ذكّرتنى احتفالات وزارة التربية والتعليم بافتتاح المدارس اليابانية فى مصر ببلدياتنا خليل المصدى الذى قرر، تجنباً للخجل، تغيير اسمه إلى حنفى المصدى! تغير الشكل والمظهر، ولكن ظل الصدأ موجوداً. كنت أود أن تكون المدارس اليابانية نواة تغيير فكر وثقافة وليس مجرد تغيير مبنى أو لافتة، كنت أرغب فى ثورة على السائد لا ترسيخاً وتمكيناً له، قرأت الإعلان الذى نشرته الوزارة للوظائف والتعيينات فى المدارس اليابانية لمرحلة رياض الأطفال وأولى ابتدائى فوجدت على رأس القائمة طلبات تعيين مدرس دين إسلامى ومدرس دين مسيحى، ما هو وجه الإلحاح فى تعيين مدرس دين لأطفال بالكاد يتحكمون فى المثانة والقولون لقضاء الحاجة ومتعتهم الكبرى فى اللعب والتلوين والخيال؟!
كنت أتصور أن تكون المدارس اليابانية بداية تدريس كتاب الأخلاق المشترك الذى أثناء تدريسه لا يُطرد المسيحى من الفصل لكى يأخذ الدرس فى الحوش، وفى حصته لا ينمّى المدرس مشاعر التوجس والتربص والكراهية للآخر، فاليابان لم تنمُ حضارياً بالتكنولوجيا فقط، ولكنها نمت وتقدمت وتحملت أهوال الحرب بالأخلاق اليابانية التى جعلت العالم ينبهر بهم ويصفهم بكوكب اليابان! لا بد أن نعترف بأن الأخلاق كانت قبل الأديان، وهناك مجتمعات لا تعرف الأديان الإبراهيمية وأخلاق أفرادها أفضل بكثير من الدول التى تدّعى أنها متدينة بطبعها، وضمائرهم أكثر شفافية وصدقاً وأقل زيفاً من مجتمعات كثيرة تعيش ازدواجية مقيتة بطقوس أكثر وزيف أضخم وكذب أفدح وعمل ووضوح والتزام أقل، فالمدارس اليابانية التى لا تعرف مدرّسى الدين هى التى خرّجت لنا عمالاً يتظاهرون اعتراضاً على الإجازات، ومدارسنا الوهابية العفيفة الشريفة، بكل جحافل مدرّسى الدين بداخلها، هى التى خرّجت العامل والموظف المصرى الذى يعمل 27 دقيقة فى اليوم وما زال يبحث عن ضم إجازة عيد عروسة النيل لقائمة أطول إجازات فى العالم! لم أسمع عن طلبات توظيف أمناء معامل من خريجى كليات العلوم يحصلون على أعلى راتب فى المدرسة كإجراء ثورى من الوزير، فهذا الشخص هو ما نحتاجه للحاق بقطار الحضارة والحداثة الذى غادر المحطة منذ زمن زحف السلفيين على عقول المصريين، معمل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا هو ما جعل اليابان تتقدم وليس مدرّس الدين أو كتّاب سيدنا، فالمدرسة اليابانية التى ستُقحم النصوص الدينية فى اللغة العربية وتفرض على معتنقى دين آخر حفظها هى مدرسة تستحق لقب «مدرسة أم اليابانيين» بامتياز، المدرسة اليابانية التى ستقوم بتدريس كتاب عقبة بن نافع وقصة واإسلاماه ويحفظ فيها الطلبة مشهد الطفل الذى يقطع رأس الرجل لإثبات بطولته ويصبح كمّ الدماء فى مخيلته أكثر من كمّ ابتسامات البهجة وزغاريد الفرح وشقاوة اللعب البرىء المناسبة لسنّه، تلك المدرسة ليست يابانية وإنما طالبانية تحمل لافتة طوكيو! فى النهاية، وبتلك الأفكار المحنّطة، ستتحول المدارس اليابانية إلى مدرسة بنى قينقاع الابتدائية والتوحيد والنور الإعدادية وتورا بورا الثانوية.
ليست بحصة الجودو أو الكاراتيه تصبح المدرسة يابانية يا معالى الوزير، وليس بارتداء الكيمونو فى احتفالات التخرج نكون قد قلدنا اليابان، ولكن بالثورة الفكرية والثقافية والتفكير خارج الصندوق المغلق والنعش المصمت وبعقل مختلف عن عقول المومياوات المحنّطة. المدارس اليابانية فرصة لكى نفكر بحرية أوسع وعقل أرحب، ليس معنى ذلك نفى الدين، وإلا فكيف عرف اليابانى الذى يعتنق الشنتو أو البوذية أو أى ديانة أخرى تفاصيل ديانته؟ عرفها من مصادر أخرى، وكذلك كل الدول العلمانية، المتدين فيها يحصل على معارفه الدينية من دور عبادته ومن منزله وبنفسه ودون إجبار أو تعليب مسبق، فالمدرسة هى مكان صناعة الوجدان الوطنى المشترك وليست محطة قطار الجنة. لديك، معالى الوزير، مليون مدرسة فيها حصص الدين ومدرسو الدين، على عينى وراسى ولهم كل الاحترام، لكن لنجرب التجربة اليابانية بمفهومها الواسع وأخلاقياتها المستوعبة لكل الاختلافات، ليس معنى هذا تحويل الطلبة إلى جماعات بوذية، ولكننا سنحولهم إلى جماعات إنسانية لهم أخلاق اليابانى السمحة المتسامحة، لن نمطّ ونفرد عيونهم لتشبه عيون اليابانيين الضيقة، ولكننا سنفتح عيونهم على الفضول والشغف اليابانى بالعلم وآفاقه المتسعة.. ليس هكذا تورد الإبل، وليس هكذا تُبنى المدارس اليابانية وتُستلهم التجربة اليابانية.
نقلا عن الوطن