب أن الإقدام على الفعل الإصلاحى ومشاريعه معناه أن هناك إقرارًا بوجود حالة فساد فى المؤسسة، وتكون نتيجة رفض الإصلاح حالة موت أو عدو فى العتمة بسبب التعالى غير المبرر!!.. منذ حوالى ٧٥ سنة كتب الرائع «كامل يوسف غبريال» مقالًا يوثق فيه رحلة ذلك البطريرك الوطنى العظيم كيرلس الرابع.. هو البابا العاشر بعد المائة من بابوات الكرسى المرقسى.. أُطلق عليه لقب «أبوالإصلاح»، ونورد هنا شيئًا من سيرته وإصلاحاته التى من أجلها لُقب بجدارة «بابا الإصلاح». جاء عنه فى كتاب «الخطط التوفيقية» جـ ٦ ما نصه «إن حالة الإدارة البطريركية من جهة سياسة الإكليروس ورعاية الأمة ونحو ذلك، قد امتازت فى مدته كثيرًا جدًا عن السابق، ولقد كان هذا البطريرك حاذقًا، نبيهًا، طلق اللسان، عارفًا بالتاريخ مدققًا فى علوم الدين المسيحى، محافظًا على حدود المذهب، ماقتًا للرشوة، غير مكترث بالمال، قائمًا بأعباء وظيفته، ولولا تعجله وإقدامه على تنفيذ بعض المشروعات التى تحتاج إلى روية لعجز القلم عن تحبير صفاته».
ولد هذا البابا العظيم فى سنة ١٨١٦ ميلادية، وترهبن وهو فى سن الثانية والعشرين فى دير القديس الأنبا أنطونيوس.. وتولى رئاسة هذا الدير بعد سنتين من دخوله فيه، أى وهو فى سن الرابعة والعشرين.
رغبة منه فى نشر العلم بين أبناء البلدة القريبة من الدير، أنشأ كُتّابًا فى بوش لتعليم الصغار اللغتين العربية والقبطية، ولميله الطبيعى فى تقريب وجهات النظر بين عنصرى الأمة. خرج يومًا لرد زيارة من زاروه فى عزبة الدير، فتعمد المرور من الطريق الذى فيه الجامع الوحيد بالبلدة وكان متهدمًا.. فدعا شيوخ البلدة وأنهض همتهم لإصلاحه وساعدهم ماليًا، الأمر الذى أدى إلى معاونة البلدة كلها له فى ترميم سور الدير بالعزبة.. وما إن رُسم مطرانًا، حتى بدأ بزيارة معارضيه وأضداده فى بيوتهم، حتى يلين قلوبهم، وسعى جاهدًا لتهدئة الحالة وجمع الشمل، ثم باع كثيرًا من البيوت القديمة حول الدار البطريركية، وشرع فى بناء المدرسة القبطية الكبرى. وكان بناء هذه المدرسة سببًا فى إجماع الكل على تزكيته لمنصب البابوية، فرُسم بطريركًا باسم كيرلس الرابع فى ١٧ يونيو سنة ١٨٥٤م، ومن اللحظة الأولى لرسامته بطريركًا سعى جاهدًا فى وضع آماله الكبرى فى الإصلاح موضع التنفيذ.
ثم قام بإنشاء المدرسة المرقسية الكبرى التى ابتدأ فى بنائها وهو مطران للقاهرة، وعُنِى باختيار أساتذتها ومدرسيها، وأدخل فيها تعليم اللغات الحية، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.. ولما شعر أن الكتب النفيسة التى لا يوجد منها غير صورة واحدة إذا ضاعت أو بليت، فإن ذلك يصيب الكنيسة بخسارة جسيمة فى تراثها وأمجادها وتاريخها العظيم، فكر جديًا فى شراء مطبعة من الخارج لطبع هذه الكتب فى مصر تحت إشرافه، ثم كان شروعه فى توحيد الكنائس الأرثوذكسية، وكان من آماله الكبرى إزالة الفوارق البسيطة بينها، ومهّد لذلك بعدة اجتماعات بينه وبين رؤساء الطوائف الأرثوذكسية الأجنبية، وكان أن قام بدعوة بطاركة الروم والأرمن الأرثوذكس لرحلة إلى دير القديس أنطونيوس، فتحرك الإنجليز مرة أخرى، ولم ينسوا بعد طردهم من الحبشة، ووشوا به لدى الوالى، الذى دس له السم عن طريق طبيبه الخاص فى الدواء أثناء مرضه، وكأن أجرة الإصلاح فى العالم الشرير هى الموت بالسّم!.
نقلا عن الدستور