سبع ساعات في بغداد!
٣٥:
١٠
ص +02:00 EET
الاثنين ٩ ابريل ٢٠١٨
بدت المدينة كالحة، فيما تسابقت العربات المصفحة تفتح الطرقات أمام الموكب.
كان سائق السيارة التي تقلنا مع مجموعة الصحفيين المرافقين لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، منسجما مع أغنية لا مساحة للفرح فيها. يلوك العلك، يدخن، ويتحدث بالنقال.
تظهر المباني مغبرة على جانبي طريق سريع، ينقل ضيوف بغداد الرسميين إلى قلب العاصمة.
لم يبق من ذاكرة المدينة التي غادرتها صيف العام 1978؛ غير صور تومض مصحوبة بالتحسر على ضياع العمر.
كانت بغداد تستيقظ على قيظ ندي ذلك اليوم، حين طرت فجرا على متن طائرة الخطوط الجوية العراقية، الأجمل تصميما، بين شركات الطيران العربية والعالمية آنذاك، فيما زوار الفجر يقتحمون البيوت بحثا عن معارضي صدام حسين.
لم أتصور يوما أني سأعود إلى بغداد، بعد 36 عاما، لسبع ساعات فقط، وعلى متن الطائرة الخاصة بوزير خارجية روسيا، التي حطت وأقلعت، من مطار لم ألحظ من معالمه غير صالة استقبال لا تبدو وثيرة، قياسا بما كان تلفزيون بغداد قبل الاحتلال، يعرض صور الصالات الفخمة.
خلف الجدران العالية، للمنطقة الخضراء، بدا القصر الذي استقبل فيه الوزير لافروف، كئيبا، موحشا، خلافا للصور المبهرة التي كانت تظهر عليها القصور الرئاسية، ذائعة الصيت، في لعبة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل.
لم يستغرق لقاء لافروف مع رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي أكثر من ساعة، انتظر خلالها الوفد الصحفي المرافق في الباص، بطلب صارم من الحرس:
عبرنا المدينة الصاخبة، خانقة الهواء، المكفهرة بصور ولافتات سوداء، مسرعين. وحين علمت أننا دخلنا شارع الأميرات في المنصور، متجهين نحو السفارة الروسية، لفني حزن عميق.
الشارع الذي عشت صباي فيه، متسللا بين أشجاره المورقة، بحثا عن قبلة في الخفاء، عابقا بنسائم الرازقي والشبوي، صار مكبا للنفايات.
مكثت في بغداد سبع ساعات، يوم 20 فبراير عام 2014. رايتها مثخنة بجراح الاحتلال الذي تمر اليوم ذكراه الخامسة عشرة.
حين سقطت بغداد في التاسع من أبريل 2003، تقاطر العراقيون المنفيون إلى الوطن من شتى المعابر، والمنافذ الحدودية، بعضهم دخل البلاد مع المحتلين، والغالبية، شدت رحالها على أمل العودة النهائية بعد غربة طويلة؛ عاش العراق خلالها حروبا مدمرة، انتهت أخيرا باحتلاله.
وعلى مدى عقد ونصف العقد، بعد الاحتلال، تتالت المصائب والمحن والكوارث على العراقيين، وفقدت البلاد، كما في الحقبة الدكتاتورية، مئات الألوف من أبنائها، بسبب الإرهاب، والخطف، والتغييب في السجون والإعدامات العشوائية.
وصار بعض العراقيين يترحمون على الماضي الدموي الذي بدا أرحم من الحاضر المرعب بعد السقوط .
دخل المحتلون بغداد مع عملائهم، زرعوا الفتن، وحصد العراقيون الفساد، والفاقة، والأمراض، وفقدان الأمن وأبسط الخدمات.
وحتى بعد أن تكشفت الخديعة الكبرى حول امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، لم يعتذر الغزاة، ولم يعوضوا العراقيين عن خسائرهم اليومية الفادحة، بل إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يطالب العراق بثمن "تحريره من صدام حسين". ويساوم على مبلغ يصل إلى أكثر من ترليون دولار!
وفيما انشغل العراقيون، بانتخاب حكومات تعاقبت على المنطقة الخضراء، دون أن تحقق لهم أبسط المطالب، تفشى الفساد، وفرّخ الاحتلال إرهاب "داعش"، وقبله القاعدة، ولا يعلم أحد ماذا يعدون للعراق بعدهما.
لم تحقق حكومات ما بعد الاحتلال، أي إنجاز في العراق الذي يحتل آخر المراتب المتدنية، في الصحة والتعليم والبيئة والخدمات، ويتصدر قائمة أكثر الدول فسادا في العالم.
ورغم المآسي المتلاحقة، حافظ العراقيون على حيويتهم، وتبرز بين أنقاض البلد المهدم، غرانيق المجتمع المدني، ويبذل المخلصون ما بوسعهم لأحداث التغيير، والقضاء على نظام اللصوصية المنظمة.
عقد ونصف العقد مر على احتلال العراق، لم يغمض للعراقيين جفن بفعل توالي المصائب. ولم تغمض أيضا جفون المتربصين ببلد كان في الماضي القريب، أنشودة على كل لسان، يسحر اسمه عشاق الأساطير، وتنبت في جباله بكردستان، شجرة ثمرتها حلوة كالشهد يسمونها "من السما"!
الكلمات المتعلقة